وقع حادث مجلة تشارلي إيبدو قبل ساعات قليلة من آخر محاضرة لي في تلك الجامعة الهولندية المعروفة عالميًا بقسم الدراسات الاجتماعية والثقافية بها، اتسمت الدراسات الاجتماعية والثقافية في غرب أوروبا وفي هولندا على مدار العشرين عامًا الأخيرة بادعاء بإعادة تقييم التراث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي الاستشراقي والمتمركز حول الغرب في الفترة السابقة، أو كما يُفضل العديد من الأكاديميين العاملين بهذه المؤسسات وصف ما يفعلونه بأنه “إعطاء الصوت لمن لا صوت لهم”.
دخل الأستاذ الجامعي الستيني وعلى وجهه تعلن حركة تجاعيد السن غضبًا يشتعل، بدأت المحاضرة بعد لحظة من الصمت على الضحايا، كانت المحاضرة جزءًا من مادة دراسية عنوانها: “السياسة؛ التحاكم والإثنية”، بدأ الأستاذ حديثه عن الواقعة واصفًا إياها بالجريمة، لينتهى مشيرًا إلى أن مثل هذا الهجوم على أحد مبادئ الديموقراطية الأساسية والمركزية يماثل أن يقوم الغرب بقصف مكة للمسلمين، لم يتوقف الحديث عند هذا واستمر ليبدأ الأستاذ في طرح نقاش جاد ومنفتح مع الطلبة من كافة الخلفيات حول كل من رمزية هذا الهجوم، موقع حرية التعبير من الديموقراطية وأين يمكن رسم حدودها، وطبيعة علاقة العرب والمسلمين من المهاجرين بالنظم الديموقراطية في البلاد التي لجأوا إليها.
إلا أن الغضب لم يترك الأستاذ حتى مع نهاية المحاضرة والنقاش.
أثار هذا الموقف عددًا من التساؤلات في داخلي، لم يتسبب حديث الأستاذ عن قصف مكة في إثارة غضبي كما كان من الممكن أن يحدث خارج هذا السياق، ولكن كان الشعور الرئيسي هو عن جدوى كل هذه المؤسسات الأكاديمية العملاقة والأساتذة الذين قضوا عشرات السنين في التنقل بين المكتبات والكتب، فكيف بعد كل هذه العمر من التدريس والقراءة والتدريب يحدث أن يدخل هذا الفرد الذي هو بالأساس ناقد اجتماعي إلى مثل هذه الحالة من الغضب وانحسار ادعاءات العقلانية؟ كيف لهذا الفرد أن ينسى للحظة كل ما يعرفه بل ويدرسه للطلبة عن تناقضات المجتمعات والدول الأوروبية ويخلع عن نفسه رداء المعرفة ليتجرد لمعركة غوغائية تمامًا في سجالاتها وأهدافها.
تستمر الدوائر الأكاديمية الغربية حتى اليوم في التمحور حول زعم أن المعرفة وسيلة قادرة على تحرير الأفراد والمجتمعات من أغلال الواقع والطبيعة، وأن مع توسع وتقدم المعرفة بشقيها الأدبي والتكنولوجي يستطيع الإنسان أن يسمو عن الطبيعة أكثر فأكثر، هذا الزعم يعود في أصله إلى إيمان أصيل ومحوري في فلسفات عصر التنوير والثورة العلمية.
لكن الفشل الذريع وملايين القتلى في حربين عالميتين كان كافيًا لهدم ادعاءات التحرر والتسامي هذه إلى الأبد، بات واضحًا أن المعرفة والتقدم يكبلان، وأن استكمال السير على طريق الحداثة كفيل بأن يسوق أصحاب المعرفة والعلم غير المسيسين إلى حتفهم جنونًا، فالمعرفة أثبتت أنها عبئًا ومسؤولية شديدة الصعوبة والخطورة، وفي الأغلب بلا جدوى ولا أمل حقيقيين.
إلا أن الغريب في الأمر أن على مستوى النشر العلمي والأكاديمي؛ يزعم المجتمع العلمي الاجتماعي والفكري تخطيه هذا الإرث الحداثي ووجوب تطوير مجموعة من الأفكار تتناسب مع حقبة ما بعد الحداثة بل وحتى ما وراء الحداثة كما يزعم بعضهم، إلا أن الأداء السياسي والفكري لغالب المنتمين لها المجتمع يعاكس ذلك تمامًا.
يبزغ السؤال هنا: إذا كانت هذه هي ردود الأفعال الناتجة عن أشخاص يفترض أنهم ذوي معرفة حررتهم من قيود الواقع والدولة، فأين هو التحرر وأين هي المعرفة؟
يمكن بسهولة تحديد بعض الإشكاليات في غضب الأستاذ وتعليقه، خصيصًا إذا أخذنا الغضب الشعبي العارم في فرنسا ونزول الملايين إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم و”وحدة الأمة الفرنسية أمام الإرهاب”.
