تركيا: مميزات وقيود الناتو
تتمتع تركيا، الدولة الوحيدة التي لم تُستعمر بشكل رسمي أو فعلي في المنطقة، بقوة عسكرية تقليدية تفوق العرب والإيرانيين، وهي القوة التي ورثتها عن العثمانيين، لاسيما القوة البحرية التي تُهيمن على شرق المتوسط، وتُعَد العامل الرئيسي للتوازن الغربي مع روسيا في البحر الأسود، لم تسلم فقط تركيا من التفكك الذي لحق بالبلدان المُستعمَرة في المنطقة، بل واستفادت من عضويتها بحلف الناتو، الذي انضمت له عام 1952، لتعزيز وتحديث قوتها بشكل كبير، وحماية أراضيها من الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة، ومن أي خطر إيراني أثناء سنوات التوتر مع إيران إبان الثورة، باستخدام أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية الموجودة على أراضيها.
أهمية تركيا إستراتيجيًا للغرب، واهتمام الغرب بأمنها، حتى أثناء العهد العثماني، نظرًا لمخاوفه من التوسع الروسي، لاتزال تعطي تركيا إلى اليوم مساحة للتحرك بثقة، وضمانات أمنية لا يملكها غيرها في المنطقة، فهي بمأمن عن التفكك نظرًا لرسوخ دولتها وجيشها، على عكس سوريا والعراق مثلًا، وهي في نفس الوقت، وعلى عكس مصر وإيران، بمنأى عن أي هجوم من إسرائيل – الدولة الوحيدة التي تتفوق عليها تقنيًا في بعض المجالات التقليدية لاسيما جوًا -.
نقطة الضعف الرئيسية لتركيا عسكريًا، لاسيما مع تطور الأحداث الجارية في الشام مؤخرًا، وبالنظر لحداثة الدور التركي في المنطقة، والذي لم يكن موجودًا قبل 2002، هي غياب الخبرة في التعامل مع القوى غير المتوازية، مثل الميليشيات والجماعات المسلحة، سواء الصديقة منها التي تحتاج إلى دعم بشكل معين، كما تفعل إيران مع حزب الله، أو العدوة منها والتي لا تجدي معها الوسائل العسكرية التقليدية، كما أدركت منذ زمن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
حاربت طويلًا القوات التركية حزب العمال الكردستاني، بيد أن حربها تلك لم تجد في معظم الأحيان، وهي حرب لم تكتسب منها تركيا خبرة واسعة في التعامل مع هذا النوع من الجماعات، بل ويمكن القول إن الأسباب الرئيسية لانحصار تأثير حزب العمال اليوم لم تكن نجاح تركيا عسكريًا في وقف توسعه، بل كانت ثمرة لقدرة الدولة على الوفاء بوعودها الاقتصادية في المناطق الكردية من ناحية والانفتاح على الثقافة الكردية في العقد الأخير، ومحدودية الدعاية التي يقدمها الحزب من ناحية أخرى، وهي مزيج غير واضح وغير منطقي بين الشيوعية والقومية الكردية، وكذلك رواج النموذج الكردي الذي قدمه البازراني في شمال العراق بعلاقاته الوطيدة مع تركيا.
بشكل عام، يُعطي الناتو تفوقًا لتركيا على مستوى العسكرية التقليدية يُتيح لها ردع أي هجوم، بقواتها المتطورة أو حتى بأنظمة دفاع الناتو الموجودة على أراضيها، ولكنه لا يعطيها الكثير للتعامل مع التحديات الجديدة والفريدة في المنطقة، والتي تتمثل بالأساس في ظاهرة اللاتوازي العسكري، والجديدة على تركيا – على سبيل المثال -، إذا ما تخيلنا نظريًا حربًا بين تركيا وإيران (وهو احتمال بعيد بالطبع) سيكون لتركيا تفوقًا ملحوظًا من الناحية الجوية، ولكن على الأرض، وبالنظر لامتلاك إيران لأجنحة عسكرية غير تقليدية في جيشها، مثل الحرس الثوري، كما رأينا في حربها مع العراق، سيكون من الصعب تخيل تعامل القوات التركية النظامية معها، وسيكون التفوق على الأرجح لصالح طهران.
