الصورة: زعيم حزب سيريزا آليكسيس تسيبراس وعد بإصلاح جذري حال انتخاب الائتلاف اليساري الذي يقوده
ترجمة وتحرير نون بوست
في ليلة رأس السنة لهذا العام، استعدت ليتوانيا، البلد الصغير بشرق أوروبا، للاحتفال بتحوّلها من عملتها القديمة، الليتاس، إلى عملتها الجديدة، اليورو، إذ انطلقت الألعاب النارية والصواريخ من مقر البنك المركزي بينما دقت الساعة المُعلقة فوق مدخله مُعلنة حلول منتصف الليل، ودخول البلاد إلى سوق اليورو لتصبح العضو رقم 19.
بيد أن ليتوانيا قد تصبح قريبًا العضو رقم 18، وليس 19، إذ يبدو أن أحدًا ما سينسحب من سوق اليورو قريبًا، على بُعد ألفي كيلومترًا إلى الجنوب، حيث تقع الاقتصادات التي تعاني من أزمة اليورو منذ خمس سنوات، وبالتحديد اليونان، حيث تشتد الأزمة فيها أكثر من غيرها، ويستعد الناخبون فيها للذهاب إلى صناديق الاقتراع يوم 25 يناير، وعلى الأرجح اختيار التحالف اليساري بقيادة حزب سريزا، كما تقول غالبية الاستطلاعات، والذي قد يكون دخوله للسلطة إيذانًا بنهاية اليورو في البلاد، والعودة إلى عملتها القديمة، الدرَخما.
بين أثينا وبروكسل وبرلين
مرة أخرى تجد اليونان نفسها في وسط صراع يتجاوز حجمها الصغير، بين الشمال والجنوب الأوروبي، ولكن هذه المرة الصراع اقتصادي، وينصب بالأساس حول برنامج التقشف الذي صممته ألمانيا للدول المتأزمة اقتصاديًا، والتي كان يجب عليها تبنيه لتستطيع الحصول على مليارات الدعم القادمة من الاتحاد الأوروبي، تنقسم أوروبا في هذا الصراع إلى معسكرين رئيسيَّين، القائلون بأن الإرادة الديمقراطية لليونانيين في ترك برنامج التقشف يجب أن تكون نافذة، والقائلون بأن قوانين الأسواق المالية المتجاوزة للبلدان، والتي ستمنع عن اليونان مليارات الدعم حال تركت التقشف، ستكون نافذة، لاسيما وأن أعضاء السوق الأوروبية الآخرين لا يرغبون في تخصيص أموال من ميزانياتهم لمساعدة اليونان.
كالعادة، تتجه الأنظار حاليًا نحو المستشارة الألمانية أنغلا ميركل، والتي قالت ذات مرة لمجموعة من الصحافيين: إنقاذ اليورو بشكل شامل مشروط ببقاء اليونان في السوق الأوروبية، ليس هناك بديل آخر لذلك.
مرت أشهر وتغيّر الواقع، وأصبح هناك في الحقيقة بديلًا أمام ميركل: إنه التجاهل، يبدو أن ميركل في طريقها لتجاهل اليونانيين تمامًا، فإذا ما وصل قائد حزب سريزا، أليكسيس تسيبراس، إلى رئاسة الوزراء وطلب تخفيض الديون الخاصة باليونان، وعلى الأقل إبطاء وتيرة الإصلاحات الأوروبية، سيكون خروج اليونان على الأرجح هو النتيجة وليس استجابة ميركل لمطالبه.
أثناء حملته الانتخابية، أطلق تسيبراس بعض الوعود التي لن يستطيع الوفاء بها على ما يبدو، والتي قد تصل تكاليفها كلها إلى دعم اليونان بحوالي 10 مليارات يورو، وهي قيمة لا تملكها اليونان، ولا ترغب الدول الداعمة في توفيرها لها في الوقت الراهن، كما أنها وعود تستند إلى أهمية اليونان للسوق الأوروبية وقدرتها على الضغط على الاتحاد الأوروبي، وهي أهمية لم تعد موجودة مؤخرًا.
