للأسف، لا يكفي – ولا يمكن – اختزال الحوادث والظواهر السياسية والاجتماعية والفكرية، في كلمات و”هاشتاجات”، لتفسيرها وفهمها، وإن كان ذلك يسهل عملية التبرير والتمرير والتخدير، بها ولها، ويحول التاريخ إلى حكايا، والنصوص والأدبيات إلى أساطير وأحلام، وبالتالي؛ يحول الواقع إلى هزائم مادية ونفسية.
ولعله من أهم خطوات الفهم والتفسير والتحليل والحل، وضع الحوادث والظواهر في سياقاتها، النظرية والعملية، زمانيًا ومكانيًا، قبلها وبعدها وحولها، لتحويل الحدث والظاهرة من صورة جامدة، إلى نسق متكامل متفاعل تتحرك به الأحداث والأفكار وتؤثر وتتأثر.
حادثة مجلة شارلي إيبدو، التي قُتل بها 12 شخصًا بينهم رسامي كاريكاتيرات مسيئة للإسلام في باريس – هي إحدى الحوادث التي أُعيد اختزالها وتسهيل وصفها، كل بحسب المقياس والنظرة التي أراد النظر لها، فمن تبريرها بـ”المؤامرة” و”الإسلاموفوبيا” و”داعش” إلى حلها بـ”#أنا_شارلي” و”#KillAllMuslims” أو “#KillAllChristians”، على السواء!
تشكل سياق ظاهرة شارلي إيبدو من تطرفات ثلاثة، هي: مجلة شارلي إيبدو، وحادثة شارلي إيبدو، وأنا شارلي إيبدو؛ رافق كل منها إشكالاتها وظواهرها التي تشكل أعراضًا لأمراض كشفتها الظاهرة، وكشفت استفحالها في أجسادنا وأفكارنا ونفسياتنا، ربما كان علاج المرض بها متأخرًا هذه المرة، لكن لعل هذه المحاولة لتفكيكه كذلك تنبهنا إلى ضرورته وأهميته، خصوصًا لكونه وباءً عامًا أكثر من مجرد مرض بسيط:
التطرف الأول: مجلة شارلي إيبدو
بعد حادثة شارلي إيبدو، تدفق سيل من العبارات والكاريكاتيرات التضامنية التي اعتبرت المجلة القلم الحر المظلوم الذي كسرته الرصاصة، وشمعة الكلمة المضيئة التي أطفأها الظلاميون، وتحولت المجلة لأيقونة فكرية ماتت دفاعًا عن حريتها، وللحقيقة فهذا السيل هو أشبه بسيل سبأ العرم الذي يحيل الجنات والأفكار السامية إلى “أكل أثل وخمط وشيء من سدر قليل”؛ ذلك أن شارلي إيبدو ليست ساحرًا من سحرة فرعون، بل هي أقرب لأشقى ثمود أو مترف القرية الذي يجلب الوبال لقومه جميعًا، لا بفعله وحسب، بل لجهله كذلك!
للتوضيح، مجلة شارلي إيبدو هي مجلة ساخرة – ليست حتى سياسية أو صحفية – كانت على حافة الإفلاس، رأس مالها هو الاستفزاز والسخرية الفجة من كل القيم والأفكار والرموز الدينية والسياسية والإعلامية، كان أكبر نجاح لها – والشكر لنا – هو العدد الذي سخرت به من الرسول عليه الصلاة والسلام، بيع منه نصف مليون نسخة مقابل أربعين ألف نسخة أسبوعيًا، وهي الإصدار الثاني من نسخة أولية أغلقت بسبب المبالغة بالاستفزاز، داعية صحفًا أجنبية مثل فايننشال تايمز لوصفها بالغبية، وغيرها من المواقف والتعبيرات الصادرة من الغرب نفسه.
ولا تأتي المجلة خارج زمانها ومكانها، فهي تأتي في سياق فرنسا، المحتقنة بالكراهية الدينية الآن، بسبب سياساتها الحادة تجاه الهوية والأديان التي تجلت بمنع الحجاب والرموز الدينية الآن، والعمل على “فرنسة” الدول التي كانت تستعمرها تاريخيًا، ولعل ذلك يأتي انطلاقًا من قطبي فرنسا التاريخيين: العلمانية الحادة التي تشكلت تحت شعار “إعدام آخر قسيس بأمعاء آخر ملك” تاركة أثرها في السلطة والمجتمع، و”الحرية” التي قامت عليها الثورة الفرنسية، التي يمكن أحيانًا أن تتحول إلى معاداة للسامية – كما حصل في حادثة سينيت الذي كتب في شارلي إيبدو وطردته بعد ذلك -، لتصبح الحرية صنمًا من تمر، تصنعه فرنسا وتأكله عند جوعها.
التطرف الثاني: حادثة شارلي إيبدو
بأي شكل وقيمة، وبالرغم من تطرف فرنسا والمجلة، لا يمكن تبرير حادثة القتل – ولا أي حادثة قتل شبيهة – في شارلي إيبدو أخلاقيًا، ولا حتى سياسيًا بما ستجره من مصائب على المسلمين، الذين ظن القتلة والجاهلون هذه العملية انتصارًا لهم!
