هذه المقالة هي ختام السلسلة التي بدأناها قبل أشهر في محاولة لكتابة موجز مختصر لتاريخ اتصال المسلمين بالغرب، فبدأنا بموجز تاريخ الصدام والحروب في أربعة مقالات (جـ1، جـ2، جـ3، جـ4)، ثم شيئًا مما نبت على ضفاف الحروب الإسلامية الغربية من علوم معارف، ثم العلاقات السياسية السلمية في السفارات في مقالين (جـ1، جـ2) ثم ما جلبه لنا الرحالة المسلمون من معرفة بالغرب عبر الرحلات الإسلامية إلى الغرب، ثم ما أثمرته حركة البحث العلمي من معرفة بالغرب في مقالين (جـ1، جـ2) هذا ثالثهما وختامهما، وفيه نواصل الحديث عن حركة البحث العلمي الإسلامي في احتكاكها بعلم الغرب وفنونه وشعوبه.
4. الفلسفة
ولئن كانت ساحة مقارنة الأديان تشعل الحدود الإسلامية الغربية، فلقد كانت ساحة الفلسفة تشعل القلب الإسلامي، وذلك أن اختلاط الفلسفة اليونانية بالعلوم – وخصوصًا الطب – جعل ترجمات الكتب العملية تحمل في بطنها الفلسفة اليونانية معها، وقد أُعجب كثيرٌ من المسلمين بالمنطق اليوناني كـ “وسيلة علمية” أو “معيار علمي” يضبط التفكير ويساعد في تصور المسألة العلمية وتقسيمها، وثار الجدل المشهور حول احتياج المسلمين لهذه الوسيلة اليونانية، وما إذا كانت حقًا مجرد وسيلة معيارية محايدة تستخدم لخدمة علوم الشريعة، أم هي جزء من فلسفة لا تنفك عنها ومن ثَمَّ تحتوي على ما يخالف الشريعة وينبغي نبذه؟!
ومن هنا انقسمت الساحة الإسلامية إلى ثلاثة اتجاهات كبرى عُرفوا بهذه الألقاب:
الأصوليون: وهم الذين رأوا أن الإسلام مستغنٍ بنفسه عن غيره، وأن الشريعة تحتوي في نصوصها ما يبني منطقها الخاص المكتمل الذي لا تحتاج معه لفلسفة اليونان أو منطق أرسطو، ونُقل عنهم الكثير في “ذم علم الكلام” و”ذم المنطق” ونحو هذا، وأبرز من يمثلهم الإمام الشافعي وابن تيمية.
الكلاميون: وهم الذين رأوا أنه يمكن استعمال الفلسفة وعلم الكلام في نصرة الشريعة، ما دام القائم بهذه العملية من أهل العلم الراسخين الذين يستطيعون التمييز بين الغث والثمين ولا تذهلهم معرفتهم بالفلسفة عن قواعد الشريعة، ونُقِل عنهم الكثير في “إلجام العوام عن علم الكلام”، ورفع التناقض بين الفلسفة والشريعة وإثبات “ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، وأبرز من يمثل هؤلاء هم الإمام الغزالي والباقلاني وابن رشد.
الفلاسفة: وهم أولئك الذين توفروا على منطق أرسطو وفلسفة اليونان بالشرح والتحليل ونصرة آرائهم والإضافة إليها والدفاع عنها، وأبرز من يمثلهم: الكندي والفارابي وابن سينا.
وكان بين هذه الاتجاهات الثلاثة سجال واسع وجدل قوي، وصدرت فيه مؤلفات غزيرة من أشهرها: “تهافت الفلاسفة” للغزالي، و”تهافت التهافت” لابن رشد، و”درء التعارض بين العقل والنقل” لابن تيمية، و”ترجيح أساليب القرآن على قوانين المبتدعة واليونان” لابن الوزير اليمني، و”مصارعة الفلاسفة” للشهرستاني، وغيرها كثير.
