كالعادة، كان من المتوقع أن تكون قمة حلف الناتو المقررة في ويلز العام المنصرم شديدة الملل، فها هو حلف الناتو قد فقد غايته كما يقول كثيرون، إذ أصبح أعضاؤه بمأمن عن أي مخاطر قريبة، وصارت قواتهم هنا وهناك، بين كابول وبغداد، ولا هم لها إلا محاربة الإرهاب ربما، وكأنه العدو الوحيد الذي يعطي للناتو وظيفة بعد انقشاع ضباب الحرب الباردة. بيد أنه بحلول مطلع سبتمبر، حين أقيمت القمة بالفعل، بدت وكأنها أهم قمة تنعقد للحلف منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.
لم يكن يتصور أحد أن تهيمن روسيا والأزمة في شرق أوربا على قمة الناتو، بعد 25 عامًا من هدوء الجبهة الشرقية في أوربا، والتي لم تشغل الناتو خلال العقدين الماضيَّين اللهم إلا لجلب المزيد من الأعضاء للحلف وتوسيعه شرقًا، ولكن الأجندة أصبحت أوربية مرة أخرى هذا العام بعد استحواذ موسكو على شبه جزيرة القرم في مارس، وهي أول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تدخل فيها قوات روسية بشكل واضح وتسيطر على مساحة من الأراضي الأوربية.
مرة أخرى، عادت كلمة ”الدفاع المشترك”، تلك الكلمة القديمة التي كادت تُنسى، واتجهت الأنظار إلى ويلز لمتابعة قمة الناتو. ومع ذلك، لا يبدو أن “إحياء” الناتو في وجه عودة الخطر الروسي سيكون بتلك السهولة لأسباب طويلة، أبرزها اختلاف الظروف الدولية، والأوربية أيضًا، هذه الأيام عما كان عليه الحال حين كان الخطر السوفيتي يحوم فوق أوربا.
حلف الناتو، الذي نشأ لـ”يظل الأمريكيون داخل أوربا، والروس خارجها، والألمان تحت السيطرة فيها” (Keep the Russians out, the Americans in, and the Germans down)، كما قال أول أمين عام له، لورد إسماي، عام 1949، أصبح الروس على أبوابه، ولم يعد الألمان فيه تحت السيطرة، والأهم من ذلك، لم يعد الأمريكيون أصلًا مهتمين بالبقاء داخله.
التشرذم الأوربي
حين وقع مؤسسو حلف الناتو على معاهدة شمال الأطلسي في الرابع من أبريل عام 1949، كان الخطر الأبرز حينها، وبشكله العسكري الكلاسيكي، هو هجوم من قوة معادية على أرض أي بلد عضو بالحلف، وهو ما تجلى بوضوح في المادة الخامسة من المعاهدة والتي تنص على أن “أي هجوم على عضو بأوربا وأمريكا الشمالية هو هجوم على كافة أعضاء الحلف.”
الآن، وبعد ستين سنة، تحوّلت وتعددت كثيرًا طبيعة الأخطار الاستراتيجية التي تواجه الناتو، فلم يعد الهجوم المباشر على أوربا أو أمريكا الشمالية ممكنًا في الوقت الراهن، وأصبحت المخاطر الأساسية أكثر تعقيدًا، مثل الهجمات الإلكترونية والإرهاب ووقف إمدادات الغاز، وهي أخطار لا تواجه بطبيعة الحال بالقوة العسكرية التقليدية، كما أن الخطر الروسي الصاعد مؤخرًا لا يهدد أعضاء الحلف بشكل مباشر بقدر ما يهدد البلدان المتاخمة لهم والتي كان الحلف يتطلع إلى ضمها في المستقبل، مما يعني أنها لا تنطبق عليها المادة الخامسة بأي حال من الأحوال — مثل أوكرانيا.