إسرائيل: التفوق الإستراتيجي الصعب
تعاني إسرائيل منذ نشأتها من خلل الميزان الإستراتيجي بينها وبين العرب لأسباب معروفة؛ جغرافية نظرًا لحجمها الضئيل، وديمغرافية نظرًا لقلة تعدادها وانفصاله عن الشعوب المحيطة به تمامًا. مثلها مثل تركيا، تستفيد إسرائيل بالأساس من تحالفها مع الغرب، والذي يعطيها التفوق المطلوب عسكريًا، دون أن تكون بالضرورة عضوًا في حلف الناتو بشكل رسمي، هي شريك للحلف في المتوسط، مثل الأردن ومصر والمغرب والجزائر.
القوة الجوية الإسرائيلية هي الأولى في المنطقة بلا منازع، وهو أمر ثبت بجلاء أثناء حرب 1967، ولايزال مستمرًا إلى اليوم، فمهاجمة إسرائيل جوًا مسألة شديدة الصعوبة، لاسيما وأنها تمتلك أنظمة دفاع جوي من الأكثر تطورًا في العالم، البحرية الإسرائيلية أيضًا لا يكافئها في المنطقة إلا القوتين التركية والإيرانية، كما تملك قوات الدفاع الإسرائيلية على الأرض، وعلى عكس نظيرتها التركية، خبرة أكبر في مواجهة القوى غير المتوازية، نظرًا لتاريخها الطويل في الحروب مع المقاومة الفلسطينية والميليشيات اللبنانية – على سبيل المثال -، تستعين دول في أفريقيا، مثل كينيا، بخبرة إسرائيل تلك لمساعدتها على مواجهة الأخطار العسكرية غير المتوازية المتفشية في القارة.
ولكن، على عكس إيران، ونظرًا لطبيعتها الديمغرافية الغريبة على المنطقة، لاتمتلك إسرائيل أي عوامل ثقافية مشتركة تُتيح ليها هي أن تتبنى قوى من هذا النوع تعزز بها نفوذها، أو حتى تدافع بها عن نفسها، فإيران تعتمد كما هو واضح على المذهب الشيعي المنتشر في جنوب العراق وجنوب لبنان، ودول كتركيا ومصر والخليج مُتاح لها، ولو نظريًا، دعم أي قوة سنية أو عربية، وهي ثقافة منتشرة بطول المنطقة وعرضها،
لذلك، وإدراكًا لهشاشتها الديمغرافية، لم تتبن إسرائيل أي مواقف واضحة من الأزمات الجارية في الشام خلال الأعوام الأخيرة، ونأت بنفسها عن الانجرار إلى أي صراع مع الفصائل السورية، بل واللبنانية أيضًا، التي انجرت إلى الساحة السورية، إيمانًا بأنها ستخرج على الأغلب خاسرة، لاسيما وأنها مرفوضة من كافة شعوب المنطقة وتعاني بشكل عام من ضغط معنوي منذ تأسيسها، باستثناء هجمات جوية ناجحة على أهداف معينة هنا وهناك، مثلما جرى في سوريا، ومحاولات برية فاشلة لإضعاف حماس في قطاع غزة، تعتبر إسرائيل اليوم في وضع “صامت” للحفاظ على تفوقها الإستراتيجي الصعب الذي بنته على مدار عقود، وقد تعصف به أي حرب مفتوحة، خاصة مع قوى غير متوازية تمتلك مقومات إحراج إسرائيل كما جرى في حالات كثيرة.
إيران: اللاتوازي
تمتلك إيران القوة العسكرية الأكبر في الخليج، وهي القوة العسكرية الأولي من حيث التعداد في المنطقة متفوقة على تركيا ومصر، بيد أن الأسلحة التي تمتلكها قديمة نسبيًا، ويعود جزء كبير منها إلى ما قبل الثورة الإيرانية عام 1979، وهو ما يعني أنه من الناحية التقنية البحتة، تمتلك تركيا وإسرائيل ودول الخليج أسلحة أكثر تطورًا منها؛ لذلك، تعتمد إيران أكثر من غيرها على صناعتها العسكرية الداخلية، حيث تنتج صواريخ بالستية يصل مداها إلى ألفي كيلومتر، كما تعتمد في بث نفوذها الإقليمي على القوى العسكرية غير المتوازية.
