عندما نقرأ صعود داعش أو نزولها بمعزل عن السياق السياسي محليًا وإقليميًا ودوليًا نقع في دائرة الخطأ؛ ولذا فإنني لن أتحدث عن داعش بل عن الوسط الذي تتمدد به داعش أو تنحسر، فصعب في العلاقات الدولية تفسير أي حدث أو ظاهرة استنادًا إلى دوافع أو أسباب واحدة، فالعلاقات الدولية في النهاية تفاعل بين جماعات بشرية تتداخل فيه الأسباب والدوافع الرئيسية والثانوية المباشرة وغير المباشرة، وداعش عامل واحد من مجموعة متضافرة من عوامل أخرى معقدة ومتداخلة ضمن واقع مرحلة وفاصلة انتقال تاريخية يعيشها العالم عمومًا والشرق الأوسط خصوصًا.
وقبل أن أتحدث عن الوسط الذي تتمدد فيه داعش محليًا وإقليميا ودوليًا لابد من مقدمة عن طبيعة ومواصفات مرحلة الانتقال التي تعيشها الدول والمجتمعات الآن وهي تنتقل من نظام إلى آخر سواء كان الانتقال من نظام دولي إلى آخر أو من إقليمي إلى آخر أو من محلي إلى آخر.
أول مواصفات هذه الفاصلة التاريخية التي يعيشها العالم منذ نهاية الحرب الباردة أن نهايتها غير محددة ولها ثمن باهظ وتسود فيها الفوضى والعنف والأمل والخوف والغموض، وقد تؤدي إلى استقرار في مكان وفوضى في آخر، وتقَدُم في زمان وانحسار في آخر، وتنازل في أحوال وأفكار وتوازن في أحوال وأفكار أخرى، لكنها عمومًا مرحلة وفاصلة تكسر الخوف وينكسر فيها التوازن التقليدي بين القوى المحلية والإقليمية والدولية وتنتقل فيها الأفكار والأحوال عبر الحدود.
فهل يعيش العالم محليًا وإقليميًا ودوليًا فاصلة انتقال تاريخية من نظام إلى آخر؟
إن صح هذا فإن داعش تتمدد أوتنحسر هنا أو هناك بدرجات متفاوتة لكنها تبقى عاملاً فاعلاً وإلى إشعار آخر.
الوسط الأول
الوسط الأول الذي تتمدد فيه داعش هو النظام الدولي
منذ الحرب الباردة بدأ النظام الدولي بالانتقال من عالم ثنائي القطبية إلى عالم آخر يبدو لأول وهلة ثنائي أيضًا، فداعش وجدت نفسها في كفة باعتبارها تعبر عن منظومة الإرهاب العالمي وأمريكا في الكفة الأخرى في مفارقة هي الأخرى تاريخية! وفي ظل فترة الانتقال أو الفاصلة التاريخية العالمية هذه جرت تحالفات دولية بقيادة أمريكا – بعد أحداث نيويورك في 11 سبتمبر 2001 حيث تغير وجه العالم وانطلقت الحرب العالمية على الإرهاب وأحداث نينوى حزيران 2014- فكان تحالف 2003 وتحالف 2014، وسواء صدرت هذه التحالفات بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع أم لا، فإن الواقع الدولي يشير إلى فقدان توزان القوى دوليًا لصالح أمريكا منذ 1990.
ولابد هنا من الإجابة عن سؤال ماذا وكيف ولماذا جرت كل هذه التحالفات؟
ماذا حدث في 2001 و2014؟
القاعدة في 11 سبتمبر وداعش في 2014 استدعت تدخلاً دوليًا عسكريًا في العراق وكلاهما عمقا الانقسام الطائفي، وكلاهما أضعف الهوية الوطنية كيف؟
كلاهما وزع عمليًا سلطات الدولة إلى أعلى (باتجاه العوامل العابرة للحدود) وهنا داعش مثلاً، وأسفل (للعوامل الطائفية المحلية)، وإلى الجوانب (إلى حركات اجتماعية متعددة).
كل هذا أطلق عملية تنافس أو تساوم بلا حدود محليًا وإقليميًا، وأجبر الدول المتوسطة والصغيرة على إعادة النظر في سياستها الخارجية وتحالفاتها الإقليمية ليس فقط لمواجهة داعش والظروف التي أحدثتها، بل كيفية التعامل مع أجندة التحالف الدولي وعادة لا تستطيع الدول الإقليمية التي تختلف أجندتها مع بعضها البعض في طريقة مواجهة هذه التحديات؛ فتلجأ مرغمة لتساوم الدول الكبرى وهي هنا أمريكا، فأمريكا صاحبة القدرة الأكبر دوليًا في التعامل مع متناقضات أجندات الدول في الشرق الأوسط.
