مصر القلب النابض للأمة العربية، مصر وقود الأمة وشعلتها الملتهبة، مصر التاريخ والحضارة، مصر بلد التسعين مليون عربي الذي يُرعب الصهاينة والذي لطالما أرقهم وكان شوكة في حلق الكيان الغاصب، مصر هي الدولة العربية التي أذلت كبرياء الصهاينة، فيوم كان على رأس السلطة في مصر أسود تزأر كان زئيرهم يضج نوم الغرب بأسره.
يوم كان في مصر قادة كان واجب على الآخرين السمع والطاعة، ويوم كان في مصر أسود كان في عديد من الدول العربية خرفان، مصر الفراعنة ومصر الأيوبيون ومصر المماليك ومصر العروبة ومصر الإسلام ومصر عبد الناصر ومصر الإخوان، مصر التي يشهد التاريخ أنها وقفت بمفردها في وجه عدوان ثلاثي شنّته فرنسا وبريطانيا والصهاينة.
مصر المماليك، مصر المظفر قطز والظاهر بيبرس، ومصر العز بن عبد السلام التي ردت جحافل التتار المتوحشين يجرون أذيال هزيمتهم، مصر الحضارة اليوم يقودها رئيس بلا جدارة تارة يتسول من الإمارات وأخرى من السعودية، ويشترك معه في خط سيره رجل دين يحاول أن يضفي على نظامه شرعية هي أقرب إلى الزيف وهو “علي جمعة” الذي أراد أن يكون مثل العز بن عبد السلام ولكن يا خيبة المسعى.
في زيارتي التي دامت شهرين إلى جمهورية مصر العربية والتي تركزت أغلبها على القاهرة قادتني قدماي إلى زيارة مواقع جعلتني أقف على تاريخ وحضارة أم الدنيا وأقارنها بالتعاسة التي حلت بالبلاد في ظل حكم رئيس الانقلاب.
كنت أتجول بالقاهرة حتى أخذتني قدماي إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي، فوجدتني أجوب مسالكها وغرفها، أُصلي بجامعها وأُلقي نظرة على سجنها، قلعة شامخة تشهد على عظمة التاريخ زادها جمالاً المتحف القومي العسكري ومتحف الشرطة، متحفان يحاكيان الزمان ويقدمان للزائر صورة مستفاضة عن تاريخ البلاد وحضارتها.
ثم حملتني قدماي إلى “قاهرة المعز” حيث جامع القلاوون الشامخ رغم أنه من العهد المملوكي، حيث بُني في عهد الملك المنصور قلاوون، ثم وطأت قدماي جامع الحاكم بأمر الله المعز لدين الله الفاطمي، مدينة عتيقة تحاكي الزمان وتشهد على عظمة التاريخ والأمم التي مرت بأرض الكنانة.
ومن هناك عرجت على المنطقة التي كان يقطنها آخر سلاطين المماليك والتي يسميها المصريون “الغورية” نسبة إلى الأشرف أبو النصر قانصوه من بيبردي الغوري الجركسي وهو آخر سلطان من المماليك البرجية الستة والعشرين، له قصر شاهق قبالة حي المعز لدين الله الفاطمي وعلى مقربة من خان الخليلي.
حين وقفت على أثارهم أدركت كم كان العرب عظامًا وكيف أنهم لم يتركوا بصمتهم في التاريخ من فراغ، وعندما ألمح حكام العرب اليوم وفي مقدمتهم رئيس الانقلاب “عبد الفتاح السيسي” أُدرك كيف أن جميع الأمم تقدمت وتأخر العرب.
ففي الوقت الذي يُهرول فيه زعماء أغلب الدول إلى الوصول إلى منصب الرئاسة بالانتخاب أسرع السيسي نحو الانقلاب، وعوض أن تكون مصر قائدة ركب المنطقة نحو الديمقراطية، أصبحت مصر من تجر عربة الحادثة والتداول السلمي على السلطة إلى مربع الانقلابات والمؤامرات، وهذا لا يعني البتة أن من يؤمن بنتائج الانتخابات يكون نصيرًا لحركة الإخوان.
بل الأدهى والأمر أني حين كنت أستمع لخطابات السيسي أستمع لأفواه المصريين تردد بأنه أعجز من أن يصنع حاضرًا مزدهرًا لمصر أو أن يترك بصمته في تاريخ البلاد، ويقول المصريون إن الرئيس السابق حسني مبارك ورغم فساد عائلته سيشهد له التاريخ بأنه شارك في حرب التحرير وأنه شغل نائبًا لأحد أذكى الرؤساء الذين قادوا مصر إنه “الثعلب أنور السادات”، فحسني مبارك لم يعلن نفسه مشيرًا دون أن يشارك في حرب، ويضيف المصريون بأنه لم يفر من البلاد مثلما فعل الرئيس التونسي وبالتالي بقي مبارك وفيًا لعقيدة الجيش حتى في أسوء الحالات.
كنت أحاول التقاط الكلمات من أفواه المصريين فالعديد يتحاشى الحديث في السياسة خوفًا من مخبري النظام، والقليلون الذين لم يخافوا كانوا يقولون إن التاريخ سيذكر السيسي بأسوء العبارات، كيف لا وهو الذي قتل الساجدين في صلاة الفجر وهو الذي أحرق أبناء شعبه ولم يكتف بذلك بل اغتصب حتى رتبة المشير التي لم يستحقها يومًا؛ فأصبح يوصف لدى المصريين بأنه غير جدير برئاسة جمهورية مصر العربية، فهو رئيس بلا جدارة ليس لأنه وصل الرئاسة بانقلاب عسكري فحسب، بل لأنه فشل في إعطاء صورة مشرفة عن المصريين.
كنت في مصر أجوب الشوارع وأتحدث إلى الناس وأسأل عن السيسي وتختلف الإجابات بين رئيس “كويس” ورئيس “عبيط ، فأما من يراه كويس فهم في الغالب فلول نظام مبارك وبعض الذين سيطر الإعلام على عقولهم، كيف لا وأنا أرى تقريبًا كل يوم ما يقارب عن عشر صحف تمجد القائد الفذ وابن مصر البار وتنادي بقتل الإخوان وذبحهم.
وفي مصر أدركت زيارة السيسي لإيطاليا وفرنسا وكيف تصرف رئيس الوزراء الإيطالي في ماتيو رينزي في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالسيسي، فالرجل تارة يستخدم الجوال وتارة يضع السماعات ومرة أخرى يتجاهل السيسي وينظر خلفه، أما في فرنسا فقد تحدث الإعلام الفرنسي عن مرافق السيسي الذي أبى إلا أن يكون معه داخل قصر الشونزيليزيه محطمًا البروتكول؛ ما دفع الإعلام بتسميته رأس البغل.
موقفان يصوران مدى تراجع الدبلوماسية المصرية في عهد رئيس يدرك الغرب والعالم بأسره بأنه رئيس انقلاب وأنه لا يملك حنكة ولا دهاءً سياسيًا، وأنه لولا الدبابة والعنف ما كان ليكون رئيس أكبر دولة عربية.