ترجمة وتحرير نون بوست
في وقت مبكر من يوم 7 يناير، اقتحم مسلحون ملثمون مكتب تحرير المجلة الفرنسية الساخرة “شارلي إيبدو” وقتلوا 12 شخصًا، وكان عدد القتلى حينها مرجحًا للارتفاع، وتزامن هذا الهجوم مع اجتماع لقسم التحرير في الصحيفة ضم المحررين الرئيسيين فيها، ووفقًا لشهود عيان، فإن الجناة دخلوا إلى مقر الصحيفة من المكاتب الخلفية، وصاحوا باسم رئيس التحرير ورسامي الكاريكاتير قبل إطلاق النار عليهم، توارى بعدها القتلة عن الأنظار، تاركين ورائهم افتراضات تشير إلى أنهم تابعون لتنظيم القاعدة.
إن عدد القتلى الذين وقعوا ضحية لهذا الهجوم، يجعله من أهم الأحداث التي وقعت على الأراضي الفرنسية منذ الاحتلال النازي، ويُعتقد بأن هذا الهجوم هو جزء من سلسلة طويلة من المخططات لتنظيم القاعدة الموجهة ضد العالم الغربي، والتي تهدف إلى تصفية شخصيات إعلامية غربية لها قيمتها الرمزية في العالم الغربي، كونها تشكّل نموذجًا لحرية التعبير، ولكنها بذات الوقت تمثّل عند بعض الإسلاميين مثالاً على شر العلمانية المطلق.
بالنسبة للإرهابيين، يشكّل موظفو صحيفة شارلي إيبدو أهدافًا جديرة بالقتل، نظرًا لأن هذه الصحيفة كانت إحدى الصحف الأوروبية القليلة التي واصلت نشر الرسوم المسيئة للنبي – محمد صلى الله عليه وسلم -، واستمرت بالسخرية من تطرّف الإسلاميين المتشددين، عقب الأحداث التي اندلعت ردًا على الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية المسيئة أيضًا للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وفي الواقع، فإن الهجوم الحاصل على صحيفة إيبدو لم يكن إلا نهاية لسلسلة مستمرة ومعروفة من التهديدات التي كانت تصل إلى الصحيفة، والتي تمثلث في عام 2011 بإلقاء قنابل حارقة على مكتب التحرير في الصحيفة، ردًا على نشرها موضوعًا يسمى “قضية محمد” والذي يتضمن استقبال النبي محمد كضيف محرر في حلقات الموضوع.
تشير المصادر الفرنسية بأن الهجوم تم تنفيذه من قِبل ثلاثة رجال إرهابيين مدرّبين، ويُفترض أنهم تلقوا تدريبهم من خلال مشاركتهم في المعارك التي تدور رحاها في سوريا، علمًا بأن منفذي الهجوم يتحدثون الفرنسية، كونهم إثر خرجوهم من مسرح الجريمة، أخبروا المارّة بأن يُعلموا وسائل الإعلام أنهم تابعون لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية؛ أحد منفذي الهجوم اسمه حميد مراد، ويبلغ من العمر 18 عامًا، تلقى تعليمه الثانوي في مدرسة واقعة في شمال مدينة رينس (بالفرنسية Reims)، أما الإثنين الآخرين فهما الأخوة سعيد كواشي 34 عامًا وشريف كواشي 32 عامًا، وهما معروفان من قبل الشرطة الفرنسية، فقد سبق وأن ألقي القبض على شريف في يناير من عام 2005، بتهمة الاتصال مع جماعة تقوم بتجنيد الفرنسيين لإرسالهم للقتال إلى جانب تنظيم القاعدة في العراق، وحينها أبدى شريف ندمه على اتصاله بالجماعة وشكر الشرطة التي منعته من الذهاب إلى العراق، ولكن على ما يبدو فإن ندمه كان مصطنعًا، ففي مايو من عام 2010، أُلقي القبض على شريف مرة أخرى بتهمة الاتصال مع جماعة تخطط لإطلاق سراح جهاديين فرنسيين من أصول جزائرية وهما جمال بغال وإسماعيل آيت علي بلقاسم المعروفين بارتكابهما تفجيرات مترو باريس في عام 1995.
