اندلعت ثورات الربيع العربي في تونس يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول ونجحت بسرعة وبخسائر بسيطة نسبيًا في الإطاحة برأس النّظام، ثُمّ انخرطت البلاد في مسار انتقالي سلمي أوصلها إلى ما وصلت إليه اليوم من تداول سلمي على السّلطة وانتخابات يقبل الجميع بنتائجها.
مرّ المسار التأسيسي في تونس بعدة مطبات كادت تعصف بالمسار، لكن في كل مرة وُجد مخرج ومن بين هذه المطبات ما يتعلق بالمُحاسبة، إذ اتّفق المجتمع السياسي التّونسي (باستثناء البعض) على التخلي عن قانون العزل السياسي لرموز النظام القديم واستبداله بمنظومة عدالة انتقالية تفتح ملفات الماضي على مهل، تكشف الحقيقة وتُحاسب من ثبُت تورطهم في الفساد والانتهاكات.
هيئة الحقيقة والكرامة هي هيئة مُؤقتة تم إنشاؤها بموجب قانون العدالة الانتقالية الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي في ديسمبر/ كانون الأول 2013 (ضمن ما حدده الفصل 149 من الدستور التونسي)، وعرّف القانون المحدث لها مُهمّتها في “كشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من الأول من تموز/ يوليو 1955 (أي بعد نحو شهر من حصول تونس على استقلالها الذاتي من الاستعمار الفرنسي) إلى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2013، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم”.
بين الفترة التي صيغ فيها قانون العدالة الانتقالية واُنتُخب فيها أعضاؤها، وبين الفترة الحالية ما بعد الانتخابات حدث تغيُّر جليّ لموازين القوى أصبح فيها جزء هام ممن قد تطالهم العدالة الانتقالية مُنضوين في الحزب الذي نال مفاتيح قصر قرطاج ومفاتيح تشكيل الحكومة أيضًا وهو مابشّر بصعوبات مُنتظرة لعمل هذه الهيئة.
بالرجوع إلى جُملة التعليقات الإعلامبة والأحداث المُتعلقة بهذه الهيئة نجد الآتي :
- الباجي قائد السبسي يُصرح إبّان فوز حزبه بالمرتبة الأولى: “قانون العدالة الانتقالية هو قانون تصفية الحسابات، اعتبارًا إلى أن المحاسبة ستبدأ منذ 1955″، كما صرّح لإحدى الإذاعات الخاصة “ھذا القانون، يعود إلى سنوات الخمسینيات، وهو غیر مقبول”، مضيفًا: “عندما أصل إلى السلطة، وأتحصل على الأغلبیة في مجلس النواب، سأعمل على تغییر ھذا القانون فورًا؛ لأنه قانون تصفیة حساب غیر عادل”.
- لطفي زيتون، القيادي في حركة النهضة في حوار له مع نون بوست: “رأينا كيف دشّن السيد محمد النّاصر مُؤخرًا المقر الرئيسي لهذه الهيئة وكانت كلمته إيجابية جدًا، ونحن في حركة النهضة نرى في مسار العدالة الانتقالية قاطرة بين الماضي والمستقبل ومفتاحًا لتسوية شاملة من خلال المحاسبة والمصالحة، البلاد تحتاج أن تُعالِج ملفات الماضي حتّى تنكب على ملفات المستقبل الأعقد بكثير من ملفات الماضي”.
عدا ما قيل على هامش الحملة الانتخابية والذي لم نلمس فيه إصرار، لا توجد نيّة – حسبما أعلم – لمراجعة هذا الملف، ومراجعته لن تكون سهلة خاصّة مع المشهد النيابي والحاضر القانوني المعقّد.”
- رئيس الهيئة الحقوقية سهام بن سدرين، تتوجه إلى قصر قرطاج قبل 3 أيام من تسليم السلطة للباجي قائد السبسي مرفوقة بعدد من الشاحنات الكبرى بنية نقل الأرشيف الرئاسي، والأمن الرئاسي يمنعُها من النقل، في تحرّك سياسي لمنظومة أمنية تحت أوامر أصدرتها النقابة الراجعة إليهم بالنظر تُطالب بتأجيل نقل الأرشيف إلى حين التّحصّل على مُوافقة الرئيس الجديد.
