منذ أن اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مدن محافظة الأنبار، غرب العراق، والأوضاع الأمنية والاقتصادية تزداد سوءًا، إذ يحاول التنظيم فرض أفكاره على سكّان هذه المدن؛ مما أدى للتضييق عليهم، القصفُ المستمر على المدن والمعارك التي يخوضها التنظيم مع الجيش والعشائر التي تحاربه؛ أدى إلى تقطّع الطرق وإغلاقها، أدى القصف لتدمير بعض الجسور، بينما كان تنظيم الدولة يفجّر جسورًا أخرى، يقول ناشطون، إنه في محافظة الأنبار وحدها، دُمّر أكثر من 28 جسرًا، بأنواعها المختلفة، وتدهور الأحوال الأمنية وخطورتها جعل عمليات إعادة بنائها وصيانتها تتوّقف تمامًا.
ليست الأوضاع الأمنية والخوف من القصف أو المعارك، هي التي أخافت السكان وأرعبتهم فحسب، لقد ساءت الأحوال الاقتصادية، إذ إن انقطاع الطرق الواصلة بين الأنبار وبغداد، والأنبار والمحافظات الأخرى، أدى لنقصٍ في الموارد النفطية، شحّة تامة وفقدان، وإن وُجِدت فبأسعار باهظة جدًا، فبينما كان سعر أسطوانة الغاز أقل من 5 دولارات، صارت اليوم أكثر من 50 دولارًا، بالإضافة للبنزين، ونقص الكهرباء والماء، وانقطاع رواتب الموظفين لأشهر عديدة، وتوّقف سوق العمل والبناء.. أصيبت الحياة في مدن المحافظة بشلل تام.
كل هذا، صار يدفع المواطنين في المحافظة للنزوح منها إلى مناطق أكثر أمنًا (رغم نسبيّة هذا الأمر في مدن العراق)، إلى محافظات ومدن ماتزال تتمتّع بشيء من الهدوء والرخاء الاقتصادي.
الطريق بين الأنبار وبغداد مقطوع منذ أكثر من سنة، منذ أن قامت القوات العراقية بالهجوم على ساحة الاعتصامات في مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار، لذا فإن هذا الطريق لا يفكّر به أحد، فبحسب ناشطين: الطريق من الأنبار إلى بغداد كان ينقضي في ثلاث ساعات (450 كم) ، بينما صار المسافر اليوم يحتاج لأكثر من 12 ساعة للوصول للعاصمة بغداد، مما يعني أكثر من (1200 كم) في طريق وعر وخطر، لا يدري المسافر ما قد يواجهه فيه.
يقول مسافرون، إنه لا خيار أمامهم، إذ إنهم بين موتين: البقاء في مدنهم حيث القصف والمعارك المستمرة والتضييق عليهم من قبل تنظيم الدولة (داعش) والحياة المتوقفة، أو النزوح من مدنهم صوب محافظات أخرى، الطريق إليها موتٌ آخر، لكن الرحيل يبقى أفضل من البقاء.
تتحدّث أم محمد، وهي نازحة اضطرت لمغادرة محافظة الأنبار إلى بغداد، أنهم كانوا أمام خيارات مُرّة، لا يوجد طريق سهل وسريع، على المسافر أن يختار بين السفر من طريق صحراويّ طويل وسيء يمرّ بمحافظة كربلاء ثم يقطعها نحو بغداد، أو السفر من طريق صحراويّ وعر أكثر خطورة، تقطع فيه محافظات صلاح الدين وديالى، وهي محافظات الوضع الأمني فيها خطر وسيّء، حتى الوصول لبغداد، قد تتعرّض في الطريق لقصف من الطائرات، أو ربما لاحتجاز من قبل مسلحّين تابعين لميليشات، أو لتنظيم الدولة الإسلامية.
تقول أم محمد إنهم اختاروا طريق الوصول لبغداد الذي يمر بمحافظة كربلاء، رغم ما فيه من خطورة وسيرٍ طويل ووعر، لكنه كما قال لهم السائق الذي أخذهم إنه أفضل من الطريق الآخر، إذ لن نمر فيه بمحافظات مختلفة يسيطر على كل جزء منها مسلحون تابعين لميليشا مختلفة.