إن القول بأن منفذي الهجوم في فرنسا تابعون لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب لا يتناقض مع كونهم قد تلقوا تدريبهم من خلال مشاركتهم بالأحداث الجارية في سوريا، فعلى الرغم أنه من المفترض أن معظم المقاتلين الأجانب الذين قدموا للمشاركة في الحرب السورية هم متحالفون مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو تابعون لتنظيمات صغيرة تابعة للقاعدة موجودة في سوريا؛ إلا أنه من المعروف أيضًا أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والذي يتخذ اليمن كمقر له، قد أرسل مقاتلين إلى سوريا، وهذا التنظيم يواجه ضغوطًا تنافسية من تنظيم الدولة الإسلامية، في حرب يائسة تسعى فيها القاعدة لإثبات جدارتها؛ لذا فإنه من المعقول أن نفترض أن عمليات القتل التي حدثت في فرنسا قد تكون محاولة لتذكير العالم بأن تنظيم القاعدة لايزال ناشطًا وفاعلاً على الساحة الدولية.
يشير مراقبون بأن هذه النتيجة كانت متوقعة في ظل تراجع تنظيم القاعدة في مواجهة التقدم الذي يحرزه تنظيم الدولة الإسلامية على الساحة الدولية، ومما زاد الطين بلة هو عدم اتخاذ حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لأية اجرءات لتخفيض خطورة تهديدات القاعدة؛ وبالتالي فإن صعود إحدى المنظمات الإرهابية لن يشكل تراجعًا للمنظمات الأخرى، بل على العكس من ذلك، فإن بزوغ أكثر من تنظيم على الساحة سيؤدي ببساطة إلى إيجاد عدد أكبر من القتلة المدربين التابعين لهذه التنظيمات على أرض أوروبا الغربية، وهذا العدد الكبير سيشكّل تهديدًا أكبر من أي وقت مضى على الغرب الأوروبي.
بقراءة متأنية للهجوم الذي تم تنفيذه في فرنسا، نجد بأن طريقة تنفيذ الهجوم تتناسب مع العقلية التي ينتهجها تنظيم القاعدة؛ فتنظيم القاعدة، وبالأخص تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، اعتبر نهج اغتيال رسامي الكاريكاتير ديدنه وخطته الخاصة، ففي عام 2011، دعا أحد كبار شخصيات تنظيم القاعدة أنور العولقي، أتباعه إلى اغتنام المبادرة وقتل رسامي الكاريكاتير الذين أساؤوا للنبي محمد بأيديهم، وذلك في خطبة نشرها على الإنترنت بعنوان “لن يستقر الغبار”، وقد تم ربط هذا التسجيل بعدد كبير من الهجمات والتهديدات التي مورست ضد الأفراد الغربيين المشهورين بإساءتهم للنبي محمد، وفي مارس من عام 2013، أصدرت مجلة “إلهام” الإلكترونية التابعة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، منشورًا سردت فيه عددًا من المطلوبين لعدائهم للنبي محمد، وكان من بينهم رئيس تحرير مجلة شارلي إيبدو المدعو ستيفان تشاربونيير، والذي كان من بين القتلى في الهجوم المنفّذ على الصحيفة الأربعاء الماضي.
