انتهينا من أحد لقاءات برنامج منتدى الصحافة على قناة فرانس 24 وخرجنا مع المذيع نتحدث أمام البوابة الرئيسية للقناة، فقال أحد ضيوف الحلقة :”في فرنسا تستطيع أن تشكك بوجود الله لكنك لا تستطيع أن تندد بالهولوكوست”، فرد المذيع: أعددنا سابقًا حلقة خاصة عن الهولوكوست واستضفنا من يشكك بها.
قبل ذلك وبعده ناقشت العديد من أبناء الجالية العربية والمسلمة في فرنسا، من الذين يعتقدون أن كل ما يُدار على الإعلام الفرنسي مدبر بشكل مسبق، وبسبب ذلك تعمدت انتقاد الحكومة الفرنسية في اللقاءات اللاحقة، حيث قلت: “الفرنسيون كذبوا علينا” في معرض حديثي عن الثورة السورية، وحمّلت المخابرات الفرنسية مسؤولية ذهاب الجهاديين إلى سوريا وبقائهم هناك، وطالبتها بإعادتهم حيث يرغب بعضهم بالعودة بعد أن اصطدم بالواقع، وبأنه لا يجوز قطع الطريق عليهم، ونددت بتصريحات رئيس الجمهورية الفرنسية فرانسوا هولاند عنهم حين قال “سوف نحاربهم ونحاربهم..”، والحقيقة التي نسيت قولها على القناة، أن جزءًا ممن يحملون الفكر القتالي يندمون بعد الانخراط به، ولعل ذات الفكرة اختصرها المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه عندما قال “خرجنا كثوار بسبب إعجابنا بالأدب الغرائبي فوجدنا الواقع مختلف”، ولا تبتعد نصوص الجهاد والأحاديث التي تتحدث عن الملائكة وغيرها من المعجزات، عن الأدب الغرائبي.
أما اللقاء الأكثر إثارة كان مع الزميل توفيق مجيد حيث استضافني في برنامج الحدث للتعليق على حلقة بعنوان “السعودية.. هل تستفيق الخلايا الإرهابية النائمة؟”
وذكرت أثناء اللقاء أن أمريكا تتحمل السبب بصعود الجهاديين، حيث كانت قد نمتهم وقوتهم أثناء حقبة الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان، بالتواطؤ مع العائلة المالكة السعودية، وأن ما يتعرض له الفلسطينيون من قمع وتهجير، وأبناء العالم العربي من اضطهاد الحكومات الحليفة للولايات المتحدة، جعل الشارع العربي يعتبر بن لادن بطلاً – ليس الجميع بالطبع – ويبرر ما يقوم به الجهاديون، واستشهدت بمقولة نعوم تشومسكي “العرب ساندوا بن لادن ليس بسبب أفكاره وإنما بسبب ظلم أمريكا لهم”، وأضفت أن العديد ممن أيدوا بن لادن بعيدين عن الدين وتعاليمه وقريبين جدًا من ارتكاب المعاصي.
كل ذلك ذكرته ولم يعترض طريقي أحد، وكنت إذا حاورت أحد أبناء الجالية الإسلامية أقول له أنا شخصيًا خرجت وشتمت وتحدثت وبررت وجود الجهاديين، والإجابة التي أتلقاها منهم لا تبتعد عن المثل القائل “عنزة وإن طارت”.
حديثي السابق والذي يبرز وجهة النظر السياسية ويوليها الاهتمام، بالطبع لا يعكس المشهد بالكامل، فعلاقة العالم الإسلامي مع الغربي الحديث تتداخل بها العديد من العناصر المتشابكة والمتشعبة؛ ما يحيل المشكلة إلى إشكالية عويصة؛ فالصراع بين الشرق والغرب قائم قبل المسيحية والإسلام، فقبل الإسلام شعرت روما بالخطر من مملكة تدمر بقيادة الملكة زنوبيا والتي وصلت حدودها لشواطيء البسفور “شاطيء إسطنبول” وحركت جيوشها للقضاء عليها، وقبل المسيحية حاول هانيبال عبور جبال الألب بالفيلة للانقضاض على روما، بعملية تعكس إصرارًا وقوة بأس شديدة.