هناك أزمة إذن في تحديد الخطر الأهم من بين كل تلك القائمة الطويلة من “الأعداء”، وكذلك في بلورة استراتيجية لمواجهة هذا الخطر، ولكن المعضلة الأبرز على ما يبدو ليست هذا ولا ذاك، ولكن اختلاف الأولويات بين أعضاء الخلف، والتشرذم الحادث في أوربا بشكل عام، وهو ما يعيق توحيد الصفوف تجاه خطر واحد على الأقل ومواجهته بكفاءة كما كان الحال في السابق.
تعد أوربا اليوم أوسع نطاقًا، إذ أنها تضم ألمانيا ودول أخرى في جنوب وشرق القارة تختلف نظرتها للوثاق الأطلنطي عن نظيراتها في الغرب، نتيجة لذلك، تختلف كثيرًا أولويات أعضاء الحلف حاليًا حيال الخطر الروسي. على سبيل المثال، ترى بلدان البلطيق وبولندا أن روسيا هي الخطر الأساسي بالنسبة لها، لا سيما وهي خارجة لتوها من عباءة الهيمنة الروسية، أما دول مثل أسبانيا والبرتغال واليونان، فهي مهمومة بالأساس بالهجرات القادمة من الجنوب والاضطرابات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأيضًا مُثقلة بأزماتها الاقتصادية بشكل يمنعها من الدخول في مغامرات غير محسوبة.
علاوة على ذلك، يُعَد الرأي العام الأوربي مختلفًا تمامًا اليوم في مواقفه حيال الناتو والولايات المتحدة وروسيا مقارنة بأسلافه الذين عاشوا في ظل الحرب البادرة، إذ أن واشنطن، التي خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية، وساهمت في إرساء السلام في أوربا ودعم أمن القارة في مواجهة موسكو، ومساعدتها على إعادة البناء الاقتصادي، ليست هي واشنطن اليوم التي تعاني من انخفاض شعبيتها بين الأوربيين إثر فضائح تجسس وكالة الأمن القومي الخاصة بها على دول وقيادات أوربية مختلفة، لا سيما المستشارة الألمانية نفسها أنغلا مِركِل، وضعف مصداقيتها نظرًا لحروبها في العراق وأفغانستان التي زادت الأوضاع سوءًا.
أضف إلى ذلك أن الموجة اليمينية التي تجتاح أوربا الآن، خاصة في بلدان مهمة كفرنسا وبريطانيا، تعزز من التعاطف مع روسيا باعتبارها هي الأخرى ضحية من ضحايا الدعايا الأمريكية الكاذبة ليس إلا، وهو ما يعني أن الوقوف بوجه روسيا واتخاذ موقف عسكري واضح تجاهها سيكون صعبًا، ليس فقط بسبب صعوبة توحيد الأصوات المختلفة داخل الناتو، ولكن لاستحالة الترويج له وقبوله في الشارع الأوربي.
ماذا تفعل واشنطن إذن حيال تراجع رصيدها في أوربا؟ لا يبدو أنها مهتمة بالقارة الصغيرة بشكل كبير كما كانت منذ عقدين، نظرًا لتحول تركيزها هذه الأيام من الأطلسي إلى الهادي.
الولايات المتحدة بعد الارتكاز الآسيوي
لعل المعضلة الأساسية التي ستواجه الناتو في السنوات المقبلة من داخل صفوفه ستكون الارتكاز الآسيوي الذي أعلنته الولايات المتحدة، والذي سيدفع كافة أعضاء الحلف إلى إعادة صياغة شاملة لمعنى ووظيفة الناتو في القرن الواحد والعشرين طبقًا للأولويات الأمريكية الجديدة.