والشاهد أن كل هذا السجال الفكري احتاج إلى بحث وتفتيش واستيعاب لما وفد من هذه الفلسفة، ومقارنتها بما لدى المسلمين، لكي يثمر هذا موقفًا واتجاهًا.
5. العمارة والفنون
إذ ما إن بدأ المسلمون في صناعة العمران حتى كان المثال القائم بين أيديهم هو تراث وآثار الفرس والروم، وفيما يخص الروم، فلقد استعان المسلمون بأهل الصنائع والفنون في إنشاء آثارهم المعمارية الأولى مثل مسجد قبة الصخرة والجامع الأموي في دمشق.
وقد راسل الوليد بن عبد الملك إمبراطور الروم ليبعث إليه بمائتين من الصُنَّاع حين عزم على بناء جامع دمشق [1]، كما أهدى إمبراطور الروم إلى عبد الرحمن الناصر أمير الأندلس حوضًا فسيحًا منقوشًا بالذهب [2]، وأخبار الهدايا بين الملوك كثيرة وشيقة حتى ما يُدرى أهي من مبالغات الرواة أم من تفنن الملوك في عروشهم.
وعدَّد الجاحظ ما يجلبه المسلمون من الروم فكان منها: “الأقفال المحكمة واللورا [3] ومهندسو الماء وعلماء الحراثة والأكارة وبناة الرخام” [4].
وحُمِلت في بعض الحروب آثار إلى بلاد المسلمين، كأثر من آثار النصر، وهو أيضًا دليل على الإعجاب والفخامة، منه ذلك الباب الكبير الذي أخذه المعتصم من عمورية حين فتحها ووضعه في قصر الخلافة ببغداد [5].
6. خصائص الشعوب
لقد كتب المسلمون أيضًا في “خصائص الشعوب” الذي يسمى في العلوم الحديثة “الشخصية الإقليمية” أو “الأنثروبولوجيا الاجتماعية”، وحفل الغرب (الروم) بكثير من الأوصاف التي انتثرت في كتب الجغرافيا والبلدان والتاريخ.
وتورد رواية متقدمة عن طبائع الشعوب أن الحجاج سأل فروخ زادان عن أهل الأمصار، فسأله عن أهل الشام فقال: “نزلوا بحضرة الروم فأخذوا من ترفهم وصناعتهم وشجاعتهم” [6]، وثمة رواية متأخرة تنحو إلى الذم فتقول: “جاور أهل الشام الروم، فأخذوا عنهم اللؤم وقلة الغيرة” [7]، ويصف إسماعيل بن عبد الله الشعوب لأبي جعفر فيقول عن الروم إنهم “أهل كتاب وتدين” [8]، وتصف رواية منسوبة لابن عباس الروم بالنجابة، بل بأنهم حازوا تسعة أعشارها “قسمت عشرة أجزاء فتسعة منها في الروم وواحدة في سائر الناس” [9]، كما وصفوا في مقام آخر بالبخل فقيل: “أربعة لا تعرف في أربعة: السّخاء في الروم، والوفاء في التّرك، والشجاعة في القبط، والغمّ في الزّنج” [10].
ويشيع في المؤلفات وصف الروم تميزهم في “العلوم والآداب والفلسفة والأحكام والهندسة والحذق بالأبنية والمصانع والقلاع” [11]، وتكرر كثيرًا الثناء على مهارتهم في الرسوم والتماثيل، أحيانًا بنفس العبارات، حتى قيل: “وهم الغايات في التصوير، يُصور مُصورهم الإنسان حتى لا يغادر شيئًا، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره شابًا، وإن شاء كهلاً، وإن شاء شيخًا، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره باكيًا أو ضاحكًا، ثم لا يرضى بذلك حتى يجعله جميلاً ناعمًا عتيقًا، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك السامت، وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستعبر، وبين ضحك السرور وضحك الهازئ، وضحك المتهدد، فيركب صورة في صورة، وصورة في صورة، وصورة في صورة؛ ثم لهم في البناء ما ليس لغيرهم، ومن الخطر والنجر والصناعة ما ليس لسواهم” [12].