من ناحية أخرى وأهم، لا يمكن إغفال ما أغفلته عمدًا في لقاءاتي التلفزيونية على فرانس 24، حيث كنت أحاول أن أفند الاعتقادات السائدة في العقل العربي والذي يسقط تصوراته التي تنطلق من تعميم واقعه على الآخرين، والتي توصله لنتيجة أن الجميع يمارس القمع ويغيب الحقائق، فتحدثت عن الجانب السياسي الذي يشغل المسلمين على حساب الجانب الأيدلوجي في الحضارة الإسلامية والتي لازالت في مرحلة المراهقة السياسية والفكرية، على العكس من اليهودية والمسيحية التي نضجت، والشاهد اليوم أن صحيفة شارلي إيبدو التي انتقدت كل الديانات طالتها أيدي المسلمين فقط.
وعن الجانب الأيدلوجي الذي أغفلته لابد من الإشارة بأن الأيدلوجيا الإسلامية بقيت ضمن المراهقة الفكرية، أولاً لقلة عدد المفكرين والفلاسفة في الحضارة الإسلامية، وبالتالي غياب النقد للفكر الإسلامي السائد وتحريره من جماعات الإسلام السياسي، على العكس من اليهودية والمسيحية والتي أنتجت العديد من المفكرين والفلاسفة الذين أناروا الطريق لشعوبهم كسبينوزا وفولتير، ولعل القارئ هنا يطرح العديد من أسماء المفكرين العرب وهذا صحيح، لكنهم أيضًا وبالرغم من قلتهم مقارنة بالغرب، فهم ليسوا فاعلين في وسطهم الاجتماعي الذي مازال يرفضهم منذ نكبة ابن رشد في المغرب العربي، ووصول المتوكل للحكم في المشرق وقمعه للمعتزلة الذين مثّلوا الإرث العقلاني في الحضارة الإسلامية، ولذات السبب – رفض المجتمعات العربية لمفكريها – نجد أن العديد منهم اختاروا طريق التحالف مع الديكتاتوريات ضد مبدأ الديمقراطية والتي يعتقدون أنها لا تليق بهذه الشعوب.
أما السبب الثاني فهو غياب التعليم المسؤول والمعني بتطوير المجتمعات حيث ينحصر التعليم في البلدان العربية والإسلامية على تمجيد الديكتاتور وبأن الحياة بالكامل هي ما قبل وما بعد هذا الديكتاتور، الديكتاتور المعني بملذاته وشؤونه الشخصية وجيشه وقواه الأمنية وكل من يوفر الحماية له ولما ينعم به.
ومنذ ذلك الوقت – نكبة ابن رشد – والإسلام يعيش في حالة إنحطاط فكري، وهو ما أسماه المفكر محمد أركون “الخروج من المرحلة الكلاسيكية إلى المرحلة السكولائية”؛ أي من مرحلة الاجتهاد والمقارعة الفكرية إلى المرحلة الاتباعية المدرسانية الاجترارية البعيدة كل البعد عن حاضرها والتي تعيش في الماضي.
الآن وبعد الهجمة الإرهابية التي تعرضت لها مجلة شارلي إيبدو، عادت المساءلات التي تتحدث عن الأيدلوجية الإسلامية، وفي زحمة الأصوات التي تتحدث عن الأمر، ارتفع صوت عربي مفاده أن المخابرات الفرنسية أو الموساد الإسرائيلي يقفون خلف العملية لتشويه صورة الإسلام، وبهذا يحاول هذا الصوت دفع الأصوات بعيدًا عن نقد الفكر الإسلامي السياسي السائد حاليًا، ولعل هذه الأصوات ذاتها غير مقتنعة بما تردده، فبهذا الصدد، أذكر أني حاورت شخصًا يتهم الموساد أو المخابرات الفرنسية بتدبير عملية الهجوم على مقر مجلة شارلي إيبدو، فأسمعته خطبة على اليوتيوب للوهابي محمد العريفي يتحدث فيها عن وجوب قتل كل من يهزأ بمحمد، تحدث العريفي لمدة 12 دقيقة مستشهدًا بنصوص إسلامية بحتة، تُلهب الحماس في قلوب المستعمين، فما إن انتهى مقطع اليوتيوب حتى قال من يتهم الموساد “نعم أنا مع قتل صحفيي شارلي إيبدو”.