النظام العسكري المصري – النسخة الحديثة منه – القائمة منذ أكثر من 60 سنة لا يغفل أبدًا دور الدين في التأثير على السلطة سلبًا وإيجابًا، ليس هذا لطبيعة الشعب على الإطلاق كما ادعى البعض؛ فالتركيبة الحقيقية للشعب المصري لم تحكم البلاد قط ولكن كل سلطة جاءت في مصر كانت تُدَيّن الشعب بدينها، فموقع الدين من مربعات السلطة في مصر واضح، بحيث إنه يُعَد أحد أدوات السلطة في مصر قديمًا وحديثًا وإن ادعى القائمون على السلطة غير ذلك.
على رأس السلطة الآن في مصر رجلها الطبيعي الذي اعتاد كرسي الحكم في مصر على أمثاله، جنرال أحاديثه جلها استدعاءات دينية يحاول ملئ الفراغ الذي تركته حركات الإسلام السياسي التي يسير في خصومتها كحتمية تاريخية بين مؤسسته التي هو وكيل عنها وبين تلك الحركات، إذ يتنازع الطرفان الحديث بخطاب ديني ولكن ثمة فارق عميق؛ إن الخطاب الديني النابع من المؤسسة العسكرية ليس نابعًا من أيديولوجية كالتي تعتنقها الحركات الإسلامية ولكن العسكر في مصر يعتبرون الخطاب الديني في مصر أحد أدوات الحكم يجب تطويعه في خدمة العسكرتارية المصرية، فمصر من الرئيس القومي الممثل للإسلام الاشتراكي الصحيح أمام الرجعية التي تشوه الدين في الخمسينيات إلى الرئيس المؤمن الذي جعل الشريعة مصدر للتشريع في السبعينيات إلى الرئيس المباركي الراعي لكل شيء حتى الخطاب الديني إلى أن وصلنا للرئيس النبي في هذه الفترة.
فلا يستطيع الجنرال السيسي أن يحكم دون أن يحرص على التأكيد لشعبه أنه أتقى من الفصائل الإسلامية وأنه أكثر ورعًا منهم وأنه يخاطب المولى عز وجل بلفظ “حضرتك” احترامًا وإجلالًا حتى يسير على قواعد كتاب “كيف يحكم العسكر مصر؟”، فالاستدعاءات الدينية للرجل في كل موقف لا تنم عن شيء بقدر ما تنم عن التدين السياسي الذي فُرض على كل جنرال اعتلى هذا الكرسي حتى لو أن حالة المجتمع الواقعية تخالفه في ذلك ولكنها الازدواجية التي لا تقبل بغير حاكم يُردد ألفاظ شرعية هي التي تجبر على ذلك حتى وإن قتل وسرق وسجن، هكذا يطلب السوق وهكذا هي لغته.
من الواضح أن الخطاب الديني التقليدي للدولة لم يعد يرق للعسكرتارية المصرية والمستمد بطبيعة الحال من مؤسسة الأزهر”ممثل الدين الدولتي”، حيث يعتبر الجنرال السيسي أن الخطاب الديني “الدولتي” في وجهة نظره لم يعد ملائمًا أن يتحدث به بل الضرورة تقتضي أن يتفرد الرجل بخطاب جديد بمسحة دينية ضرورية ليتماشى مع مقتضيات المرحلة الإقليمية والدولية التي تُعلن الحرب على الحركات الإسلامية التي تعمل بالسياسة، فالجنرال وحاشيته من المستشرقة والمستغربة يرون أن خطاب الأزهر في جوهره لا ينفصل عن خطابات تيارات الإسلام السياسي كثيرًا؛ لذلك تحدث الرجل عن ثورة دينية يقوم بها رجال الدين في الأزهر للدخول في حالة “تأييف” للنصوص الدينية التي يشتبه أن تأول ضد اتجاه نظامه وغيرها من النصوص التي يسشتهد بها في السياسة والدولة والحكم وأن يتم تحجيم دور الدين في الحياة العامة وأن تتم أزهرته لصالح الدولة، بحيث لا يتحدث أحد فيه غير ممثلي الدولة من الأزهر العسكري.
كانت أولى خطوات هذا الأمر حصر الخطابة على أئمة الأزهر فقط الموالين لاتجاه الدولة السياسي علمًا بأن الخطباء المعتمدين في الأوقاف لا يسدوا حاجات الكم الكبير من المساجد في مصر، بل وتطور الأمر لرفض الحليف الديني الآخر للعسكر “حزب النور السلفي” في أن يشارك الدولة اعتلاء هذا المنبر خشية الخروج عن نص الدين الدولتي الأزهري، إذن الجنرال يريد نسخة دينية جديدة لتعمم على الدولة غير تلك التي اعتاد العسكر على استخدامها وهو ما يراها خاطئة، حيث إن النسخة القديمة تتقارب مع غريمه السياسي في طرحه وهو ما يعده “مفرخة” للإرهاب المزعوم.
