ترجمة وتحرير نون بوست
في تمام الساعة الحادية عشرة مساء الخامس من سبتمبر 2007، حلقت عشر طائرات إف 15 من القاعدة الإسرائيلية في رمات ديفيد جنوبي حيفا، واتجهت نحو البحر المتوسط في مهمة تدريبية. بعد نصف ساعة، تلقت ثلاث طائرات أوامر بالعودة، في حين غيرت السبع المتبقية طريقها واتجهت لتركيا نحو الحدود السورية، لتشوّش على محطة رادار بإشارات إلكترونية، وتصل إلى مدينة دير الزور خلال 18 دقيقة، وتقصف الهدف المطلوب: مجموعة أبنية تُعرف بالـ”كبار” في شرق المدينة. بعد تدمير الهدف تمامًا باستخدام قذائف مافريك وقنابل تزن 500 كيلوجرام، عاد الطيارون إلى قاعدتهم، وانتهت عملية “البستان” بنجاح.
في القدس، كانت السعادة تغمر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت ومستشاريه، المعتقدين تمامًا بأن نظام الأسد كان يسعى إلى بناء سلاح نووي، وأن كبار هي المنشأة التي جرت فيها تلك المحاولات، وأن عمليتهم الخطيرة تلك أنقذت العالم من خطر جسيم. في نفس الوقت، لم يرغب أي من هؤلاء في تصعيد المسألة، وهو ما دفعهم لإخفاء العملية بالكامل عن الولايات المتحدة قبل القصف، حيث رن الهاتف في واشنطن فقط بعد إكمال العملية لينقل أولمرت الأخبار السارة إلى البيت الأبيض، كما أن “البستان” ظلت طي الكتمان لأنهم لم يرغبوا في إشاعة ما اكتشفوه، وهو وجود خبراء من كوريا الشمالية يساعدون في بناء المفاعل بدير الزور، وأرادوا التقليل مما جرى لكي يتاح لنظام الأسد هو أيضًا أن يقلل من شأنها ولا يرد عليها، وكيلا تسبب له الحرج.
كان ذلك هو ما حدث بالضبط، فقد انتقد الأسد خرق المجال الجوي السوري وقصف “مخزن” على الأراضي السورية، في حين قالت التصريحات الرسمية أن القوات الجوية السورية تعقبت المهاجمين. في جميع الأحوال، لم يعرف الرأي العام السوري أي شيء عما جرى.
الآن، وكما علمت شبيجل من بعض المصادر الخاصة، يبدو أن الأسد لم يتخلى عن حلم السلاح النووي رغم ما يعانيه، وأنه قد شيّد بالفعل منشأة نووية في موقع سري.
جزيئات اليورانيوم المريبة
كان صعبًا للغاية على النظام السوري أن يخفي نواياه ويدحض الشائعات حيال تلك المنشأة المريبة في وسط الصحراء وأهدافها العسكرية عام 2007، وكان وضع دمشق حرجًا لأنها، على عكس إسرائيل وباكستان، من الموقعين على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، ولأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد طلبت الدخول إلى الموقع، وهو ما أتاحه لها الأسد بالفعل عام 2008 عندما زار الموقع المدمّر حينها خبراء من الوكالة.
الصورة: خريطة توضح الأماكن المحتملة لمنشأة نووية سورية
انكشفت بسهولة كافة محاولات الأسد لتدمير كل آثار ما كان يدور في المنشأة، ولكن المحققين التابعين للوكالة نجحوا في الكشف عن جزيئات يورانيوم مريبة، وهو ما قالت المصادر السورية الرسمية أنه مجرد محاولة للتشويه، ورُغم أن الوكالة لم تجد دليلًا قاطعًا، قررت أن تطلب الدخول إلى ثلاثة مواقع أخرى تحوم حولها الشكوك، لا سيما موقع مرج السلطان شمالي دمشق، وهو ما رفضته سوريا معتبرة إياه افتراء لا سند له.
لم تتضح الصورة فيما يخص العملية الإسرائيلية وتفاصيلها إلا حين جمعت شبيجل خيوطًا مختلفة عام 2009 من عدة مقابلات مع سياسيين وخبراء في العلوم النووية والاستخبارات، ورُغم أن الأسد ظل ينكر حتى ذلك الوقت أي نوايا للحصول على سلاح نووي، كما قال في مقابلة مع شبيجل عام 2009، إلا أن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مايو 2011، وتحقيقًا صحفيًا نُشر في نيويوركر عام 2012، أثبتا بما لا يدع مجالًا للشك أن سوريا كانت تلعب بالنار، وأن المبنى المدمّر كان على الأرجح مفاعلًا نوويًا.