ولماذا كل هذه التحالفات في أثر داعش والقاعدة؟
والجواب هو لكسر أسس سياسات النظام المحلي والإقليمي القائم منذ الحرب الأولى في الشرق الأوسط.
إذن وسط الفاصلة التاريخية العالمية وإلى أن يتحدد شكل النظام الدولي، نبقى ندور في حلقة مفرغة فتتمدد داعش فكريًا وعمليًا في مكان وتنحسر في آخر وتكتسب توازنًا في زمان وتنازلا في آخر ولها تأثيرات عابرة ليس على العراق وسوريا والإقليم فحسب، بل تأثير عابر عالمي تتجاوز حواف الشرق الأوسط ربما لتمتد إلى إقاليم أخرى بما فيها القوقاز وأسيا الوسطى بجوار روسيا التي تحاول دون نجاح منافسة أمريكا على زعامة العالم بعدما فقدت الزعامة في الحرب الباردة.
الوسط الثاني
الوسط الثاني الذي تتمدد فيه داعش هو النظام الإقليمي
نظام ويست فاليا أو نظام الأمة (الدولة) الذي نشأ بعد الحرب الأولى في الشرق الأوسط أصبح هو الآخر في مهب تحديات لا حصر لها منذ نهاية الحرب الباردة وهو أيضا يعيش فاصلة تاريخية إقليمية لم تستقر بعد، وأول هذه التحديات هو تحديات العولمة ونظرية صراع الحضارات وعولمة الجهاد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والانحراف الذي طرأ في السياسة العالمية والإقليمية من علاقات مركزها دولة مع دولة إلى علاقات بين الدول وعوامل غير دولتية
Non- state actors وهي كيانات منظمة تمتلك هيكلية قيادية وتتمتع باستقلالية عن الدولة التي تنتمي لها جغرافيًّا وتعبِّر عن أو تمثل جماعة معينة إثنية أو طائفية أو أيديولوجية وتمتلك أهدافًا سياسية بعينها وتمتلك من القوة ما يمكِّنها من تحقيق هذه الأهداف، ومن ثم تستطيع أن تؤثر على سياسة الدولة ويتم تقسيم الفاعلين من غير الدول وفق معيارين: نطاق العمل (محلي أو دولي)، والتسليح: (مسلَّح أم غير مسلَّح).
وداعش وفق هذه المقاربة هو فاعل فكري من غير الدول مسلَّح ودولي يمتلك هيكلية قيادية واضحة ويتسم باستقلال تام عن الدول التي ينتمي لها جغرافيًّا، ويمثل جماعة أيديولوجية بعينها ويضع نصب عينيه هدفًا سياسيًّا واضحًا -التوسع في بسط الهيمنة – ويمتلك قدرًا من الإمكانات العسكرية والاقتصادية جعله أغنى وأقوى فاعل من غير الدول على الإطلاق.
وقد هددت هذه العوامل دور وسيادة الدول الوطنية في الشرق الأوسط ونجد هذا واضحًا في جولة زمنية؛ منذ 1979 وثورة الخميني حصل مايلي: ظهر حزب الله في لبنان 1980، حماس في فلسطين 1987، إقليم كردستان في العراق1991، القاعدة 11 سبتمبر 2001، داعش 2014، والحوثيون 2014، إذن أصبح الإقليم فعلاً يعيش منتقلاً من عالم الدولة إلى عالم اللادولة، نعم لاتزال الدولة قائمة ولكن روح الدولة وقرار الدولة وسيادة الدولة سلبته عوامل مناهضة للدولة وهي واقعًا أقوى بكثير من سلطة الدولة ونظرة إلى واقع الدول مع هذه العوامل تكفي وتغني عن الجواب، وأصبحت الدول الإقليمية والدولية تتعامل مع هذه العوامل واقعًا سواء اعترفت بها أم لم تعترف، وتشكلت محاور إقليمية متضادة شملت هذه العوامل وشكلت ما نسميه حرب باردة بالوكالة بين الدول الإقليمية، إذن ففي مثل هذه الفاصلة الإقليمية التاريخية بين نظام تشكّل قبل 100 عامًا بحدوده وجيوشه ودوله ولم يستقر بعد على نظام جديد وهو ينتقل من عالم الدولة إلى عالم اللادولة من شأن ذلك إتاحة الفرصة لداعش بالتمدد هنا وهناك وسط هذا الفراغ الكبير حسب ما تقتضيه احتياجات نقض نظام إقليمي وإقامة آخر.