الواضح الجلي أن الرجل يريد أن يخوض تجربة أتاتوركية مصرية من نوع خاص فهو يريد أن يبعد هذا الفهم الإسلامي القديم المتدوال بين المصريين -وإن كان شكليا فقط – إلى تحديث جديد يقود نشره هو وأذرعته في الأزهر والإعلام بحيث يبتعد بالمجتمع – في ظنه – عن مصدر التطرف لذلك تحدث الرجل عن الثورة الدينية دون أن يعارضه أحد.
فمنذ اليوم الأول من انقلاب السيسي وهو يخوض حربًا شرسة على النسق الأتاتوركي ضد مصادر هذا الفكر حيث أغلق أكثر من 30 قناة دينية يظهر عليها مشايخ ودعاة بعضهم أزهريين بالمناسبة لكنهم لا ينتمون للخطاب الأزهري العسكري، كما أن الرجل ضيق على جميع الدعاة الذين يشتبه أنهم يحيدون عن النسق الدولتي لفهم الدين، استعان الجنرال برجال دين من خاصته العسكرية للتبرير الديني للقائمين على قمع تظاهرات الإسلاميين وفض اعتصامتهم، هذا ولا يخفى استعانة جهاز الشؤون المعنوية في الجيش بدعاة تابعين له لإلقاء الخطب في معسكرات الجيش المختلفة لأغراض الشحن الديني بنسخته الجديدة للمجندين والضباط تجاه الحراك الإسلامي في الشارع، بل وتقوم الدولة بتشجيع الهجمة على مظاهر الحركات الإسلامية في الشارع من اللحية والنقاب باستخدام وسائل الإعلام وتفسير ذلك أن الدولة تريد أن تستبدل هذا الفكر داخل أعماق المجتمع ولا تريد أن ترى له أثر على حياتة العامة.
وباستكمال الحديث عن الأذرع الإعلامية ستجد الدعاة الأزهريين الجدد وغيرهم من الإعلاميين والفنانيين استباحوا التراث الفقهي القديم بإثارة الشبهات حوله دون علم حقيقي، وستسمع حديث ساخر عن فقه الأئمة الأربعة وجدال في فرضية الحجاب من عدمه ونقاش حول الأحاديث النبوية والقرآن كلها تصب في اتجاه أنه “آن أوان استبدال هذه النسخة التي تخرج لنا بؤرًا من الحركات الإسلامية”، ويأتي الجنرال ليعطي الضوء الأخضر في حديثه لدخول الدولة رسميًا هذه الحرب لتنفيذ أجندته الرامية باستخدام خطاب ديني جديد دعى المخلوع مبارك مرات عديدة لتجديده لكنه لم يجرؤ على اتخاذ هذه الخطوة الأتاتوركية التي تنتهج تحييد الدين تمامًا ونصوصه عن المجتمع ومؤسساته الرسمية والغير رسمية وإظهار خطاب أبتر نابع من السلطة ليس إلا، فلا فهم للدين إلا ما تفهمه السلطة، وذك يؤكد أنهم لا يستطيعون التخلي عن النكهة الدينية في الحكم مهما حدث ولكن يمكنهم تطويعها والسيطرة عليها.
لذلك أُطلق مثقفو الجنرال وإعلاميوه حملة تؤيد حديثه وعبثه بالخطاب الديني بأسس بعيدة كل البعد عن العملية والمنهجية للحديث عن الثورة الدينية المزعومة مع تحديد خطوات لتتخذها الدولة تجاه الأفكار القديمة، داعين إلى تحجيم رجال الدين إعلاميًا وإعادة النظر في كتب الأزهر والسيرة والأحاديث النبوية وجميع النصوص الدينية التي يراها الجنرال تحض على الكراهية والعنف دون تحديد ما هي تلك النصوص وعلى أي أساس علمي اعتبرت كذلك، كما دعوا أيضًا لعدم استئثار رجال الدين من أصحاب التوجهات الدولتية بهذا الأمر التجديدي، إذ لابد من مشاركة المثقفين والفنانيين في هذا الأمر الجلل، إنه صياغة دين جديد على هوى الجنرال والعسكرية لمصرية ليتم مخاطبة الشعب به في شكل جديد، إذ لا يمكن أن يستشهد الجنرال بنصوص دينية يستشهد بها أعداء الوطن من “الإرهابيين المزعومين”، للدخول في مرحلة حرب النصوص الدينية بالنصوص الدينية والعمل على إنشاء دولة لغة خطابها الديني جديدة يشبهها البعض بالعلمانية الإسلامية لأن الألفاظ في مصر المحروسة لا يمكن أن تمر دون أسلمتها الشكلية للمجتمع الذي بات لا يقبل سوى الإسلام الشكلي دون أي مضمون وهو ما يعمقه العسكر المصريون في هذا التوقيت منتهزين فرصة محاربة تيارات فكرية إسلامية للدخول في معركة تغيير للخطاب ككل تحت هذه الذريعة؛ لنصبح أمام تجربة أتاتوركية مصرية ولكن بالطبع بصبغة الإسلام العسكري بقيادة جنرال متقمص للدور تمامًا.