تباعًا، توقف النشاط في الموقع كما أظهرت باستمرار صور الأقمار الصناعية، ولكن هل وضعت عملية “البستان” بالفعل حدًا للطموحات السورية لتطوير القنبلة كما ظن كثيرون؟
مفاعل جديد؟
كانت المنشأة قبل تدميرها على وشك الانتهاء من مهمتها، وكان الكثيرون يعتقدون في ذلك الوقت أن هناك مخبأ سريًا للوقود يكفي لسنة على الأقل، وطبقًا لتحقيقات الوكالة، كانت سوريا تمتلك 50 طنًا من اليورانيوم الطبيعي، وهو ما يكفي لصنع ثلاث أو خمس قنابل إذا ما اكتلمت عملية التخصيب.
بيد أن ما اكتشفته وكالات الاستخبارات الغربية تشير إلى أن الوضع أكثر خطورة مما كان يعتقد الكثيرون، إذ أن الوثائق التي اطلعت عليها شبيجل تثبت أن الأسد ماضٍ في جهوده للوصول إلى القنبلة بالفعل، حيث يقول بعض المحللين أن البرنامج النووي السوري استمر في موقع سري تحت الأرض حيث يوجد 8000 قضيب وقود نووي طبقًا للمعلومات التي حصلوا عليها، كما أنه تم بناء مفاعل جديد على الأغلب.
على ما يبدو، كان بعض اليورانيوم مخبئًا لفترة طويلة في موقع مرج السلطان الذي شكت فيه الوكالة، والذي تُظهِر صور الأقمار الصناعية فيه نشاطات مشبوهة في ديسمبر 2012 وفبراير 2013، وقد أصبح لاحقًا محل نزاع عنيف مع الثوار مما أدى إلى نقل النظام السوري لكل محتوياته الحساسة بمساعدة حزب الله، طبقًا للمعلومات الموجودة الآن لدى الاستخبارات الغربية.
تشير المعلومات الجديدة أنه تم نقل تلك المواد إلى موقع تحت الأرض غرب مدينة القصير، على بعد أقل من كيلومترين من الحدود مع لبنان، وهي عملية تمت بالكاد قبل وقوع مرج السلطان في أيدي الثوار، ثم عودتها إلى قبضة النظام، ومنذ ذلك الوقت والأعين مسلطة على هذا الموقع الذي تجاهله الجميع في السابق معتقدين أنه مجرد مخزن لأسلحة حزب الله.
بمتابعة تفاصيل الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية، اكتشف المتابعون أنباءً مقلقة.
طبقًا للتحليلات، بدأ العمل في الموقع عام 2009، وكانت الرمال المحفورة تُلقى في مواقع متعددة ليصعب على المراقبين معرفة عُمق الحفر بالتحديد، وتُظهِر الصور الأحدث ستة بنايات في الموقع: منزل وخمسة أسقف تخفي المداخل للموقع تحت الأرض، والذي يتمتع بوصول خاص لشبكة الكهرباء، ويلفت الانتباه هنا بئر عميق يربط المنشأة ببحيرة زيتة، وهي وصلة غير مهمة لأي مخزن أسلحة تقليدي، ولكنها ضرورية لمنشأة نووية.
بيد أن أحدث دليل وصلنا على أن المنشأة بالفعل منشأة نووية، هو لموجات راديو تحصلت عليها شبكة جواسيس، وتحتوي على صوت تم التعرف عليه لعضو بارز في حزب الله يتحدث عن “مصنع نووي”، ويذكر فيه القصير بشكل يوحي بأنه على معرفة دقيقة بالمكان، كما أنه يُعطي تفاصيلًا هامة لرجل مهم جدًا: إبراهيم عثمان، رئيس المفوضية السورية للطاقة الذرية. هذا ويستخدم عضو حزب الله اسم “زمزم” للإشارة للمنشأة.
خبراء من كوريا الشمالية
تتضمن المحادثات تفاصيل عن أعمال في الموقع يقوم بها أعضاء بالحرس الثوري الإيراني صاحب الدور الكبير في البرنامج النووي الإيراني، والذي لا يعرف الرئيس الإيراني حسن روحاني كافة نشاطاتها نظرًا لوقوعها تحت إشراف المرشد الأعلى على خامنئي مباشرة.