الوسط الثالث
الوسط الثالث الذي تتمدد فيه داعش هي معضلة النظام العربي في فهم الدين والدولة والأمة والعلاقة الناظمة بينها
العرب يعيشون في فاصلة تاريخية في علاقتهم بالدين والدولة والأمة؛ ففي الوقت الذي حلت كل الأمم ورطاتها الداخلية لم يزل العرب خارج التغطية، فها أنت ترى تركيا وإيران قد اقتربت أو تكاد من حل هذه الورطة بل حتى الكورد يغذون السير في هذا الطريق، في حين تجد دول سايكس بيكو العرب تعيش في فوضى فقدان العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين العوامل الثلاثة، وأقصد هنا بالعقد المشروعية السياسية والدستورية التي لا تكاد تملكها أي دولة عربية.
فالدولة القومية بجمهورياتها وملكياتها لم تستطع أن تحل الورطة بل ضاعت، حتى فلسطين التي قامت الدول العربية لنجدتها، ومسك ختامها أنها تعاونت مع إسرائيل ضد غزة في حرب 2014، فظهور القاعدة نتيجة طبيعية لفشل الدول القومية على كل المستويات بسبب فقدان العقد الاجتماعي، ولمّا أرادت الشعوب بالربيع تأسيس عقد اجتماعي جديد انتفضت الدول القومية من جديد وانقلبت على ربيع الشعوب لتظهر داعش وتتمدد في فراغ فشل الدولة الوطنية والقومية لفقدان العقد الاجتماعي وفقدان النموذج العربي أو الإسلامي القادر على تحصين الدولة والأمة من نموذج داعش الذي أصبح منافسًا قويًا لنماذج الإسلام السعودي والإخواني والتركي، وهنا ملاحظة مضافة وجديرة بالاهتمام وهي تفرق الأمة على عدة نماذج سياسية للإسلام تتحارب فيما بينها أي حرب سنية – سنية، السلفية الجهادية ضد تركيا والسعودية والإخوان، والسعودية ضد الإخوان والسلفية الجهادية وتركيا، وهذه فوضى أخرى تزيد من تمدد داعش ويبقى نموذج ولاية الفقيه الإيراني المستفيد الأول من فوضى داعش وفوضى نماذج سنية متفرقة متحاربة، ورغم أن نموذج تركيا قصة نجاح لكنه لازال بحاجة إلى آليات إقليمية مكافئة لنموذج ولاية الفقيه، إضافة إلى انشغاله بحرب استقلال داخلية لم تضع أوزارها بعد.
وحتى يستقر حال الدول العربية على نظام ينظم علاقة الدين والدولة والأمة بعقد اجتماعي جديد تبقى الفوضى تسود وتبقى داعش تتمدد في فراغاته التي تكبر في زاوية وتصغر في أخرى، ولأن تركيا وإيران والكورد نجت من داعش لوجود صيغة حل تنظم العلاقة بين الأمة والدولة والدين فإنهم سيرثون الشرق الأوسط الذي فقد أو يكاد يفقد صفته العربية.
الخلاصة
النظام الدولي والشرق الأوسط والدول العربية تعيش حالة مخاض تاريخية وهي جميعًا تنتقل من نظام قديم إلى آخر لم يستقر بعد، وتشكل هذه الفاصلة أنسب وسط محلي وإقليمي ودولي تتمدد فيه داعش نسبيًا في زمان ومكان وأحوال وتنحسر في أخرى ولو لم تكن هناك داعش لكانت هناك داعش.
وختامًا فإن داعش التي تتمدد في وسط دولي إقليمي محلي يمر جميعًا في فاصلة تاريخية غير محدودة، فإنها كشفت بظهورها وتمددها واقع دولي وإقليمي ومحلي مرهق فكريًا وعمليًا ومزيف اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، إضافة إلى أن هذا الواقع أثبت عمليًا ان داعش وجه واحد من وجوه منظومة محلية وإقليمية ودولية تجري في حلقة مفرغة قطرها بقطر داعش وطبعًا لا تخلو فترة الفاصلة هذه من نجاحات هنا أو هناك، ولعل تونس أو غزة فيها بعض من أمل يخلو من كوابيس داعش.