ما قصة التيه الذي يغشى العالم العربي؟! ما حكاية تلك الحيرة الطاغية على كل شيء؟! إلى أين نمضي؟! هل يستطيع عربيٌ أن يُجيبك؟! لماذا يولد من رحم المجتمعات العربية عباقرة يخلدهم التاريخ، بينما يعجز المجتمع ذاته عن إنجاز حضاري جماعي يحفظ له مكانة رفيعة بين الأمم؟! أما النجاح الفردي فمفهوم، وأما العجز الجماعي فلم نجد له دواء!
عندما تفتقد الخطة تصبح جزء من خطط الآخرين! وعندما لا تملك جهة تقصدها تتساوى عندك جميع الاتجاهات .. وذلك هو الضياع! وذلك ينطبق على المجتمع كما ينطبق على الفرد. يخبرنا الواقع العربي منذ عقود مضت أنه لا وجهة واحدة يتفق عليها العرب ولا حتى نصفهم ولو بخطوط عريضة وعناوين رئيسية، بل على العكس تمامًا، تجد الشعب العربي مقسومًا رأسيًا إلى عدة اتجاهات ومشاريع محلية أو عالمية، فمن السياسيين إلى النخب الفكرية إلى الشباب، وحتى على مستوى الأسرة نفسها، ترى أحدهم جهاديٌ والآخر يتبع الإخوان المسلمين وثالثٌ لا يعرف من هؤلاء جميعهم، ورابعٌ ربما ينكر تاريخه وهويته ناقمًا على الجميع!
يقول مالك بن نبي في كتابه القيم “ميلاد مجتمع”: “المجتمع ليس مجرد كمية من الأفراد، وإنما هو اشتراك هؤلاء الأفراد في اتجاه واحد، من أجل القيام بوظيفة معينة ذات غاية”، إن وضوح الهدف بالنسبة لأفراد المجتمع يحولهم من أرقام تُزيد عدد المجتمع وتثقل كاهله، إلى أشخاص فاعلين كلٌ له دوره الذي يضفي على حركة المجتمع بعدًا إيجابيًا يدفعه بكليّته نحو الغاية.
إن الثقافة السائدة في المجتمعات العربية – بسبب طبيعة تكوينها – تفرض عليها غاية واحدة ورؤية واضحة لا يقوم المجتمع إلا بها، تتكون من خلالها شبكة العلاقات الاجتماعية – كما حدث في عهد النبوة – وتنظم هذه الشبكة علاقة كل فرد بسائر أفراد مجتمعه، فيدرك كل شخص دوره ويُقدِّر دور غيره؛ فيحصل التكامل ويُتجنب التعارض، فتتحرك تلك الكتلة كمجتمع واحد لا كأفراد، ليتبوأ مكانة بين المجتمعات، وإلا سيكون غثاء كغثاء السيل، مهما بلغ تعداده.
تقوم المجتمعات الغربية على أسس حضارية ثابتة يختلف الناس تحت سقفها، تلك هي الأسس التي قامت عليها تلك الحضارة وخروجهم عنها هو نقض للأساس وبالتالي القضاء عليها من الداخل؛ لذا لا تجد أحدًا منهم يقفز عليها!
فما الأسس التي سيُقيم عليها المسلمون حضارتهم؟! ولا أراهم حتى يتفقون على الحكم بما أنزل الله، لأنهم يختلفون على كيفيته ابتداء، والواقع يتحدث بأسوأ من مجرد الاختلاف، ولو حصل الاتفاق لقامت الدولة التي يريدون من ساعتها! و لكنه لا يحصل لسبب ما، ولا ننسى هنا أن الاتفاق يجب أن يكون اجتماعيًا – أي شعبيًا – و إلا فلا قيمة له.
ليست الشعوب العربية فقيرة ولا ينقصها العقول ولا الموارد البشرية، ولكنها تفتقد إلى الفكرة الجامعة، والغاية الواضحة التي تسير نحوها، المثل الذي يضرب بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية معروف، فعندما دُمرت البلد عن بكرة أبيها، مالذي أعادها للمنافسة اقتصاديًا وصناعيًا على مستوى عالمي وخلال سنوات معدودة؟! يجيب مالك عن ذلك أنه الرصيد الضخم في الأفكار التي يجتمع عليها الشعب الألماني التي تجعل من جهوده تتجه كلها نحو غاية واضحة، وليست الإرادة فقط، فالإرداة وحدها لا تصنع المعجزات، وهنا تفترق حركة المجتمعات عن سلوك الأفراد!
لا غنى للمجتمعات العربية عن “فكرة جامعة” تُدار عبر شبكة علاقات اجتماعية، نحو غاية واحدة، وإلا فإن الجهود الهائلة المبذولة كلها سيتنهي بها المطاف إلى إحدى حالتين؛ إما أن يطغى الأقوى على الأضعف فيستبد الناس ببعضهم، أو أن تتساوى قوتهم وبالتالي تعارض اتجاهاتهم سيؤدي إلى أن يفني بعضهم بعضًا، ولا مستفيد هنا إلا العدو الشامت.
جمع الناس على شيء ما ليس أمرًا سهلاً أبدًا، وليس بناء تلك الشبكة بالأمر الهيّن، وفي عالم كهذا ربما يتعذر جمع المسلمين جميعًا وإن جمَعهم دين واحد، وكذلك العرب وإن جمَعهم دين ولغة، فلا أقل من جمع كل مجتمع على حدة، في مشاريع تتكامل ولا تتجزأ، تتعاون ولا تتصارع، وتخدم كلها مقاصد الإسلام والأخلاقية المظلومة في هذا العالم!
بالطبع ليست هذه كل العوامل التي ستغير الواقع وتنقل المجتمعات العربية إلى المقدمة، ولكنها شيء نفتقده في محاولاتنا المستميتة لأن نكون شيئًا .. شيئًا له ذكره في هذا العالم، وهو في الحد الأدنى منه يجعلنا قادرين على إدارة حركة المجتمع كما نريد؛ فنقدم بإصرار ونُحجم بقرار!