ذكرنا في المقال الماضي كيف كانت بداية الاحتكاك العلمي بين المسلمين والغرب، وذكرنا أن حركة الترجمة إلى العربية أثمرت تعرفًا على الغرب في مجالات علمية عدة، ثم أثمرت الحركة العلمية للحضارة الإسلامية فروعًا جديدة في المجالات القائمة كما ابتكرت مجالات علوم جديدة.
وما يهمنا في سياق التأريخ لاتصال المسلمين بالغرب [1] هو ما أضافه هذا الاحتكاك العلمي من المعرفة بالغرب.. فنضرب لذلك بعض الأمثلة.
1. الجغرافيا
ففي الجغرافيا نجد ذكرًا للغرب (الروم) منذ أقدم الكتب التي وصلت إلينا في هذا المجال، فهذا ابن خرداذبه (ت نحو 280هـ) – وكان عاملاً على البريد، ووضع كتابه كدليل لهذه الخدمة- يذكر وصفًا لبلاد الروم ومسافات طرقها المشهورة وبعض تراتيبها الإدارية ومواردها الاقتصادية ورسوم البلاط البيزنطي وملابس الإمبراطور، وأشهر جزر البحر المتوسط، ووصل إلى وصف روما وعمارتها وبلاد الفرنج (فرنسا)، حتى يصل إلى شمال شبه الجزيرة الإيبرية ويسمي قومها “الأبر” الذين يعرفون في الكتابات الإسلامية بالجلالقة [2].
ثم تتراكم المعرفة فتزيد وتتعمق تدريجيًا، فنجد ابن رسته (ت نحو 300هـ) يتحدث عن جزر بريطانيا التي تقع في المحيط إلى الشمال من بلاد الإفرنج [3]، ثم يأتي المسعودي (ت 346هـ) بأول إشارة عن وجود أمريكا خلف المحيط وكيف أن بعض الأندلسيين غامروا وركبوا البحر فعانوا أهوال الذهاب والإياب واكتشفوا أرضًا خلف المحيط [4]، ويزيد في التفاصيل التي تصف الغرب عن سابقيه، ويتحدث عن الخلاف الفرنجي الإسباني وعن عاصمة الفرنجة بريزة (باريس) واجتماعهم على ملك واحد، بخلاف الجلالقة الذين وإن كانوا أشد من الفرنجة إلا أنهم قبائل مفترقة [5].
ثم تتوسع مؤلفات الجغرافيا وتزيد التفاصيل والضبط والتصحيح مع مرور الزمن، حتى تبلغ آفاقًا جديدة مع الإدريسي صاحب أول خريطة للعالم، وتبدو فيها أوروبا المعروفة لنا بدقة مدهشة بالنسبة إلى زمنهم، ثم تبلغ المعرفة بالغرب سعة وعمقًا وغزارة جديدة مع ياقوت الحموي في موسوعته “معجم البلدان”، وفيها قام بعمل نقدي ممتاز لروايات من سبقوه حتى وإن أثبتها، وأحيانًا لم يتسع نقده لإيرادها كلها فاختصرها أو أعرض عنها [6].
وما يزال النشاط العلمي مستمرًا حتى يُختتم بكتاب “بحرية” وخرائط العالم الجديد للبحار وقائد الأسطول العثماني والجغرافي بيري ريس، وهي الإنتاجات التي بلغت حدًا مذهلاً في دقتها، حتى إن خرائط العالم الجديد تمثل إلى اللحظة لغزًا علميًا لا يُدرى كيف توصل إليه؛ مما دفع بعض المؤلفين إلى تفسيرات غير علمية تفترض الحصول على هذه المعلومات من أطباق طائرة وكائنات من الفضاء [7].
2. التاريخ
وقد احتوت كتب الجغرافيا والبلدان والرحلات ما هو من شأن التاريخ، كما انفردت كتب التاريخ بما هو من شأنها وإن لم تخلُ من الجغرافيا كذلك، وصار من عادة التأليف في الموسوعات التاريخية أن تبدأ بتاريخ العالم قبل الإسلام؛ فيمرّ المؤرخ على قصص ملوك اليونان – وأشهرهم الإسكندر المقدوني- ثم قصة عيسى عليه السلام ثم سيرة ملوك الروم.