فرُغم اتخاذها مواقف واضحة من الأزمة الأوكرانية، وتعهدها بالالتزام بأمن شرق أوربا، كانت واشنطن واضحة تمامًا بأن أيًا من هذه الجهود لن يكون على حساب التزامها بالتوجه نحو منطقة آسيا والهادي، وهو أمر منطقي بالنظر لاستحواذ الصين على اهتمام صناع القرار في واشنطن أكثر من أي وقت مضى، والتي لا يبدو بحجمها وثقلها وخطورة التحديات التي تمثلها لأمن آسيا، أنها ستتراجع على سلم الأولويات الأمريكية لصالح بلد صغير كأوكرانيا.
علاوة على ذلك، لا تزال المخاطر التي تمثلها كوريا الشمالية تشكل هاجسًا للولايات المتحدة أكثر من شرق أوربا، وهو ما دفع وزير الدفاع الأمريكي السابق تشاك هيجل في أبريل 2014، بعد شهر واحد على الأزمة الأوكرانية، إلى زيارة اليابان والتأكيد على إرسال مدمرمتين ذات صواريخ باليستية لمواجهة الخطر الكوري الشمالي، وهي خطوة لم تتخذ واشنطن مثلها حيال أوكرانيا، وتوضّح بجلاء الأولويات الجديدة للبنتاجون في المرحلة المقبلة.
يعني هذا ببساطة لصناع القرار في لندن وباريس وبرلين أن الاعتماد على الولايات المتحدة للدفاع عن أوربا لن يكون كافيًا في المستقبل كما كان على مدى السنوات الستين الماضية، وأن أوربا ليست على قائمة الأولويات الاستراتيجية الجديدة في واشنطن، فاقتصادها المأزوم يفقد أهميته عالميًا مقابل اقتصادات آسيا والهادي الصاعدة، ومخاطر موسكو التي تحيق به لا تشكل خطرًا إلا على المستوى الأوربي، وليس الدولي كما كان الحال أيام السوفييت، في حين يمثل توسع الصين العسكري مؤخرًا، ومواقف كوريا الشمالية، أخطارًا دولية أكبر، على الأقل كما يعتقد البيت الأبيض.
أضف إلى ذلك أن أوربا بالنسبة للأمريكيين لم تعد ضعيفة وهشة كما كانت بعد الحرب العالمية الأولى، بل أصبحت قادرة على الاضطلاع بدور أكبر فيما بخص أمنها، وهو ما ذُكِر في الورقة الاستراتيجية التي تم إعدادها للرئيس الأمريكي باراك أوباما عام 2012، طبقًا لبعض المصادر، حيث تمت الإشارة إلى معظم بلدان أوربا باعتبارها “دول منتجة للأمن لا مستهلكة له” كما كانت، وهو ما يعني تحملها لمسؤوليات أكبر في حلف الناتو بدلًا من الولايات المتحدة. الناتو إذن أصبح يمثل لواشنطن واحدًا من بقايا الحرب الباردة ليس إلا، وأوربا لم تعد بؤرة الصراع الدولي، بل أصبح وزنها مقابل آسيا مكافئًا على ما يبدو لحجمها الجغرافي الضئيل الذي لا يتعدى نصف مساحة الصين وحدها.
التحفظ الألماني
إذا ما تراجع الدور الأمريكي، ستتجه الأنظار تلقائيًا إلى ألمانيا، البلد الأكبر من ناحية الاقتصاد والتعداد، والمركزي بموقعه بين شرق وغرب وشمال وجنوب القارة، والقادر على الاضطلاع بدور عسكري كبير في القارة، كما كان في السابق. مع ذلك، تبدو برلين غير عازمة على الاضطلاع بهذا الدور كما ترغب عواصم غرب أوربا.
على الرغم مما جرى في أوكرانيا، وإلحاح الكثيرين على ألمانيا تعزيز إنفاقها العسكري لمواجهة الخطر الروسي، خفضت برلين من ميزانية الدفاع الخاصة بها بحوالي 800 مليون يورو (مليار دولار)، وهي خطوة لم يرحب بها أحد على الإطلاق في أوربا، حيث يُنظَر لألمانيا باعتبارها البلد الكبير الوحيد الذي لا يعاني اقتصاديًا ويستطيع تعزيز إنفاقه العسكري في الوقت الراهن، كما أثارت الخطوة استياء واشنطن والتي تحاول بدورها دفع ألمانيا لتولى دورًا أكبر داخل الناتو.