وحتى إسلاميًا، فـ “من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا”، وبالمقابل، فقد كانت الدعوة للرسول عليه الصلاة والسلام في مواقف كهذه، أن “إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا، فأعرض عنهم”، واعتبر ذلك من سمات عباد الرحمن الذين “إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا”، ساعين له وطالبينه، لا لأنفسهم وحسب، بل لدينهم وأقوامهم كذلك، لأن الجاهل لا يجيد إلا الجهل، والتطرف لا يجلب إلا التطرف، والفكرة لا تقتلها إلا الفكرة.
لكن، لم يأت القتلة من الفضاء، أو رحلوا من بلدانهم ليستهدفوا المجلة تحديدًا، فهم المهاجرون الفرنسيون الذين عملت فرنسا تحديدًا على فرنستهم، ونشأوا بها وتربوا على أفكار حريتها، وبالمقابل قاسوا وعانوا تمييزها ضدهم واستفزازهم في أفكارهم ورموزهم.
وليست فرنسا هي الوحيدة التي تشعر المسلمين بالتهديد، وإن كانت أكثرهم مقابل أكبر جالية مسلمة في أوروبا، بل يأتي ذلك مع سياق موجة واسعة في فرنسا في ظل “الإسلاموفوبيا”، تجددت موجاتها مع موجات المهاجرين الذين تركوا الأراضي العربية المسلمة التي نشأت بها أفكارهم، دون أن يروها، بل رأوا عكسها من الفقر والظلم والقتل، مترافقة مع موجة من رد الفعل على هذه الموجة بالمظاهرات الداعية لوقف بناء المساجد وعدم استقبال المهاجرين في عدة بلدان أوروبية أخرى.
التطرف الثالث: أنا شارلي إيبدو
مع سيل التضامن الغربي، رافق ظاهرة شارلي إيبدو – عربيًا وإسلاميًا – سيل من الاعتذار وطلب المغفرة، والتبرؤ من القتلة، تجلت تحت هاشتاج “أنا شارلي إيبدو”، ولعل هذا التطرف هو الأخطر، إذ إنه لا يبرر التطرفين السابقين وحسب، بل يثبتهما ويضع جذورهما لا في الوعي وحسب، بل في اللاوعي والنفسية كذلك، خصوصًا إذا كان ظاهرة متكررة تنبع من الانهزامية المادية – التي استحالت إلى رمزية كذلك أمام الغرب -، وشعورنا بالمسؤولية عن أي خطأ أو كارثة في العالم كما ينظر هو ويعتبر.
بالمثل، فإن على فرنسا والغرب مثلاً، إذا طوينا صفحة مصائب الاستعمار، الاعتذار عن دمار العراق، وقتل المدنيين هناك بالآلاف لا بالعشرات، ولم تعتذر فرنسا عن التدخل وحدها في مالي، ولم يعتذروا عن دمار سوريا وليبيا الآن، بل اعتبر ذلك عمق مهمته البطولية، ربما لأن العزف على القانون لمن يمتلكه – كما يقول أحمد مطر – ليس للقوانين والدساتير العربية وحسب، بل يصح على القانون الدولي الإنساني، والقانون العرفي، الذي يأخذ إن شاء من روما معاهدتها، وإن شاء إمبراطوريتها!
يأتي هذا الاعتذار في سياق آخر يتداخل مع السياقين السابقين، تأثيرًا وتأثرًا، وهو سياق الحرب على الإرهاب وظهور داعش – وهي ظاهرة منفصلة معقدة – والتي نعد نحن أكبر ضحاياها، الذي يجعل العالم في حالة تخوف وتحفز أمام كل ما يرتبط بالإسلام، والمصيبة الأكبر أن يجعلنا نحن كذلك، لا نواجه مصائبنا ومشكلاتنا، بل نهرب منها بالاعتذار عنها واختزالها بكلمات وحالات بسيطة، في مرض نفسي ولا وعي يؤسس لبنية وبرادايم كامل، نفسي واجتماعي وفكري، للمقهور والمغلوب أمام قاهره وغالبه، يجعله ينكر نفسه أمامه ويسعى للتماهي به، فيخسر نفسه ويخسر رضا الآخر بالطبع، فيصير كالمنبت؛ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
لست شارلي إيبدو، إذ إنني لست متطرفًا، ولا يعني هذا – بديهيا – أنني قاتلهما كذلك، لأنه متطرف كذلك، في صراع ليس بين الحضارات، بل بين المتطرفين، والذين لا يؤدي الهروب منهم وتجاوزهم والانهزام أمام تطرفهم بالاعتذار عنه إلى ظهور المزيد منهم بيننا قبل أن يظهروا بينهم، ما لم نقف وقفة جادة جريئة أمام أمراضنا لتفكيكها وتشخيصها أولاً، لنستطيع علاجها والتخلص منها، في تأخر لا يعني إلا مزيدًا من استفحال المرض ونزيف الدم، دمنا قبل أن يكون دم غيرنا.