تتحكم إيران تمامًا في القسم الشرقي من مضيق هرمز، وتمتلك قوة بحرية غير تقليدية في الخليج، منها 58 سفينة مجهزة بأسلحة مضادة للسفن، تُتيح لها الضغط بقوة على دول الخليج الواقعة على الناحية الأخرى من المضيق، لاسيما وأن الولايات المتحدة هي المدافع الأساسي عن تلك الدول وتوازنها مع إيران وليس دول الخليج نفسها، والتي تمتلك العتاد ولكن لا تملك الخبرة في استخدامه، وتعاني بالطبع من انحياز الكفة الإستراتيجية لصالح إيران بالنظر للتعداد السكاني وعوامل أخرى تاريخية وجغرافية.
تستخدم إيران القوة غير التقليدية بشكل كبير حتى في مضيق هرمز، فقواتها العسكرية لا تقتصر على الأقسام البرية والبحرية والجوية التقليدية، بل تضم أجنحة مثل قوات الحرس الثوري وقوات القدس تشكل عوامل قوة للنظام الإيراني في الداخل والخارج، وهي مزودة بأسلحة صغيرة غير تقليدية تستطيع بها إلحاق الضرر بشكل كفء، على سبيل المثال بحاملات النفط، وهي حوادث لها سوابق بالفعل في تاريخ العسكرية الإيرانية بعد الثورة، إذ نشرت طهران ألغامًا بحرية، واستولت أحيانًا على سفن أجنبية، بل وقامت بهجمات إلكترونية (عبر الإنترنت) على دول الخليج المصدرة للنفط.
بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر القوى غير المتوازية العامود الفقري للدور الإيراني في المنطقة، بدءًا من جنوب العراق وحتى لبنان، بل وامتدادًا أيضًا إلى غرب أفغانستان، حيث تستثمر إيران في الأسلحة والذخائر “الصغيرة” التي تستخدمها الميليشيات والجماعات المسلحة، وتزود بها حلفائها في المنطقة لبث نفوذها ومواجهة أعدائها بشكل غير مباشر، كما رأينا في حرب حزب الله مع إسرائيل عام 2006.
لأسباب تعود إلى قيام الثورة، تُعَد إسرائيل العدو الأول لإيران، بيد أنه على المستوى الإستراتيجي لا تمثل إسرائيل الخطر الأساسي على إيران بقدر ما هي عدو لنظامها نظرًا لسياساته في المنطقة، ومؤخرًا، يبدو أن أخطار أكثر إلحاحًا وأقرب جغرافيًا، تستحوذ على تركيز صنّاع القرار والعسكريين في طهران، وهي أخطار تندرج تحت اللاتوازي العسكري، وتتمثل في داعش في الغرب، التي تهدد بقطع خط النفوذ الإيراني الممتد من العراق إلى لبنان، وعودة طالبان في الشرق، والتي تهدد مكتسبات إيران في شمال وغرب البلاد.
لكل هذه العوامل، تُعد إيران هي القوى الأولى في منطقة من ناحية تبني والتعامل مع اللاتوازي، وهي ظاهرة عسكرية لاتزال عصية على الكثيرين، حتى أمثال الولايات المتحدة والصين، وتعطي إيران تفوقًا إستراتيجيًا ملحوظًا على تركيا وإسرائيل والخليج، لاسيما في الشام والعراق، وتعوّض تأخرها عنهم في القوة العسكرية التقليدية.
الخليج: المال وحده لا يكفي
على العكس من القوى المعروفة في المنطقة، تعتبر قوة الخليج العسكرية حديثة بشكل كبير، إذ تشكلت بشكل ضئيل بعد تأسيس تلك الدول، ولم تلق اهتمامًا كبيرًا حتى قيام الثورة الإيرانية، ودخول نظام صدام حسين العراقي إلى كويت عام 1990، منذ ذلك الوقت، تقوم دول الخليج، ولاتزال، بالاعتماد على الولايات المتحدة بشكل رئيسي، وفي نفس الوقت بتعزيز عتادها العسكري بشكل غير مسبوق في المنطقة، وربما في العالم، حيث تنفق جزءًا كبيرًا من ميزانيتها الثرية لجلب أحدث الأسلحة والذخائر بكميات كبيرة (130 مليار دولارًا سنويًا).