يقوم الألمان حاليًا بدور عسكري لا بأس به، فهم جزء من الدوريات الجوية التي تجول سماء البلطيق، وهم على استعداد للمشاركة في قوة تأمين أوربية تابعة للتحالف طبقًا لتصريحات المستشارة الألمانية في ريجا، عاصمة لاتفيا، حيث يتفشى القلق مما يقوم به الروس منذ دخولهم العسكري إلى جيورجيا عام 2008 وحتى الأزمة الحالية. بيد أن مركل لا تزال متحفظة على واحدة من أهم مطالب دول شرق أوربا: وضع قوات دائمة تابعة لحلف الناتو في شرق أوربا. يقول روبين ألِرز، الباحث بالمعهد النرويجي للدراسات الدفاعية، “كانت مركل ووزير خارجيتها فرانك-فالتر شتاينماير واضحين حيال تلك القضية، برلين لا تدعم وجود عسكري دائم للناتو في شرق أوربا.”
يعود هذا التحفّظ الألماني في إطلاق العنان للناتو في شرق أوربا إلى سياسة نحو روسيا تقوم على الفهم أكثر منها على المواجهة أو حتى الاحتواء، وهي سياسة غير موجودة في باريس أو لندن، فألمانيا التي كانت منقسمة يومًا بين شرق تحت هيمنة موسكو وغرب تحت هيمنة واشنطن، والتي وُلدِت المستشارة الألمانية مركل في نصفها الشرقي، ترى روسيا بشكل مغاير لكافة بلدان التحالف الغربي، ولا تعتبر في الحقيقة أن الروس يجب أن يظلوا خارج أوربا، بل إنها ترى أن موسكو في الأصل لطالما كانت داخل أوربا. لذلك، ترى برلين أن موسكو ستصبح أكثر اندماجًا مع القيم الأوربية إذا ما تعاملت معها أوربا بثقة، ووطدت علاقاتها الاقتصادية والثقافية معها، بما يتيح إرساء نظام أوربي جديد لا يقوم على الاستقطاب.
تباعًا، يرى الكثير من الألمان أن الأزمة الأخيرة في أوكرانيا سببها في الواقع التعجرف الغربي في التعامل مع روسيا، وعدم مراعاة المصالح الروسية في شرق أوربا مقابل نزعة التوسع الأعمى لدى الناتو لجلب أوكرانيا إلى صفوفه، وهو ما يعني أن برلين ليست عازمة على اتخاذ أي موقف عسكري حازم في شرق أوربي، بل هي بالكاد وافقت على العقوبات الاقتصادية على الروسية، وعلى مضض بعد أن أسقط الانفصاليون الروس الطائرة الماليزية MH17.
الدور العسكري الألماني الممكن في هذه اللحظة التاريخية، والذي سيكون مرحبًا به داخل أوربا هذه المرة، هو للمفارقة، غير مرحب به بين صفوف الألمان أنفسهم، وقيادتهم السياسية.
قد تبدو مفارقة إذن، ولكن الواقع الذي سيتوجب على الناتو التعامل معه على ما يبدو هو عكس ما كان يرمي إليه خلال القرن الماضي: الروس بالفعل داخل أوربا، والولايات المتحدة ستصبح خارجها عاجلًا أم آجلًا، والألمان سيكون لهم دور أكبر في توجيه دفة القيادة، وهو ما يعني خضوع التحالف ولو جزئيًا لأولويات ورؤى برلين الصاعدة، مقابل تراجع واشنطن — Germans are Up, Americans are Out, and Russians are In