ترجمة وتحرير نون بوست
تبدو فكرة مجنونة، أن يستيقظ قاطنو السوق الأوروبية ذات صباح ليجدو شيكًا في صندوق بريدهم بقيمة 500 يورو، أو ربما 3000، كهدية من البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت، ولكن السيناريو ليس عبثيًا كما يبدو، إذ يناقشه بالفعل الأكاديميون والخبراء الماليون منذ فترة، بل ويطالب بعضهم رئيس البنك الأوروبي، ماريو دراغي، بتنفيذه بالضبط عبر طباعة الأموال وتوزيعها على الناس!
المنطق الكامن خلف هذا الاقتراح غير المنطقي، هو أن متلقي الأموال سيتجهون فورًا إلى الأسواق وينفقونها، ليوقظوا عجلة الاقتصاد الأوروبي النائمة، ويدفعوا الشركات لزيادة إنتاجها وتعيين المزيد من العمال، وتباعًا، إلى النمو الاقتصادي وارتفاع ضروري في الأسعار.
بين الهليكوبتر وزجاجة الكاتشب!
حاليًا، يتجاوز معدل التضخم الأوروبي بالكاد الصفر، وتزداد المخاوف من حدوث انكماش يجلب أزمة اقتصادية شبيهة بالكساد الكبير الذي ضرب الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، ببساطة، لقد فقد البنك المركزي الأوروبي قدرته على التحكم في استقرار اليورو.
في وضعٍ كهذا، ترتفع الأصوات بين الاقتصاديين والمتخصصين الماليين، الداعية إلى مفهوم “المال الهليكوبتر”، والذي سمي بذلك الاسم لأنه أشبه بنثر النقود عبر البلاد باستخدام المروحيات، وهي فكرة جذبت يومًا ما الاقتصادي الحائز على نوبل في الاقتصاد، ميلتون فريدمان، وتثير اليوم نقاشًا محتدمًا بين مسؤولي البنك المركزي والأكاديميين في أوروبا.
يقول مؤيدو تلك الفكرة إنها ليست مجرد اقتراح مجنون، ولكنها في الواقع إعادة تفكير في كافة أسس السياسة المالية القائمة اليوم، ببساطة لأن ماريو دراغي وزملاءه قد استنفذوا كافة السبل المالية التقليدية لمكافحة الانمكاش كما هو واضح للجميع.
فشلت كافة جهود البنوك المركزية حتى الآن لأنها لم تعط التمويل إلا للمؤسسات المالية، فالبنك المركزي الأوروبي إما أقرضها بفوائد قليلة، أو اشترى منها ضمانات، آملًا أن تقوم هي بدورها بإقراض الشركات والمستهلكين بقيمة أكبر، وقد فشل بطبيعة الحال هذا النهج لأن الشركات نفسها مديونة بدرجة تجعلها تبتلع أي نقود تتحصل عليها، وهو ما يعني أن الأموال التي يضخها البنك الأوروبي لا تصب في النهاية في عجلة الاقتصاد كما كان مأمولًا.
تعليقًا على هذا، يقول سيلفين بروير، الاقتصادي الأوروبي لبنك الاستثمار الفرنسي ناتيكزيس: “سيكون أكثر منطقية وواقعية أن نأخذ الأموال من البنك المركزي الأوروبي ونوزعها مباشرة على الناس لمكافحة الانكماش، لاسيما وأن التريليون يورو التي يقول دراغي إن البنك أنفقها على خطط الإنقاذ الاقتصادي ستكفي لإعطاء كل مواطن في السوق الأوروبي 3000 يورو نقدًا”.
بدوره، يقول دانييل شتيلتر، مؤسس مركز “بيوند ذا أوبفيوس” في برلين، والمستشار المالي السابق في شركة بوسطن كونسالتينغ، إنه يمكن في الواقع منح 5000 إلى 10000 يورو لكل مواطن، “يجب أن يكون حدثًا ضخمًا إذا ما أردنا أن يكون له تأثير”، إلى ماذا تستند تلك الأرقام؟ معظمها تعود لأكاديميين عملوا في الولايات المتحدة، حيث قامت الحكومة هناك بالفعل بتزويد المواطنين بالكاش في السابق في شكل تخفيضات لإنعاش الاقتصاد.
يعود الاقتصادي بجامعة أوكسفورد، جون مولبوير، بذاكرته إلى العام 2001، حين أعطت الولايات المتحدة 300 دولارًا لدافعي الضرائب في شكل تخفيضات بعد أزمة Dot.com، ويقول إن 500 يورو ستكون كافية في أوروبا هذه المرة لحل الأزمة الاقتصادية.
رُغم ذلك، لاتزال الفكرة تثير حفيظة وقلق مسؤولي البنك المركزي الأوروبي والاقتصاديين المحافظين، إذ يحذّر كبير اقتصاديي بنك كومِرزبانك، ثاني أكبر بنك خاص في ألمانيا، يروج كرامر، بأن المقترح سيكون خطأ كبيرًا، “إذا ما أعطى البنك المركزي الأموال مرة واحدة هكذا، لن تكون تلك المرة الأخيرة، وسيطلب السياسيون المزيد منها في كل مرة”.