كما أن الطريقة التي تم بها تنفيذ الهجوم تنمّ عن قالب معروف اشتهر به تنظيم القاعدة، فتفاصيل الهجوم توحي بأن منفذي الهجوم كانت لديهم معلومات داخلية عن الاجتماعات الجارية في مقر الصحيفة كما أنهم على دراية بخريطة مكتب ايبدو، وهذا ما ساعدهم على تنفيذ مخططهم بنجاح ومعرفتهم بالمكان والزمان المناسب لتنفيذ هجومهم، وهذا النوع من التخطيط المفصّل هو السمة المميزة للعمليات الموجهة لتنظيم القاعدة، وهذه العمليات مختلفة عن الهجمات المحلية التي غالبًا ما تفشل بسبب عدم كفاءة المنفذين؛ فمثلاً في عامي 2009 و2010، أحبطت السلطات مخططًا لاقتحام مكاتب التحرير في صحيفة “يولاندس بوستن”، وهي الصحيفة الدنماركية المسؤولة عن نشر الرسوم الكاريكاتيرية المثيرة للجدل للنبي محمد، كون المواطن الأمريكي ديفيد كولمان هيدلي والذي وُلد باسم داوود سيد جيلاني، سافر مرتين إلى الدنمارك للمساعدة في التخطيط لعملية يولاندس بوستن، وقدم مرة ثانية لمهاجمة الصحيفة في ديسمبر من عام 2010؛ وهذا ما ساعد الحكومة على وضع منفذي الهجوم تحت المراقبة.
الفرق ما بين هذه الهجمات المحلية الغير مخطط لها وبين الهجمات التي يتم ممارستها اليوم، هو المهارة التي يتم بها تنفيذ الهجمات؛ ففرنسا شهدت حوادثً مماثلة ارتكبها الأفراد الذين غادروا البلاد للقتال في الخارج ومن ثم عادوا لتطبيق مهاراتهم التي اكتسبوها على أهداف محلية ذات طابع سهل نسبيًا، فعلى سبيل المثال، محمد ميراه، وهو شاب من تولوز يبلغ من العمر 23 عامًا معروف بانحداره من أسرة ذات جذور عميقة في الوسط المتطرف، قام باستهداف جنود فرنسيين من أصل مسلم ومدرسة يهودية في سلسلة من جرائم القتل في مارس من عام 2012، وهذه العملية تذكرنا بالهجوم الذي تم على الصحيفة الفرنسية، حيث قام ميراه بتنفيذ هجومه بشكل ماهر ودقيق، واستطاع تصوير تفاصيل عملياته تمهيدًا لنشرها على الإنترنت، إلا أن السلطات الفرنسية اتخذت إجراءات سريعة لمنع نشرها، وبالمثل فإن مهدي نموشي، وهو أيضًا شاب فرنسي عائد من الحرب الدائرة في سوريا، نفّذ هجومًا دقيقًا على الموجودين في متحف يهودي في مايو من العام الماضي، حيث قام بدوره بتصوير هجومه لنشره لاحقًا على الإنترنت، وبالعودة إلى حادثة إيبدو نجد أن منفذي العملية لم يقوموا بتصوير عمليتهم؛ مما أثار موجة من التحسّر من قِبل الجهاديين على صفحات التواصل الاجتماعي، إلا أن تحسّرهم لم يدم طويلاً، كون المتواجدون بالقرب من مسرح الجريمة استخداموا هواتفهم المحمولة لتصوير العملية وقاموا بمشاركتها على صفحات التواصل الاجتماعية.
أخيرًا، فإن هذا الأسبوع شهد تصعيدًا غير مسبوق في الحرب التي يشنها الجهاديين على الغرب، وتفاعل جزء كبير من وسائل الإعلام بخوف مع هذا التصعيد، حيث قامت وكالة “أسوشيتد برس” بإزالة كافة المحتويات التي تشمل صورًا لصفحات صحيفة شارلي إيبدو من موقعها الإلكتروني، ومن المتوقع أن يحذوا مديرو وأصحاب شركات النشر الأخرى حذو وكالة أسوشيتد برس في محاولة منهم لكسب الأمان، ولكن هذا رد فعل خاطئ تجاه التهديدات التي تحوق بالعالم الغربي، كون تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والمجموعات الأخرى التي تواصل حربها ضد الكيان الغربي، لا تمتلك فرقًا مدربة على القتل منتشرة في كل زاوية من زوايا الغرب، والرد المناسب لتحدي الإرهاب الدولي هو زيادة الأمن الداخلي وتبادل المعلومات بين الحكومات حول المواطنين المتجهين للقتال في سوريا والعراق، بالإضافة إلى فرض رقابة أمنية مشددة على الحدود الأوربية المفتوحة.
المصدر: فورين آفيرز