فعلى العكس مما كان عليه الأمر عام 2012، لا يبدو أن أزمة اليونان تثير اهتمام أو قلق المسؤولين في بروكسل أو برلين، بل تثير ضجرهم في حقيقة الأمر، كما أن الأسواق لم تعد تضطرب لسماع الأخبار القادمة من أثينا، حيث ظل اليورو بنفس قميته مع إعلان إجراء انتخابات جديدة مطلع هذا العام، ولم تهتز أسواق فرانكفورت ولندن وباريس كما كانت تفعل في السابق؛ تباعًا، لم تعد ميركل، ولا ولفجانج شاوبِه، وزير ماليتها، مصممين على بقاء اليونان في اليورو لتجنب انهيار السوق الأوروبية، إذ يبدو أنها تعمل بشكل طبيعي بمعزل عما يجري في أثينا.
بالنتيجة، لا يبدو أن تسيبراس سيملك الكثير من النفوذ والتأثير كما يتخيّل لفرض شروطه على بروكسل أو برلين، بل يبدو السيناريو الممكن أنه إما سيخضع بشكل كامل لشروطهما، وهو أمر مستبعد تمامًا بالنظر لدعاية الحزب، ورغبات الرأي العام اليوناني حاليًا، وإما سيتركه الألمان لينفذ ما يريده بعض اليونانيين: الخروج من السوق الأوربية، الألمان تحديدًا يعدون العدة لهذا السيناريو.
المسارات المطروحة الآن في برلين مُنصبة بالأساس على البحث عن طريق لبقاء اليونان كعضو في الاتحاد الأوروبي مع خروجها من السوق الأوروبية، وهو أمر غير مُتاح حاليًا بالنظر للمعاهدات الأوروبية التي لا تسمح لليونان سوى بالخروج من الاتحاد ككُل، المسؤولون الألمان على ثقة، رُغم ذلك، حيث قال أحدهم ببساطة: “المحامون ذوو الخبرة والمعرفة سيجدون لنا مخرجًا”.
بين الديمقراطية والسوق والتطرف
بالنظر لتصاعد صوت اليمين المتطرف في دول أوروبية مختلفة، تنصب مخاوف برلين حاليًا على قدرة أي حكومة يسارية قد تنشأ في أثينا على تشجيع التيارات المعادية لسياسات التقشف الألمانية في أوروبا ككل، لاسيما في فرنسا وإيطاليا حيث تتمركز المعارضة تجاه برلين وحزمة الإصلاحات التي فرضتها على الدول المأزومة.
يقول مفوض الشؤون الاقتصادية والمالية بالاتحاد الأوروبي، بيير موسكوفيتشي، إنه إذا ما فاز سريزا ونجح في تحقيق وعوده دونًا عن رغبة غالبية الدول الأوروبية؛ قد يؤدي هذا تباعًا إلى زعزعة الاستقرار داخل بلدان أوربية أخرى، وتعزيز فكرة قدرة الأحزاب الراديكالية على تقويض الاتحاد الأوروبي، وهي أحزاب في تصاعد حاليًا في فرنسا، ممثلة في حزب الجبهة القومية، وإسبانيا، ممثلة في بوديموس، وإيطاليا، ممثلة في حركة النجوم الخمسة.
أضف إلى ذلك، أنه في ألمانيا نفسها، سيستفيد كثيرًا حزب “البديل لألمانيا” (AfD) المعادي لليورو، من هكذا سيناريو، والذي يعزز الدعايا الخاصة به بالفعل منذ تم الإعلان عن انتخابات جديدة في اليونان، إذ صرّح قائد الحزب بِرند لوكِه بأن الأزمة “فرصة لألمانيا للخروج من اليورو، وتغيير المسار الذي تتخذه حاليًا أنغلا ميركل، والابتعاد عن أساطير إنقاذ اليورو المستحيلة”، على حد قوله.