أما الطالب أحمد سعيد، الذي يدرس في جامعة الأنبار، قال لي حين التقيت به: إنه اضطر لقطع أكثر من 1000 كم للوصول لبغداد، لغرض السفر إلى تركيا للتخلّص من الواقع المر هنا، ويتحدث بأسى عن الطريق الصعب، وكيف كان مليئًا بالمسلحين من الميليشيات وتنظيم الدولة والجيش، وأنهم كلما توقفوا عند نقطة تفتيش لأحدهم كان خوفهم يزداد، إذ لكل مجموعة مطالبها .. مطالبها التي قد تكون أنت أحدها، بالإضافة للألغام والتعرجات التي قد تودي بك في وديان لن تجد من يُخرجك منها، والطائرات التي قد تتوّهم وتقوم بقصف السيارة في أي لحظة.
يروي أحد الناشطين الذي رفض ذكر اسمه، أنه من الأمور المضحكة والمثيرة لتساؤلات عديدة في هذا الطريق، هي أنه توّقف عند نقطة تفتيش لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قاموا بالتحقيق معه ثم تركوه يمر بعد أن دقّقوا في هويّته، وما إن اجتاز نقطة التفتيش بعد منطقة تسمى الـ 160 في الطريق الصحراوي المؤدي لكربلاء، والتي تنتهي عندها سيطرة تنظيم الدولة، حتى وصل لأخرى بعد أقل من 2 كم، تابعة للجيش العراقي، يقول معبرًا عن استغرابه من القرب الكبير بين نقطتيّ التفتيش، والأسئلة وعلامات التعجّب التي يثيرها مثل هذا الأمر.
أم محمد تقول إنها اضطرت في بداية الطريق إلى بغداد أن ترتدي النقاب، كي لا تعترضهم نقطة تفتيش لتنظيم الدولة وتقوم بمعاقبتهم إذ قد تكون العقوبة جلدًا لها أو لزوجها، فالنقاب قد فُرض على النساء في كل المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة (داعش)، حتى إنه فُرض على الفتيات الصغيرات، تقول إن السائق أوصاها بالالتزام بارتدائه حتى لا يتعرضوا للخطر بسببه، وتواصل أم محمد حديثها عن الطريق، تقول إنه كان مليئًا بالألغام، وبعض المناطق التي مرّوا بها كانت قد تعرّضت للقصف مما أدى لتدمير الشارع بالكامل، هناك الكثير من الجسور المفجّرة والمغلقة لاستحالة المرور من فوقها، وقد اضطروا للمرور في تحويلات متعرجّة عبر الصحراء لاجتياز طريق كان يمكن أن يعبروه في دقائق قليلة.
أما أحمد سعيد ، فيتحدّث عن الرعب الذي عايشه في الطريق، يقول إن السائق ادخلهم لأماكن موحشة، وكان في كل مرحلة يطلب من السائق التوقف وسلوك طريق آخر أقل وعورة وخطورة، لكن السائق كان مصرًّا على قطع الطريق بمعرفته، إذ إن الطريق ملئ بمسلحي الدولة الإسلامية، الذين قد يوقفوهم للتحقيق، وبسبب العمليات العسكرية المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر، فإن قناصة الجيش العراقي كثيرًا ما تستهدف المارة والسيارات دون تأكّد.
يروي أحمد سعيد ما حدث معه في منتصف الطريق، يقول: في واحدة من نقاط التفتيش لإحدى الميلشيات، تمّ إيقافهم، فسأله أحدهم: من أين أتيت؟ وحين أخبره أنه قادم من محافظة الأنبار، من مدينة الرمادي، أجابه بغضب: إذن أنتم تحت سيطرة الدواعش! ثم طلب منه النزول من السيارة للتحقيق معه، وأخذ هاتفه الجوال، يتحدث طه عن الرعب الذي عاشه، يقول: تخيّلت أن حياتي انتهت! لكنه يكمل متنهدًّا، أنه بعد التحقيق، أعاد له هاتفه، وأخلى سبيله، وحين عاد للسيارة بدا على السائق التعجّب والاستغراب، حيث أخبره بكونه محظوظًا، فلم يحدث أن أخذوا أحدًا للتحقيق وأعادوه حيًّا، الكثير ممن أُخذوا كان يُعثر على جثثهم على قارعة الطريق.
