ترجمة وتحرير نون بوست
وصلت إلى باريس يوم السابع من يناير لإلقاء مجموعة محاضرات عن الفلسفة السياسية وكيفية تأثير القوة على الديمقراطية الليبرالية، كنت أشعر بالقلق من إلقاء هذه المحاضرة في باريس، المدينة التي نجحت فيها بالفعل ثورة ديمقراطية ليبرالية في إسقاط نظام سلطوي وملكي بدا لمن كان يعيش آنذاك أنه باقٍ للأبد.
على أي حال، وصلت الطائرة متأخرة عن موعدها في الصباح الباكر، لتصل سيارة الأجرة الخاصة بي إلى مكان إقامتي ظهر نفس اليوم، كانت نقاط الشرطة آنذاك قد أغلقت الكثير من الشوارع، وكانت أصوات السارينة في كل مكان، لم أستطع أن أفهم ما يدور حتى جلست في إحدى المقاهي وتابعت الأخبار المفزعة عن الهجوم الإرهابي على مقر جريدة شارلي إيبدو الساخرة، والتي عُرف عنها مهاجمة كافة أشكال السلطة، على ما يبدو، اعتقد من قاموا بالهجوم بأنهم يثأرون للرسوم الساخرة المسيئة للرسول محمد، والتي نشرتها الصحيفة.
الليبرالية هي فلسفة سياسية تضع الحرية والمساواة فوق كل اعتبار، فكافة المواطنين في أي ديمقراطية ليبرالية يملكون نفس القدر من القوة – نظريًا – لأنهم يملكون نفس العقل، ولديهم نفس القدر من الحرية في التعبير عن آرائهم، في فرنسا، والتي تُعد مهد الثورة الديمقراطية الليبرالية، لعبت السخرية دورًا هامًا باعتبارها الطريقة المثلى التي تتجسد فيها العقلانية وتخاطب السلطة، فباستخدام السخرية يمكن لمن لا يملك أي نوع من القوة أو المال، وبجرة قلم، أن يضع أنف كل من في السلطة في التراب.
على هذا النهج سارت شارلي إيبدو، والتي لم يسخر رساموها فقط من الرسول، ولكنهم فعلوا الشيء نفسه مع بابا الفاتيكان وغيره من الرموز الدينية التي لم تسلم من أقلامهم، فالنظر إلى الصحيفة باعتبارها عدو للإسلام بشكل رئيسي لا يخلو من اختزال وتشويه للحقائق، إذ إن الهدف الأساسي للصحيفة كان دومًا السلطان، سواء السياسي أو الديني.
بيد أن هناك حقائق أخرى غابت عن رسامي شارلي إيبدو أنفسهم، وهو أنه في فرنسا، هناك فرق كبير بين السخرية من البابا والسخرية من الرسول محمد؛ فالبابا هو ممثل الديانة التي يعتنقها غالبية الفرنسيين، في حين يُعَد الرسول الرمز الأهم عند أقلية مقهورة في البلاد، السخرية من البابا إذن هي استهداف رمز حقيقي لأغلبية طبيعية، في حين أن السخرية من الرسول هي بمثابة نكأ الجراح ليس إلا، وإضافة الإهانة إلى سوء المعاملة التي يعانيها مسلمو فرنسا، بالطبع ليس معنى كلامي أن قوة الأغلبية في أي ديمقراطية ليبرالية مساوية لسلطان الملوك في السابق، ولكنها تظل صورة من صور القوة.
في المساء، ذهبت إلى ميدان بلاس دي لا ريبابليك، حيث عُقدَت وقفة إجلالًا للضحايا، ومن هناك انطلقنا مارين عبر البنايات التاريخية في باريس، والتي وُلِد معظمها في أوقات الحرية التي تمتعت بها أصوات العقل والإبداع، حتى توقفنا عند مدخل قاعة المدينة ورفعنا الأقلام كرمز للعقل.
في منتصف الليل، عدت إلى مكان إقامتي، ومررت بمعبد يهودي لأقف عنده لدقائق، أمام المعبد، وقف ضابط شرطة فرنسي يحمل مسدسًا آليًا مخيفًا لم أر مثله في حياتي، وأخذ يحدق بي وأنا صاحب الشعر الداكن والعيون الداكنة، والتي يعتقد الكثيرون في أوروبا بسببها أنني عربي الأصل، نظر الرجل إليّ مباشرة، وازدادت أصابعه إمساكًا بزناد سلاحه، وكانت تلك أول مرة أقف وجهًا لوجه مع شخص متحفز بهذا الشكل وفي موقف كهذا.
وقفنا نحدق في بعضنا البعض لدقيقة؛ أنا، اليهودي القادم من نيويورك، وهو، الفرنسي العازم على التضحية بحياته لحماية مكان عبادتي، ثم انصرفت.
المصدر: نيويورك تايمز