الخبراء أيضًا على يقين بأن كوريا الشمالية ضالعة فيما يدور في “زمزم”، وقد كانوا بالفعل أثناء بناء منشأة دير الزور، حيث عمل إبراهيم عثمان مع تشو جي بو، مهندس بنى المفاعل النووي الكوري في يونجبيون، وكان يُعتَقَد بأنه اختفى، على الأغلب بسبب خلافات داخلية في كوريا الشمالية كما ظن البعض، ولكنه الآن، كما يعتقد خبراء الاستخبارات الغربية، تحت الأرض في دمشق.
في الواقع، لم يفقد عثمان اتصاله بتشو أبدًا، ولا يبدو أن المنشأة الجديدة كانت لتُبنى من دون الخبرات الكورية، لا سيما وأن صناعة قضبان الوقود تشير بوضوح لضلوع كوريا الشمالية. كيف سيتعامل الغرب إذن مع “زمزم”، وكيف سيتصرف الغرب وجيران سوريا والأسد نفسه حيال تلك التسريبات؟
بطبيعة الحال، لن يرحب أحد بهذه المنشأة الجديد، وستكون في الواقع مصدر حرج للكثيرين. بالنسبة لسوريا وكوريا الشمالية، ستعزز المعلومات الجديدة من مشاكلهم مع المجتمع الدولي، وبالنسبة بحزب الله أيضًا ستبب المزيد من المشاكل، لا سيما في الداخل اللبناني.
تقييم جديد
تأتي تلك التطورات في وقت غير مناسب للحكومة الأمريكية، إذ أن واشنطن تتحرك في حملتها ضد داعش بالتنسيق مع نظام الأسد، حتى ولو أنكر ذلك المسؤولون الأمريكيون، بالإضافة إلى ذلك، وبعد التدمير الكفء لأسلحة الأسد الكيماوية، اعتقدت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن قدرة الأسد على شن حرب غير تقليدية قد انتهت بالفعل، وهو ما يعني أن صناع القرار في الغرب سيحتاجون إلى إعادة تقييم مواقفهم من الأسد ومن المشهد السوري جراء المعلومات الجديد، وخاصة إذا ما تأكد تطوير سلاح نووي سوري.
الموقف شديد الصعوبة خاصة بالنسبة لإسرائيل، والتي تستمر في قصف خطوط إمداد حزب الله، ولكنها لا تعلم شيئًا عن المنشأة النووية الجديدة، وسيكون على قياداتها اتخاذ قرار مستحيل، إما تجاهل “زمزم”، أو القيام بهجوم خطير على المنشأة الموجودة تحت الأرض، وعلى عكس الحال عام 2007، ستحتاج مهمة كهذا إلى قنابل من نوع بانكر باستر Bunker Buster، والتي لا نعرف على وجه دقة آثارها على البيئة، وسيكون على الأرجح قرارًا غير مسؤول، وإن كان اليمينيون في إسرائيل سيجنحون له.
بالنسبة للمراقبين الدوليين في جنيف، لا تبدو الصورة جيدة أيضًا، إذ يظهر رئيس الوكالة الآن، يوكيا أمانو وكأنه قد خُدع من قبل الأسد، وهو الذي كان يحثه في سبتمبر 2014 على التعاون بشكل كامل مع الوكالة لتحل كل المسائل العالقة ولم يتلقى منه ردًا. سيكون الحل الأخير ربما هو طرد سوريا من الوكالة، وهي خطوة غير مرجحة بالنظر لاستمرار موسكو في دعم الأسد في الوكالة كما في الأمم المتحدة.
مؤخرًا، دعت داعش محققي الوكالة لزيارة المناطق الواقعة تحت سيطرتها، والتي استحوذت عليها حول دير الزور منذ بضعة أشهر، وكانت تلك فرصة للوكالة لإلقاء نظرة على المنشأة القديمة هناك، ولكنها رفضت لكيلا تعطي داعش أي نوع من الشرعية. أضف إلى ذلك أن دير الزور لم تعد محط الأنظار الآن، فالخبراء الدوليون في فيينا يواجهون الآن تحديات جديدة على الحدود مع لبنان.
المصدر: دير شبيغل