طبقًا لمعهد البحوث من أجل السلام العالمي، الموجود بستوكهولم في السويد، مثّلت واردات الأسلحة إلى الخليج بين عامي 2008 و2012، 7٪ من تجارة السلاح العالمية، وكانت بالأساس معدات وأنظمة دفاع صاروخي، بشكل عام، تتزايد صفقات السلاح الموجهة للخليج في الأعوام الأخيرة نظرًا للمخاوف من الدور الإيراني، حيث تُعَد الإمارات حاليًا رابع أكبر مستورد للسلاح في العالم، وجارتها السعودية خامس أكبر مستورد، بعد أن كانت في المرتبة الـ 18 بين عامي 2004 و2008.
من المتوقع أن تتسلم السعودية خلال العام 2015، 154 طائرة إف 15 إس إيه من الولايات المتحدة، ودفعات إضافية من طائرة تايفون من بريطانيا، بالإضافة إلى ذلك، تسلمت السعودية بالفعل المئات من صواريخ كروز من طراز ستورم شادو من بريطانيا (بمدى يصل إلى 300 كيلومترًا)، وبدأت في التفاوض مع الولايات المتحدة، لأول مرة، لاستلام صواريخ AGM-84H والتي لا يملكها من حلفاء الولايات المتحدة سوى تركيا وكوريا الجنوبية، بدورها، تتفاوض الإمارات مع شركة لوكهيد مارتن الأمريكية المعروفة لشراء تقنيات دفاع صاروخي متطورة، مثل نظام “ترمنيال هاي ألتيتيود” البالغة تكلفته 7.6 مليار دولارًا.
رُغم هذه الصفقات الكبيرة التي قد لا تحلم بها دول مثل إيران، يعاني الخليج من غياب الخبرة العسكرية والموارد البشرية الكافية ليستطيع تحقيق فارق جوهري بذلك العتاد، خاصة بوجه إيران التي تُعَد عدوه الأول والأساسي، كما يعتبر غياب التنسيق العسكري بين دوله نقطة ضعف واضحة مقارنة بالقوى العسكرية الأخرى بالمنطقة، وهو ما يعني أنه يحتاج إلى الاعتماد على قوى خارجية بشكل كبير لضمان توازن الكفة الإستراتيجية، وهو دور تقوم به الولايات المتحدة منذ عقود.
يشكل الالتزام الأمريكي بأمن الخليج حجر الأساسي للتوازن الإستراتيجي بين إيران والخليج، خاصة في مضيق هرمز ذي الأهمية للولايات المتحدة نظرًا لمرور تجارة النفط العالمية كلها عبره، وهو أمر لن يتأثر على الأرجح بانخفاض مبيعات النفط إلى الولايات المتحدة نظرًا لأنه يؤثر على الاقتصاد العالمي بأسره في جميع الأحوال، لذلك، ينفق الأمريكيون على تواجدهم العسكري في المضيق حوالي 70 مليارًا سنويًا، وهو ما يمثل 15٪ من ميزانية وزارة الدفاع (البنتاجون)، حيث يتمركز الأسطول الخامس الأمريكي في دولة البحرين بأهدافه المعلنة: إثناء إيران عن أي عمل عدواني في المضيق وضمان بقائه مفتوحًا.
بالنظر للارتكاز العسكري الأمريكي في أسيا، الجاري مؤخرًا، ومحاولات تخفيف تواجدها في الخليج، تمر دول الخليج اليوم بنقطة تحول فيما يخص عقيدتها العسكرية والدفاعية، إذ يبدو أن الاعتماد على واشنطن وحده لن يكون كافيًا خلال العقود المقبلة، وهو ما يعني أنه بحاجة إلى توحيد الصف الخليجي في المجال العسكري أكثر من ذي قبل، وهي خطوة تدفع نحوها السعودية والإمارات والبحرين بشكل رئيسي، في حين تعارضها عُمان بوضوح، بطبيعة الحال، سيكون تحقيق حلم كهذا صعبًا نظرًا لتطور القوى العسكرية لتلك الدول بشكل منفصل، وغياب التدريبات المشتركة، وتباعًا، القدرة على تشغيل الأنظمة الدفاعية بشكل مشترك، أيضًا، بالنظر للخلافات السياسية الموجودة حاليًا، لاسيما بين السعودية وقطر، ستكون هناك عقبات كثيرة أمام تأسيس مظلة عسكرية جامعة لدول الخليج.
هذا المقال يأتيكم ضمن ملف سباق التسلح على نون بوست