وكثيرًا ما فسَّر المؤلفون خصائص هذه الشعوب بما هم فيه من مناخ وأرض، واعتبروا أن من كان قريبًا من الشمال حيث شدة البرد أو من خط الاستواء حيث شدة الحر لم يكن لهم نصيب في العلوم أو الحضارة، ومن أهم ما ظهر من مؤلفات في هذا المجال كتاب “طبقات الأمم” لصاعد الأندلسي، وهو محاولة رائدة وإن كانت قاصرة [13]، وقد قسم الأمم إلى قسمين: الأمم التي اهتمت بالعلوم والفنون، والأمم التي لم تهتم بالعلوم والفنون، فمن اهتموا بالعلوم: الهند والفرس والكلدان واليونان والروم والقبط (أهل مصر) والعرب وبنو إسرائيل. وتحدث عنهم، ثم تحدث ببعض التقدير عن الصينيين والترك وإن لم يكن لهم باع في العلوم لما للصينيين من مهارة في الصناعات اليدوية التي تحتاج صبرًا ومثابرة، ولما للترك من فروسية وإتقان لآلات الحرب.
وأما الباقون فيقول صاعد الأندلسي: “وأما سائر هذه الطبقة التي لم تُعن بالعلوم، فإفراط بعد الشمس عن مسامته رؤوسهم، بَرَّد هواءهم وكَثَّف جَوَّهم، فصارت لذلك أمزجتهم باردة وأخلاطهم فجة، فعَظُمت أبدانهم وابيضَّت ألوانهم، وانسدلت شعورهم، فعدموا بهذه دقة الأفهام وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشا فيهم العمى والغباوة كالصقالبة والبرغر ومن اتصل بهم. ومن كان منهم ساكنًا ريبًا من خط معادلة النهار وخلقه إلى نهاية المعمور في الجنوب فطول مقارنة الشمس لِسَمْت رؤوسهم أسْخَنَ هواءهم وسخف جوهم، فصارت لذلك أمزجتهم حارة وأخلاطهم محرقة، فاسودت ألوانهم وتفلفلت شعورهم، فعدموا بهذا رجاحة الأحلام وثبوت البصائر وغلب عليهم الطيش وفشا فيهم النوك [14] والجهل مثل من كان من السودان ساكنًا بأقصى بلاد الحبشة والنوبة والزنج وغيرها” [15].
وقد ظل هذا التفسير قائمًا حتى بعد صاعد بأربعة قرون، فنحن نقرأه مرة أخرى عند ابن خلدون.
—————————————
[1] ابن عساكر: تاريخ دمشق 2/258.
[2] المقري: نفخ الطيب 1/527.
[3] لم أهتدِ إلى معناها، ولم أجدها فيما أعرف من كتب المعاجم.
[4] الجاحظ: التبصرة بالتجارة ص 26.
[5] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 3/344.
[6] ابن الفقيه: البلدان ص 164.
[7] النويري: نهاية الأرب 1/295.
[8] الطبري: تاريخ الطبري 4/522.
[9] النويري: نهاية الأرب 1/293.
[10] النويري: نهاية الأرب 1/294.
[11] ابن الفقيه: البلدان ص 512.
[12] نشوان بن سعيد: الحور العين ص 227، 228. وهو ينقل عن كتاب الأخبار للجاحظ وهو مفقود.
[13] في مسألة تأثير الجغرافيا على شخصية الإقليم وسكانه، انظر مقدمة د. جمال حمدان لكتابه “شخصية مصر”، فقد حشد كثيرا من الأدلة وأقوال الجغرافيين والفلاسفة حول هذا الموضوع.
[14] النوك: الحمق.
[15] صاعد الأندلسي: طبقات الأمم ص 8، 9.