يرد مولبوير على تلك المخاوف بتوضيح امتلاك البنوك لهدف محدد، وهو وصول التضخم لـ2 ٪، مما يعني أن هذه الخطوة ستتوقف حال تحقيق الهدف، ولكن النقاد يقولون بدورهم إن السياسة المالية لا يمكن ضبطها بسهولة كما يقول، خاصة فيما يخص التضخم، والذي قد يندفع مرة واحدة إلى معدلات غير مرغوب فيها في نهاية المطاف، كزجاجة الكاتشب التي تضربها فلا تعطيك شيئًا، ثم تنسكب مرة واحدة دون سابق إنذار.
الثقة والإنفاق
العامل الأساسي المحدد لإنفاق الناس للمال من عدمه، هو إيمانهم بأن ما يكلف 10 يورو اليوم، سيظل على حاله في المستقبل القريب، وأن السيارة المتوسطة التي تكلف 100 ألف يورو، لن يتضاعف سعرها بعد خمس سنوات، إذا ما انهارت تلك الثقة، ينهار معها تلقائيًا النظام المالي.
ألمانيا تحديدًا مرت بتلك التجرية في عشرينيات القرن الماضي، وكان سبب الأزمة الشهيرة هو دفع الرايخ الألماني لمصاريف الحرب عبر طباعة الأموال؛ مما أدى إلى خروج الوضع عن السيطرة حين فقد المواطنون ومقرضو الدولة ثقتهم في المارك الألماني، ورفض المستثمرون منح الدولة المزيد من الأموال، بل وأصبح الأطباء يطلبون المقايضة مقابل خدماتهم الطبية بدلًا من الأموال، في النهاية، ارتفعت الأسعار بشكل جنوني حتى أصبحت تكلفة رغيف الخبز 140 مليار مارك.
هذا بالتحديد ما يخشاه كرامر، “ما إن يشعر الناس بأن الأموال تنهمر عليهم من السماء، سينتشر الشعور بالقلق وعدم اليقين تجاه التضخم في المستقبل”. يتفق معه توماس ماير، كبير اقتصاديي دويتشه بانك السابق، ويقول إنه حتى إذا ما اتجه الناس إلى الأسواق لإنفاق الأموال التي أعطاهم إياها البنك المركزي، لا يمكن ضمان زيادة الشركات لمعدل إنتاجها، وهو ما يعني زيادة التنافس بين الناس على السلع المُتاحة، وتباعًا حدوث ارتفاع الأسعار المرغوب لكن دون إنعاش الاقتصاد الذي رمت إليه الفكرة من الأصل، يشير الاقتصاديون لتلك الظاهرة بـ “التضخم الراكد” Stagflation.
لذلك، قام ويليم بوتر، كبير الاقتصاديين المرموق لدى العملاق المالي الأمريكي “سيتي جروب”، بتعديل فكرة المال الهليكوبتر، وهو يدعو الآن صناع القرار ومسؤولي البنك المركزي لتنسيق العمل فيما بينهم، بحيث تقوم الدولة بتحسين التنافسية الاقتصادية عن طريق الإصلاحات، بجانب استثمار الأموال في مشاريع البنية التحتية أو إعطاء النقود للمواطنين لتشجيع الاستهلاك، بدوره، سيقوم البنك المركزي بتمويل تلك السياسة عبر شراء السندات الحكومية.
لا يهتم بوتر كثيرًا بقواعد الاتحاد الأوروبي التي تمنع البنك المركزي الأوروبي من هذا التدخل المباشر من قبل الدولة في تمويل الخطة، وهو يعتبر أن المادة 123 من اتفاقية لشبونة التي تتناول هذه القضية كارثية، وأن الخطة لن تكون خطرًا على استقلالية البنك المركزي، “الاستقلالية لا تعني ألا ترد على الهاتف إذا كان الطالب هو وزير المالية”، كما يقول، “الاستقلالية تعني أن تقول لا حين تريد ذلك، أما التعاون والتنسيق بين السياسة المالية والنقدية، فهو أمر لا يخالف هذا المبدأ”.
تعطينا تجربة رئيس الوزراء الياباني، شينزو أبِه، الذي دخل السلطة عام 2012 سابقة في سياسة كهذه، حيث كانت بلاده تعاني من الانكماش والركود لعقود، أعلن أبِه عن إصلاحات بنيوية مع برنامج استثمار ضخم، ودفع البنك المركزي إلى تمويله، منذ ذلك الحين، أنفق البنك الياباني تريليونات، ولكن لتجد البلاد نفسها في حالة ركود مجددًا.
المثير في النموذج الياباني هو أنه دليل يستخدمه مؤيدو ومعارضو المال الهليكوبتر، هل النموذج دليل على عبثية محاولة البنك المركزي مكافحة المشاكل النقدية البنيوية؟ أم دليل على أن الأموال السائلة لا تؤتي أكلها إلا حين يضع السياسيون الأساس الضروري لها؟
لا نعرف بالقطع إجابة لهذا السؤال لأن أبِه فشل في تمرير إصلاحاته، بيد أن السياسة النقدية وحدها ليست كافية للخروج من حالة الركود، كما يُقرّ بوتر مؤيد فكرة المال الهليكوبتر، وهو عين ما يقوله معارضو الفكرة.
المصدر: دير شبيغل