1- يظهر تمامًا من مقارنة الأستاذ للهجوم على المجلة بقصف مكة حالة من التكاسل والتخاذل المعرفي، فالأستاذ المُتخصص في مجال نظم التحاكم وتاريخ مفاهيم الدولة القومية الحديثة يعلم تمامًا أن هذه مقارنة لا تصح من الناحية المنطقية لأنها تجمع بين أطراف لا تنتمي لنفس السياقات، ولا يوجد بالأساس مجال للمقارنة بينها، ما أود الإشارة إليه هنا تحديدًا هو استعداد هذا الأكاديمي الكبير التام للتخلي عن كافة الأدوات المنطقية والعلمية التي اكتسبها على مدار حياته الطويلة لينساق حول غضب الدفاع عن مجموعة من المبادئ يقوم عمله بالأساس على تحديد ما بها من تناقضات وعيوب.
حدد الناقد والفيلسوف الألماني، والتر بينيامين، ثلاثة عشر نقطة هي أساس عمل أي ناقد سواء كان أدبيًا أم اجتماعيًا، كتبت هذه النقط في الفترة التي بدأ فيها بزوغ نجم كل من الحزب النازي والفاشي بدعم رهيب وتهليل من الجماهير الألمانية والفرنسية، كانت آخر هذه النقاط وأهمها هي: “الجمهور يجب أن يُـثـْبَت، دومًا، بأنه مخطئ، وأن يشعر، مع ذلك، بأن الناقد ينطق باسمه”.
فما هذا الذي يفعله الأستاذ الأكاديمي الناقد بالسير في ركب الجمهور.
2- في مقالة مرسومة له في جريدة الغارديان، استعجب الرسام البورمي الأمريكي، جو ساكو، عن كيف يستطيع الناس الغضب في مثل هذا الموقف، كيف يصبح الإنسان قادرًا على استخدام مثل هذه التراجيديا كمركبة يحملها بتحيزاته وآرائه السياسية والفكرية عوضًا عن التوقف للحظة والشعور بالحزن؟ ألا يصبح موت اثنا عشر شخصًا كافيًا لإعادة النظر إلى المسار المسلوك حتى الآن؟
استطيع أن أزعم أن غضب الأكاديمي والناقد في مثل هذه اللحظات لا يمثل إلا خيانة لكل ما يمثله علمه وعمله، وأن عدم شعوره بالحزن في صورته الأسوء وبالهزيمة لهو أيضًا خيانة لضميره ولمستقبل أجيال يكتب عليها أن تعيش في غي لأن حزن الناقد الاجتماعي لم يكن كافيًا ليرسل قلمه على الأوراق مشيرًا لأمراض هذا الزمن المزمنة.
أثبتت الجماهير حتى اليوم فشلها الذريع في تقديم تغيير اجتماعي واعي حقيقي، وأثبتت القارة الأوروبية العجوز تسلل مرض الزهايمر إلى ذاكرتها؛ فبينما يمثل عام 2015 الذكرى السبعين لنهاية الحرب العالمية الثانية والأفتك في تاريخ الإنسانية، تصرخ الجماهير في كافة ميادين أوروبا منادية بعودة الروح القومية للدول وحفظ الهويات المحلية في نزعات يمينية يميل أغلبها للتطرف، نست أوروبا أو تناست الماضي الفاشي والنازي القريب تحت عبء الكساد الاقتصادي وانحسار القدرة الشرائية للجماهير.
تحدث بيندكت أندرسون في كتابه عن نشأة الدول القومية الحديثة كجماعات متخيلة لا يربط أفرادها ببعض سوى عدد من الخيالات المشتركة التي يعمل الإعلام على الإبقاء عليها عن أهمية الأعياد القومية، ومن الممكن فهم كلمة العيد بحيث تحتمل كل من الأيام السعيدة والحزينة في تاريخ الدول، شبه أندرسون هذه الأحداث الجليلة بمغناطيس يُلقى في خليط من برادة الحديد والخشب، يستطيع المغناطيس جمع برادة الحديد لتتوحد حوله بينما تبقى برادة الخشب على تناثرها في كل مكان بعيدًا عن المركز، أتى هذا الحدث وفقًا لكلام عدد كبير من الفرنسيين في وقت تشتت فيه الفرنسيون حول عدد كبير من المشاكل والآراء، إلا أن الأمة الفرنسية المتخيلة كانت أحوج ما تكون إلى حدث ذا رمزية عملاقة يعيد التأكيد على الروابط المتخيلة بين أفرادها من كافة التوجهات، ليبقى جميع الأفراد منشغلين بالدفاع عنها عوضًا عن إعادة التفكير فيها وتقييمها لتلافي آثار فشلها في عدد من التحديات السابقة القادمة واحتمالية الحرب التي ستفتك بأوروبا مرة أخرى في غضون سنين.