في المرحلة الانتقالية للمجتمعات التي تعيش صراعات أو نزاعات، على عملية العدالة الانتقالية أن تأخذ مسارها بحيث تضمن أن يكون لها تأثير إيجابي على السياسة، المجتمع والاقتصاد، وعلى مسار العدالة الانتقالية أن يعالج قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، والقضايا التي نتجت عن الأنظمة التي سببت الصراع أو النزاع كقضايا الفساد، القتل وغيرها، وذلك يتم عن طريق تشكيل لجان تحقيق، معالجة قضائية تطهير القضاء، بناء وإصلاح وتحسين المؤسسات، والتعاون مع المجتمع المدني لبناء حوار فعال ما بين الأطراف يهدف إلى الوصول إلى حل له أثر على المدى البعيد. [1]
إذن، فالعدالة الانتقالية تساعد المجتمعات والمجموعات المتنازعة على التغلب على المشاكل التي برزت بينها خلال فترات النزاع، من خلال ضمان الحفاظ على دمقرطة المرحلة الانتقالية ما بعد الصراع أو ما بعد الحرب، وبالطبع فإن هذا يحدث في حالة ضمان التعلم من أخطاء الماضي، وفي حالة ضمان حقوق المتضررين من النزاعات في الصراع، فلذلك هناك ضرورة أن تكون المعالجة ليس على الصعيد القضائي فقط إنما أيضًا على الصعيد الاجتماعي، النفسي والاقتصادي. [2]
أحد المحاور الاجتماعية التي من المهم العمل عليها هو “التربية والتعليم”، من تطوير المناهج التعليمية وحتى القيم التي يتم تمريرها للطلاب من خلال المؤسسات الحكومية، باعتبار أن للمؤسسات التربوية دورًا اجتماعيًا هام في تربية الأجيال، والعمل على بناء ذاكرة جماعية ما بعد النزاعات أو الصراعات.
وهنا يُسأل السؤال، هل هناك علاقة ما بين التربية (Education)، العدالة الانتقالية، وحل النزاعات؟
أثناء بحثي حول موضوع العدالة الانتقالية والتربية، واطلاعي على إصلاحات تربوية لدول مرت بأزمات ونزاعات كـ (جنوب أفريقيا، أمريكا اللاتينية، الأرجنتين، أيرلندا الشمالية، البوسنة وغيرها)، لاحظت أن الإصلاحات في أنظمة التربية والتعليم هي إصلاحات تكون جزء لا يتجزأ من المرحلة الانتقالية، هذه الإصلاحات يربطها خيط رفيع، ألا وهو تأثرها من “عولمة التربية”، دَأَبت هذه الإصلاحات على التشديد على القيم العالمية وحقوق الإنسان أكثر من القيم أو القضايا التاريخية التي تخص المجتمع المحلي لها، وكأنها تحاول وبخجل أن تبتعد عن نقاش “ما حدث” أو أنها فضلت البدء بمرحلة جديدة، رغم أن لهذا حسنات في إطار حل النزاعات، إلا أن سلبياته تتجلى في تراكمات مستقبلية للفروقات الاجتماعية والاقتصادية التي لن تحلها مثل هذه الخطط إن تجاهلت الفروقات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعاتها والتي نتجت عن السياسة المتأزمة فيها.
الإصلاحات في أنظمة التربية في المراحل الانتقالية، عليها أن تضمن مضامين تعزز الحوار على الصعيدين الفردي والجماعي، تكشف الحقائق بواقعية، تعزز التعاطف بين الطلاب، وتعالج القضايا عن طريق السرد الفردي والسرد الجماعي وتراعي الاحتياجات النفسية والاجتماعية للفرد والمجموعة. وعليه فإن للتربية دورًا هامًا في سير عملية العدالة الانتقالية، وهذا يأتي من خلال الإصلاحات السياسية والاجتماعية لأنظمة التربية والتعليم، من حيث المضامين التدريسية ومن حيث تدريب الطواقم التدريسية وتجهيزهم للتعامل مع الوضع الجديد في ظل المرحلة الانتقالية، هذا كله لا يحدث بجهود حكومية فقط، إنما بتعاون مشترك ما بين الحكومات، المجتمع المدني بمؤسساته وشعبه، وكذلك الباحثين والأكاديميين، بالإضافة إلى ذلك إن أهمية إجراء الإصلاحات في أنظمة التربية والتعليم عليه أن يكون ذي صلة بقرارات جماعية تُعطى شرعنة قضائية وتثبت من قبل متخذي القرارات في المرحلة الانتقالية مما من شأنه أن يعزز عملية حل النزاع من خلال التربية والمضامين التدريسية. (3)
كجزء من عملية العدالة الانتقالية، الإصلاحات التربوية تلعب دورًا هامًا في البحث عن حلول لتحديات اجتماعية يعاني منها المجتمع الذي مر في أزمات نزاع أو حالات حرب، في المراحل الانتقالية، الدور الذي على الأكاديميين، المجتمع المدني ومتخذي القرارات فعله هو السعي إلى بناء إستراتيجية ورؤيا تربوية تضمن تنمية الفئات المهمشة والمتضررة من حالات الصراع وتسد الفجوة بين المجتمعات (communities) والفئات التي تركب المجتمع ككل.