تتحدّث أم محمد عن الخوف الذي كان يسيطر عليهم كلما توقفوا عند نقطة تفتيش يقف عليها مسلحو تنظيم الدولة، لكنها تستدرك، وتقول: أغلب نقاط التفتيش التي يقف عندها تنظيم الدولة الإسلامية كانت قد قُصفت في الليلة السابقة، لذا كنا نمر بها وهي مدمرة ومخرّبة، ولا يقف عندها أحد، كان هذا شيئًا جيدًا لنواصل الطريق بسرعة أكبر دون أن يعطلنا أحد أو يحقق معنا. ثم تروي ما لاقوه في الطريق الواقع تحت سيطرة الجيش العراقي، تقول بشيءٍ من فرح، أنها سعدت كثيرًا عندما رأت العلم العراقي يرفرف عند نقطة تفتيش للجيش، متحدثّة عن سعادتها في الخروج من الأرض التي يحكمها تنظيم الدولة ويرفع فوقها راياته، ثم تكمل متحدثة عن نقاط التفتيش التي كانت تحقق معهم، وتسألهم عن المكان الذي يريدون الذهاب إليه، وخيبة الامل التي كانت تصيبهم كلما أخبرهم جنديّ أن الطريق من كربلاء إلى بغداد مغلق بسبب اقتراب أربعينية الإمام الحسين – رضي الله عنه -، لكن لم يكن أمامهم خيار سوى المواصلة، لا رجوع إلى أرض الألغام والقصف، ثم تروي ضاحكة: بعد أن اجتزنا المنطقة التي تسيطر عليها داعش، مررنا بنقطة تفتيش للجيش العراقي، فطلب منا الجنديّ خلع النقاب، قائلاً لهم بأنه لا خوف عليهم فقد اجتازوا المنطقة التي تحكمها داعش، ولن يحاسبها أحد بعد الآن.
تقول أم محمد، إنهم كانوا محظوظين، إذ لم تحدث معهم مشاكل كثيرة في الطريق، لم يتم التحقيق معهم لأوقات طويلة، ولم يكن الطريق مزدحمًا بالمسافرين، بل إن أغلب نقاط التفتيش كانت تتعاطف معهم، وتدعوهم لمواصلة السير عسى أن يكون الطريق مفتوحًا، وحين وصلوا لنقطة التفتيش التي تربط بين كربلاء وبغداد، كانت قد فُتحت للتو، لكنها تتحدث بحزن عن الكثير من السيارات والعوائل التي قد اضطرت للمبيت في العراء لأيام عديدة، بانتظار أن تقوم قيادة عمليات كربلاء بإعطاء أمرٍ بفتح نقطة التفتيش لعبور النازحين إلى بغداد، إذ كثيرًا ما تظل مغلقة لأيام عدّة، تروي ما شاهدته من تعب وإنهاك على الأطفال والنساء، وكيف انهم قد اضطرّوا لإمضاء أيامهم ينامون في الصحراء، لا يستطيعون العودة، فهذا مستحيل، ولا طريق يُفتح أمامهم ليواصلوا السير إلى مبتغاهم.
في آخر إحصائية قام بها مكتب الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة (أوتشا) ذكر أن هناك أكثر من 100 ألف شخص نزحوا من محافظة الأنبار منذ بداية سنة 2014، وبلغ عدد النازحين أكثر من 2 مليون في جميع أنحاء العراق، ومعّدّل النزوح في ارتفاع مستمر، وهناك مناطق يصعب الوصول إليها بسبب الظروف الأمنية الصعبة والمعارك المستمرة، لا تدخل ضمن هذه الإحصاءات، ويذكر تقرير (أوتشا) أنه بالإضافة لمليوني نازح، هناك أيضًا مليون ونصف شخص نازح داخل المجتمعات المضيفة، بالإضافة لمليون شخص يعيشون في المناطق الساخنة حيث يصعب الوصول إليهم وإمدادهم بالخدمات الأساسية.
هذه الإحصائيات المخيفة، أفقدت المواطن العراقي أيّ أملٍ في تحسّن ما، بل إنها تدفعه ليفكر لا في النزوح داخل المحافظات العراقية، وإنما في الهجرة خارج العراق، بحثًا عن حياة أفضل .. عن حياة مفقودة، بينما يبقى الحل للخروج من هذه الأزمة التي بدأت منذ أكثر من ستة أشهر متخبطًا بين قرارات حكومية متعثّرة لاحتواء الأزمة ومحاولة إيجاد مخرج لها.