- هجوم إعلامي مُركّز على الهيئة ورئيستها وتسويق القاضية كلثوم كنّو كبديل لها في صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي القريبة من نداء تونس
- بن سدرين في تصريح إلى إحدى الإذاعات الخاصة: “جميع التهديدات لن تُخيفنا وسنواصل عملنا”، مشددة على أنّ “هيئة الحقيقة والكرامة، ستسأل أصحاب مراكز القرار دون استثناء”، مؤكدة أنه: “لا وجود لحصانة أمام عمل هيئة الحقيقة والكرامة، ولابد من رد الاعتبار للتونسيين الذين ظُلِموا”.
مع كُل ما سبق يتوضح لنا المُناخ العام الذي وجدت فيه هذه الهيئة نفسها، ما دفع البعض للقول إنها انتهت قبل أن تبدأ بالعمل؛ فهي رغم استقلاليتها ستجد نفسها مُضطرة للتعامل مع السلطة، الادارة، والقضاء، مُكونات ثلاثة لا يُمكن أن نتصور بأنها ستفتح الأبواب على مصراعيها لتيسير نجاح مسار العدالة الانتقالية، إن لم نقل بأنه من المنتظر أن يتم تعطيل مجال تحركها وخاصّة حرمان القائمين عليها مما كفله لهم الدستور فيما يتعلق بالنفاذ إلى أرشيف الدولة التونسية .
وضع قد يزداد تعقيدًا في حال تم إشراك حركة النهضة، أكبر المُدافعين عن العدالة الانتقالية باعتبارها أكبر المتضررين من النظام القديم، في الحكومة القادمة، حكومة تجتمع فيها النهضة مع النداء أكيد أنها ستُذهب حماسة الدفاع عن هذا المسار وإنجاحه تحت وطأة الحسابات السياسية المُعقدة .
في تقديري، الهيئة حتى تنجح في عملها، مع خصوصيّة الوضع الحالي سياسيًا وخاصة قانونيًا الذي حدّد مُدة حياتها بأربع سنوات قابلة للتمديد سنة واحدة، عليها:
- أن تشتغل بجدية على مُعطى التواصل وأن تُخفف من شدة رسائلها الإعلامية وأن تقتنع مُمارسة وخطابًا بأنّها أعجز من أن تفتح ملفات المحاسبة الشاملة لمدة نصف قرن مع الوضع الحالي للقضاء التونسي الذي برّأ أغلب وزراء بن علي، خطاب الطمأنة بأننا إزاء مسار يبحث عن الحقيقة، المصارحة، المصالحة، والمُحاسبة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً هو الخطاب الذي قد يُطيل في عمر هذه الهيئة.
- أن تبحث عن رافعة سياسية تُعدّل المشهد في ظل تحامل السلطة الحالية وامتدادها في الإدارة التونسية، ففي التجارب المُقارنة القريبة سواء في جنوب أفريقيا أو في المغرب، ما كان للعدالة الانتقاليّة أن تنجح (النجاح نسبي) لو لم تكن مسنودة سياسيًا من أنظمة الحكم في تلك الدول، سند سياسي قد تفقد جزء منه (وهذا طبيعي) في حال شاركت حركة النهضة في الحكم.
- أن تبحث عن دعم مُنظّمات دولية وازنة مهتمة بإنجاح هذا المسار لأهميته حتى يكون أداة ضغط على السلطة في حال احتاجت أن تضغط.
في الدول التي تشهد عمليات انتقال ديمقراطي وتُحاول أن تبني جمهوريات حقيقية على أنقاض جملوكيّات الموز، خاصّة كالتي كانت تعيشها بلداننا العربيّة، تحظى مسألة تضميد الجراح التي خلفتها سنوات الاستبداد بأهمية كبرى لأنها وحدها الكفيلة بمسح الأحقاد المُجتمعية.
مسار العدالة الانتقاليّة في تونس سيُواجه صعوبات كبرى لكن يجب أن يتواصل لأن ديمقراطية ناشئة بدون مُكاشفة ومُصارحة ومُصالحة اجتماعية وخاصّة جبر الأضرار لا يُمكن أن تستمر طويلاً لأن ثورات الجوع والكرامة قد تنتهي وقد نتنبأ بتواريخ اندلاعها، ولكن ثورات الظّلم والحقد إن اندلعت فلا يُمكن أن تنتهي وخسائرها تكون جد باهظة.