الحل الوحيد إذن، إذا ما أراد اليونانيون البقاء في اليورو، هو الالتزام بالإجماع الأوروبي، ودعم عملية الإصلاح اللازمة لإحياء الاقتصاد اليوناني، كما يقول موسكوفيتشي، وهي عملية لها بوادر طيبة هذا العام، الذي شهد تحسنًا غير مسبوق في قطاع السياحة، ونموًا للاقتصاد لأول مرة منذ سنوات، وفائضًا في الميزانية اليونانية، عدا ذلك، سيكون الحل الأقرب هو خروج اليونان من اليورو ليس خضوع اليورو لها، والذي سينذر بانهيار المنظومة الأوروبية ككل وخضوعها لأصوات المتطرفين من القوميين في شتى البلدان.
المعضلة الوحيدة هنا هي أن إصرار الاتحاد على التزام اليونان بخططه المالية دونًا عن رغبة مواطنيه، يُعيد إلى الأذهان مخاوف هيمنة السوق على المؤسسات الديمقراطية، وكذلك تصريحات ميركل عام 2011 عن “الديمقراطية المتسقة مع السوق”، وهو المصطلح الذي صكته في حديثها للبرلمان الألماني أثناء التصويت على خطة لإنقاذ اليونان آنذاك.
لعل الأزمة اليونانية قد أعادتنا إلى النقاش الدائم بين الديمقراطية والسوق بمعضلة حقيقة على الأرض هذه المرة، بدلًا من النقاشات النظرية والأكاديمية: إلى أي درجة يتوجب على الاتحاد الأوروبي الوقوف بجانب الناخبين اليونانيين الراغبين في البقاء جزءًا من اليورو دون تطبيق الإجراءات الضرورية للاقتراض من الأسواق العالمية، والتي يحتاجونها لإصلاح اقتصادهم؟
على الناحية الألمانية، يسير النقاش كالتالي: ما العمل في الأزمة اليونانية التي قدمت فيها ألمانيا بالفعل تنازلات عدة لأثينا، وأتاحت لها وقتًا أطول لدفع ديونها مما كان متفقًا عليه، وخفَّض فيها الترويكا (البنك المركزي الأوروبي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي) من الفوائد على ديون اليونان إلى 2.4٪ في حين تدفع ألمانيا 2.7٪؟ قد يكون صعبًا تنحية رغبة الناخبين اليونانيين، ولكن ماذا عن البرلمان الألماني، المُنتخب ديمقراطيًا أيضًا، والذي يستحيل أن يوافق على التنازل مجددًا لليونان؟
على الناحية الأخرى، سيكون الخروج مكلفًا بشدة، وستكون بوادره على الأغلب إما رفضًا من البنك المركزي الأوروبي لدعم اليونان بالمزيد من الأموال، أو عدم استلام اليونان لما يكفيها من أموال من داعميها الدوليين، وهو ما سيدفعها لطباعة أوراق نقدية خاصة بها، وتباعًا الخروج من اليورو، في حالة كهذه، ستظل ديون اليونان باليورو قائمة، وهي ديون يجب أن تدفع 80٪ منها إلى الترويكا، وإلى بلدان منفردة تساعدها في أوروبا، مما يعني أنها ستنجح في حل أزمتها الداخلية، ولكنها ستظل عاجزة عن دفع ديونها؛ مما سيدفع أصحاب تلك الديون إلى مقاضاتها على الأرجح، وأولهم وأبرزهم ألمانيا.
“الكل يعلم أن اليونان لن تدفع ديونها أبدًا ولن تتمكن من ذلك”، هكذا قال مؤخرًا جورج سوروس، المستثمر المعروف، والذي حذّر من تحول الأزمة المالية الأوروبية إلى أزمة سياسية منذ أكثر من عام، وقارن الوضع بما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الأولى، حين أصرت فرنسا على إثقال كاهل ألمانيا بالتعويضات، وعززت بذلك من الغضب هناك، وبالتالي من صعود أدولف هتلر، ظهور أحزاب اليمين في مختلف بلدان اليورو المأزومة، لاسيما اليونان، يُنذِر بسيناريو مشابه يجر أوروبا نحو التطرف، ويقوّض من مؤسساتها، حينها لن يكون اليورو قد انتهى في أثينا فقط، بل وربما في القارة كلها.
المصدر: دير شبيغل