وفرق المسلمون مبكرًا بين أجناس الروم، ونقلنا فيما سبق نصوصًا تذكر الصقالبة والبلغار والأبر، ومع الحروب الصليبية بدأ يظهر التفريق واضحًا في الكتابات الإسلامية بين “الفرنج” والإنجليز؛ فقيل عنهم: الإنكتار، الإنكلتير، ويشيع في الكتابات الأندلسية الفصل بين الفرنجة والألمان (اللّمان، اللومان)، والفصل بين هؤلاء وأهل الشمال (النورمان، الفايكنج)، وإن كان الجميع مشمولاً بلفظ الفرنج إذا المؤرخ لم يُفصل.
ويعتبر جامع التواريخ الذي ألفه رشيد الدين الهمداني للسلطان المغولي قازان خان، أدق ما كتب في تاريخ أوروبا، وهو عمل كبير شمل ضمن ما شمل تاريخ أوروبا، ولم يكتف بالمصادر وحدها بل استدعى من علماء الأقطار من أخذ منهم تواريخ أنحائهم، ويتوقع برنارد لويس أن يكون من ساعدوه إيطاليون لأن المنقول عن أوروبا يشبه معارف الإيطاليين [8].
ويشير ابن خلدون إلى النهضة الأوروبية التي بدأت في عصره من إيطاليا، وذلك في القرن الرابع عشر الميلادي، يقول: “بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق، وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة” [9].
3. مقارنة الأديان
وحيث إن الغرب في ذلك الزمان كان بين نصراني ووثني، فلقد كانت المعرفة به حاضرة في ساحة مقارنة الأديان، وهي واحدة من أشد ساحات الاحتكاك بين المسلمين والغربيين سواء في المناطق التي فتحها المسلمون أو فيما جرى من مساجلات علمية، ومن آثار ذلك أن كانت معرفة المسلمين بالنصرانية ومذاهبها من أدق ما كان لهم من معارف في سائر المجالات إن لم يكن الأدق والأفضل على الإطلاق، ومما هو متكرر في أقوال العلماء الاندهاش من كون هؤلاء الغربيين مع ما لهم من العلوم والمعارف والفنون يعتنقون هذه الأفكار السخيفة، وللجاحظ كلمة جامعة تُجمل الموقف الإسلامي من الغربيين إنصافًا واستفظاعًا ودقة استيعاب، يقول بعد ثناء على ما لديهم من العلوم والذكاء والحكمة:
“ثم هم – مع ذلك أجمع – يرون أن الآلهة ثلاثة بطن اثنان وظهر واحد، كما لا بد للمصباح من الدهن، والفتيلة، والوعاء، فكذلك جوهر الآلهة، فزعموا أن مخلوقًا استحال خالقًا، وأن عبدًا تحول ربًا، وأن حديثًا انقلب قديمًا، إلا أنه قد قُتل وصُلب بعد هذا، وفُقد، وجُعِل على رأسه أكاليل الشوك، ثم أحيا نفسه بعد موته، وإنما أمكن عبيده من أخذه وأسره، وسلطهم على قتله وصلبه، ليواسي أنبياءه بنفسه، وليتحبب إليهم بالتشبه بهم، ولأن يستصغروا جميع ما صنع بهم، ولئلا يعجبوا بأعمالهم فيستكثرونها لربهم، فكان عذرهم أعظم من جرمهم… فلولا أنا رأينا بأعيننا، وسمعنا بآذاننا، لما صدقنا ولا قبلنا أن قومُا متكلمين، وأطباء ومنجمين، ودهاة وحسابُا، وكتبة وحذاق كل صنعة، يقولون في إنسان رأوه يأكل ويشرب، ويبول وينجو، ويجوع ويعطش، ويكتسي ويعري، ويزيد وينقص، ثم يقتل بزعمهم ويُصلب: إنه رب خالق، وإله رازق، وقديم غير محدث، يميت الأحياء ويحيى الموتى، وإن شاء خلق أضعافُا للدنيا، ثم يفخرون بقتله وصلبه، كما يفخر اليهود بقتله وصلبه” [10].