هل للمؤسسات التربوية دور في حل النزاعات؟ شمالي أيرلندا نموذجًا
نقاشي السابق شدد على أهمية التربية ودورها في عمليات حل النزاع، والسبب في ذلك هو أن للتربية دور اجتماعي وسياسي وقدرة على بناء تركيبة للمجتمعات، الإصلاحات التربوية يجب عليها ألا تبحث على حلول لحظية، إنما على حلول لها أثرها على الأمد الطويل.
تعود جذور الصراع في أيرلندا الشمالية لأسس إثنية – سياسية، عكست واقعًا ثقافيًا على المجتمع الشمال أيرلندي، كانت جذوره منذ قرون مع استيطان الإنجليز شمال أيرلندا، وبالطبع هذا نقاش طويل حول “من بدأ؟” و”من السبب؟” و”من المحق؟” و”من هي الأطراف المتنزاعة؟” أو “ما هي المسميات الأصح لوصف الحالة؟”. فلذلك سأكتفي بأن أركز على ما جرى في الستينات من القرن الماضي فيما سمي “”The Troubles عام 1969 في نضال الجمهوريين في حملة “الحقوق المدنية” وحتى الإصلاحات في السنوات الأخيرة.
يمكن تقسيم المجتمع في أيرلندا الشمالية إلى “اتحاديين” وهم الغالبية المسيطرة على المجتمع في شمالي أيرلندا وبغالبيتهم من الطائفة البروتيستانية وهمهم الحفاظ على الاتحاد مع بريطانيا و”جمهوريين” وهم بغالبيتهم من الطائفة الكاثوليكية والذين طالب معظمهم بالاتحاد مع جمهورية أيرلندا. (6) أدى الصراع في أيرلندا الشمالية إلى انفصال هذه المجموعات عن بعضها البعض، لأسباب اقتصادية، سياسية، اجتماعية وثقافية ؛ وبرز هذا الفصل في أجهزة ومؤسسات التربية والتعليم، الرياضة، الوضع الاقتصادي – الاجتماعي، الزواج … إلخ.
وعليه فإن المدارس في مدينة بلفاست مثلاً، وهي عاصمة أيرلندا الشمالية، مازالت منفصلة حتى هذا اليوم، رغم الوصول إلى اتفاق تاريخي عام 1998 بين الأطراف المتنازعة “اتفاق بلفاست” أو ما يسمى أيضًا بـ “The Good Friday”، هذا الفصل برأيي يعكس واقع المدينة، من انفصال وتقطب ما بين المجموعات فيها هو قائم حتى اليوم في مجالات حياتية مختلفة، وهو ظاهر للعين للزائر الخارجي للمدينة، وهذا الاستقطاب سببه الصراعات السياسية ما بين الأحزاب التي تمثل الطرفين كحزب “شين فين” والحزب الاتحادي الديموقراطي (DUP) وغيرها، بالإضافة إلى ذلك فإن الفترة ما بعد الاتفاق عام 1998 اتسمت بالعنف بين المجموعات الإثنية وكذلك بوجود فروقات اجتماعية – اقتصادية بين هذه المجموعات؛ أي أن المجتمع الشمال أيرلندي حتى في هذه الفترة الانتقالية كان منقسمًا اجتماعيًا مما انعكس أثره على جهاز التربية والتعليم ومؤسساته كالمدارس، وكذلك على درجات الاندماج بين الطوائف في البلد.
في أيرلندا الشمالية هنالك ثلاثة أنواع للمدارس بشكل عام: مدارس كاثوليكية، مدارس بروتستانتية، ومدارس فيها اندماج بنسب مختلفة، وتلعب مؤسسات التربية في أيرلندا الشمالية دورًا في كونها مصدرًا للتماسك ما بين الطوائف، الأمر المتعلق بالمدرسة نفسها وخططها الذاتية واستعدادها للتعاون مع مدارس من طائفة أخرى. (Hayes, 2009).
في المجتمع الشمال أيرلندي، هناك آراء متعددة حول دور التربية في الفترة الانتقالية:
طرف يدّعي أن الفصل في مؤسسات التربية والتعليم ما بين الطوائف في الدولة سيعزز الفروقات بينها وسيحافظ على هذه الفروقات، لذا يجدون الدمج حلًّا.
الأشخاص الذين يعارضون دمج المدارس، يدعون أن هذا الفصل يساعد الطوائف “الأقل حظًّا” اجتماعيًا واقتصاديًا أن تجد سبلاً لتنميتها لتلحق بالطوائف أو المجموعات الأخرى؛ بالإضافة إلى ذلك فإن الدمج في المجتمعات المتنازعة من شأنه أن يقوي طائفة على حساب أخرى ويحافظ على هيمنتها في المجتمع ككل. (Dun 1986).
الرأي الثاني إذن، يدّعي بأن الفصل مهم للطوائف التي تعتبر “أقلية إثنية” وهذا الفصل يعزز مكانتها ويساعدها في الحفاظ على ثقافتها، هويتها وتماسكها الاجتماعي.
فيما يخص شمالي أيرلندا، المدارس المفصولة تدّعي أن العملية التربوية لبناء مجتمع فيه حوار مع الآخر يمكن أن يتم أيضًا فيها، ولهذا معظم المدارس مازالت على هذه الحالة هناك.
الاتفاق التاريخي عام 1998، أدى إلى زيادة واضحة في اندماج الطوائف المختلفة في المدارس، بدرجات مختلفة وأشكال مختلفة لضمان خصوصية كل منها، هناك مدارس تعتبر وبشكل رسمي مدارسًا مختلطة، هناك مدارس كاثوليكية فيها نسبة طلاب بروتيستانت، وكذلك مدارس بروتيستانتية فيها نسبة طلاب كاثوليك.
يشير البحث الذي أجراه “هايس ومكأليستير” إلى أن الاندماج تربويًا من خلال المؤسسات التربية يعزز التواصل ما بين الطوائف ويزيد من العلاقات الاجتماعية بينها، بالإضافة إلى دوره في بناء علاقات إنسانية وطيدة ما بين الطلاب ولهذا انعكاسات إيجابية على حل النزاع للمدى البعيد، إذن فإن الاندماج ولو بدرجات مختلفة في السياق الشمال أيرلندي، يعزز الالتحام الاجتماعي، التسامح ويساهم في عملية التصالح ما بين الطوائف، باعتبار المؤسسات التربوية مؤسسات تراعي احتياجات فردية، اجتماعية وثقافية للفرد والمجموعة.
منذ الاتفاق عام 1998، كانت مبادرات عديدة تسعى لدمج الطوائف وتحسين التواصل بينها، لكن المدارس رأت بأن الدمج المباشر فيها ليس بالضرورة هو الطريق لذلك، إنما هناك طرق أخرى للقاء هذه الطوائف، كالكتب المدرسية، المضامين التدريسية، التربية على قيم ومفاهيم مشتركة، التعدد الثقافي، التربية المدنية، ولقاءات ما بين المدارس، والتحدي الأساسي الذي واجه هذه المدارس هو إعداد طاقم المعلمين للتعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية في فترة ما بعد الاتفاق.
السبب في أن الإصلاحات والدمج عليها أن تشمل المضامين التدريسية هو الحفاظ على ألا تكون كتب التدريس مشحونة سياسيًا ومنحازة لطرف معين، من حيث الرموز، المعلومات التاريخية، السرد أو فيها إلغاء لطرف، لذلك على هذه الإصلاحات أن تشمل الجانب النظري من مضامين تدريسية وكذلك الجانب العملي من تهيئة وتدريب طاقم المعلمين للتعامل مع الوضع الجديد في المراحل الانتقالية، هذه الإصلاحات إن راعت الاحتياجات الثقافية والاجتماعية لجميع فئات المجتمع من شأنها أن تدعم وبقوة العدالة الانتقالية.
—————————————–
المصادر:
[1] ما هي العدالة الانتقالية؟ https://www.ictj.org/ar/about/transitional-justice
[2] Hazan, Pierre, and Sarah De Stadelhofen. Judging war, judging history: behind truth and reconciliation. Stanford Univ Pr, 2010.
(3) Alberstein. (2013), The “Law of Alternatives”: Conflict Resolution as The Art of Reconstruction
[4] Mailhes, C. (2005). Northern Ireland in transition: the role of justice. Journal of Irish Studies, 77-90.
[5] Cole, E. A. (2007). Transitional justice and the reform of history education. International Journal of Transitional Justice, 1(1), 115-137.
(6) McGlynn*, C., Niens, U., Cairns, E., & Hewstone, M. (2004). Moving out of conflict: The contribution of integrated schools in Northern Ireland to identity, attitudes, forgiveness and reconciliation. Journal of Peace Education, 1(2), 147-163.
(7) Hayes, B. C., & McAllister, I. (2009). Education as a mechanism for conflict resolution in Northern Ireland. Oxford Review of Education, 35(4), 437-450.
(8) McGlynn*, C., Niens, U., Cairns, E., & Hewstone, M. (2004). Moving out of conflict: The contribution of integrated schools in Northern Ireland to identity, attitudes, forgiveness and reconciliation. Journal of Peace Education, 1(2), 147-163.
(9) McGlynn*, C., Niens, U., Cairns, E., & Hewstone, M. (2004). Moving out of conflict: The contribution of integrated schools in Northern Ireland to identity, attitudes, forgiveness and reconciliation. Journal of Peace Education, 1(2), 147-163.
(10) Niens, Ulrike, and Ed Cairns. “Conflict, contact, and education in Northern Ireland.” Theory into Practice 44.4 (2005): p.3-7.
(11) Bekerman, Z., Zembylas, M., & McGlynn, C. (2009). Working toward the De‐essentialization of Identity Categories in Conflict and Postconflict Societies: Israel, Cyprus, and Northern Ireland. Comparative Education Review, 53(2), 213-234.