وعصر الجاحظ هو العصر الذي وصلتنا منه أول رسائل مكتوبة متبادلة [11]، وهي الرسالة الشهيرة بين عبدالله بن إسماعيل الهاشمي وعبدالمسيح بن إسحاق الكندي، والتي اُختلف حول صحتها كلها أو حول صحة أطرافها [12]، وفي كل الأحوال فإن عصر المأمون المشتهر بالمساجلات الفكرية لا يبعد أن يحدث فيه مثل هذا.
وبعد حوالي قرن من وفاة الجاحظ بدأ ظهور المؤلفات المتخصصة في مقارنة الأديان، من بعد ما كانت رسائل وموضوعات ضمن مؤلفات أكبر، ويعد كتاب “الإعلام بمناقب الإسلام” لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري (381هـ) “أول أثر فكري عثرنا عليه في مقارنة الأديان” [13]، ثم تزيد الكتب المتخصصة في مقارنة الأديان، ونرى بذور الموسوعات والموسوعات عند الشهرستاني في “الملل والنحل” وابن حزم في “الفِصَل في الملل والأهواء والنحل”، حتى نصل إلى موسوعة ابن تيمية في الرد على النصارى وحدهم وهي كتابه “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” والمطبوع في ست مجلدات.
وقد جمع بعض الباحثين قائمة ما نعرفه مما كُتِب في الرد على أهل الكتاب، فبلغت الردود على اليهود 44 كتابًا ورسالة، وبلغت الردود على النصارى 124 كتابًا ورسالة، وبلغت الردود على اليهود والنصارى معًا 26 كتابًا ورسالة، وبلغت الردود على الفرق والنحل والمذاهب والتي تضمنت الرد على اليهود والنصارى 18 كتابًا ورسالة [14].
—————————————
[1] اقرأ ما سبق في هذه السلسلة:
موجز تاريخ الصدام بين الإسلام والغرب (جـ1، جـ2، جـ3، جـ4)
على ضفاف الحروب الإسلامية الغربية
السفارات الإسلامية إلى الغرب (جـ1، جـ2)
الرحلات الإسلامية إلى الغرب
[2] ابن خرداذبه: المسالك والممالك ص109 وما بعدها.
[3] ابن رسته: الأعلاق النفيسة 7/85.
[4] المسعودي: مروج الذهب 1/ 119.
[5] المسعودي: مروج الذهب 2/34 وما بعدها.
[6] انظر نقده لروايات ابن الفقيه عن مدينة روما. ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/103، 104.
[7] محمد إلهامي ومحمد شعبان: بيري ريس ص128 وما بعدها.
[8] برنارد لويس: اكتشاف المسلمين لأوروبا ص166، 167.
[9] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/481.
[10] نشوان بن سعيد: الحور العين ص227، 228. وهو ينقل عن كتاب الأخبار للجاحظ وهو مفقود. وهذا المعنى نفسه، وأحيانا بالألفاظ نفسها، متكرر في كتب الملل والنحل، انظر: ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/48، ابن تيمية: الجواب الصحيح 4/448.
[11] وذكرت بعض كتب الفهارس بعض ما لم يصل إلينا مثل رسالة “الرد على النصارى” لبشر بن المعتمر الهلالي (ت 210هـ)، “والرد على النصارى” للقحطبي. انظر: ابن النديم: الفهرست ص197، 415.
[12] كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي 4/35 وما بعدها.
[13] د. محمد عمارة: إسلامية المعرفة ماذا تعني؟ ص71.
[14] خالد بن علي مفلاس: إنتاج ما صنفه المسلمون في مجادلة أهل الكتاب، مجلة آفاق الثقافة والتراث، مركز جمعة الماجد، دبي، العدد 70، رجب 1431هـ، يونيو 2010.