الصورة: أهالي رملة بولاق، وأبراج نايل سيتي الفاخرة – تصوير مصعب الشامي
منذ بدء استخدام مصطلح الدولة الحديثة تاريخيًا – وفقًا للمؤرخين – الذين يرون دولة محمد علي هي الدولة الحديثة وأن ما ترتب عليها هو نقلة حضارية، فمنذ ذلك التاريخ وثنائية الصراعات المدنية العسكرية قد بدأت في النشوب، دعنا من الخوض في الجدليات التاريخية المحيطة بتأسيس جيش لمصر على النسق الحداثي كما يحب أن يُطلق البعض عليه، هذا الجيش الذي قُهر من إمبراطوريات أوروبا وعاد لأدراج مصر والسودان فقط، لم يخلع يده من التحكم في الدولة والمشاركة في السلطة والمزاحمة عليها على مر عقود تخللها احتلال وانساق للحكم التابع للدولة العثمانية فالملكي فالجمهورية العسكرية الأولى أو ما عُرف بعد ذلك بدولة الضباط التي أتت بعد انقلاب على الملكية في صياغة لدولة محمد علي بشكل جديد، هو شكل باق حتى هذه اللحظة بنكهات مختلفة لأصل واحد، وسر بقائه يكمن في تعايشه مع الحالة المصرية وامتلاكه لأدوات الانسلاخ والتحول في شتى الظروف التي قد تكون سببًا في تغيير دوره بالمعادلة ككل.
هذه العقلية العسكرية التي تُدير المشهد في مصر الحالية ومصر التاريخية بينها نقاط التقاء مشتركة كثيرة؛ فأحد أهداف الجمهورية العسكرية في كل وقت وحين كانت بناء طبقة “خاصة” لها، هؤلاء الخاصة لهم الحظوة والمكانة المميزة “الدرجة الأولى” ليست فقط لهم بل ولأبنائهم ودوائرهم وبالطبع جل هؤلاء من الضباط وأجهزتهم السيادية على مر العصور، كذلك أمراء الأجهزة البيروقراطية التي تُحكِم الإمساك بزمام الدولة دائمًا ورجال المال في كل العصور الذين يتزواجون دائمًا مع هذه السلطة العسكرية لتحقيق المعادلة الأنجح في الحفاظ على الثورة وهي امتلاك القوة التي تحميها، وتُرِكت “الدرجة الثانية” لمنافقي هذه السلطة الذين يعملون بأموال رجال المال والأعمال كدرجة أقل وكحائط صد يمنع العوام عن هذه السلطة إذا ما فكروا في التمرد عليها، أما “الدرجة الثالثة” فتُرِكت دومًا للأغيار وهم عامة الشعب.
بشكل طبيعي مع تمترس طبقة الحكم العسكرية خلف سبل الترف وأدوات الحداثة الرأسمالية التي لا يمتلكها سواهم، وبعد أن أصبح للجيش شركاته الخاصة بالمقاولات والتشييد والبناء وأخرى للخدمات المختلفة التي تنفذ لهم مشروعاتهم البنائية الخاصة وتقوم على توفير كافة الإمكانيات الحديثة بها؛ لم يعد ممكنًا أن تعيش هذه الطبقة مع الدهماء بأي حال من الأحوال، ولم تعد عشوائيات المقطم تليق بجوار الكمبوندات الفاخرة بها، ولم تعد شوارع القاهرة المزدحمة بغبار الفقراء الأغيار ومواصلاتهم العامة تتحمل أن يسير بها موكب سيارات الدفع الرباعي الخاصة بأبناء المدينة المختارة أو إن شئت قل المدن المختارة التي انتشرت في ربوع مصر ولكنها ليست مشاعًا إلا لأهلها وإنما مكتوب عليها “ممنوع دخول الأغيار” وهي عبارات ليست للتندر ولكنها موجودة على أرض الواقع، فسكان المدن الجديدة التي قامت شركات الجيش بالتحالف مع رجال الأعمال لبنائها يمرون من خلال بوابات بواسطة بطاقات هوية خاصة بهم تمنع الأغيار من اقتحام عالمهم الخاص.
مدن الكبار على أرض الأغيار
هذه المدن وأراضيها بُنيت على ركام أراضي البسطاء بعد أن اُنتزعت منهم انتزاعًا لصالح تلك المجمعات السكنية الراقية بأبخس الأثمان بل وأحيانًا بلا ثمن بدعوى الأمن القومي.
قضية مدينتي التي لا تخفى على أحد حيث بيعت 8 آلاف من الأفدنة التي يمتلكها الشعب لصالح أحد حيتان المال والأعمال بأسعار زهيدة وسط تردد مقولات عن شراكة أحد أعضاء المجلس العسكري في الأمر من خلف الستار، تم بيع هذه الأرض بالأمر المباشر من الوزير الأسبق محمد إبراهيم سليمان عام 2006 بقيمة 25 قرشًا للمتر الواحد في مساحة تبلغ 33.6 مليون مترًا مربعًا أي بمبلغ لا يتعدى 8.5 مليون جنيه، في حين أن السعر الحقيقي لهذه الأرض في هذا الوقت بلغ 25.6 مليار جنيهًا كلها ملك للأغيار وللدهماء.
نفس الحال ينطبق على الضبعة التي هي ملك لسكانها؛ قامت القوات المسلحة بالاستيلاء عليها ومنازعة أهلها عليها متعللين ببناء مفاعل نووي مصري واستكمال المشروع النووي المصري الذي لم ينطلق من الأساس على يد أحد جنرالاتهم في الخمسينيات من القرن الماضي، ولكن وراء هذا التعلل والادعاء هو استثمارات سياحية خفية تخص الجيش؛ لذلك أراد أن يستولي على هذه المنطقة بدعاوى الأمن القومي والمنفعة العامة التي أصبحت مجرد منفعة للطبقة الحاكمة فحسب، لذلك لا يهم أن يخلي أهل الضبعة بيوتهم قسريًا وتُهدم منازلهم وتُردم آبار المياه الخاصة بهم لأجل هذه المشروعات الخفية التي تبين أن من بينها إنشاء مطار بالعلمين ورائه إبراهيم كامل رجل الأعمال ونجلي المخلوع مبارك، حيث اُنتزعت لهم الأراضي انتزاعًا من أصحابها، ومُنع بعضهم من الصيد الذي هو مصدر رزق للسكان في تلك المنطقة.
لم تسكن هذه الطبقة عند هذا الحد بل امتدت يدها وعيناها إلى كل ما يمتلكه الأغيار من موارد ليحرموهم منها؛ فجزيرة القرصاية في وسط النيل لا يمكن أن تتخيل في نظر الجيش وأعوانه كسكن لمجموعة من الصيادين والفلاحين البسطاء، فالعمارات السياحية الشاهقة المحاطة بالأسلاك الشائكة والفنادق الفارهة تليق أكثر بالنسبة لهم؛ لذا علينا أن ندّعي أن هذه الأرض ملك للجيش ونحاكم أهلها عسكريًا لأنهم تصدوا لمن يحاول أن يقتلعهم من جذورهم.
هذه هي أحوال أهل مصر من الأغيار والبسطاء في مواجهة “اليوتوبيا المصرية” التي شرعت دولة الضباط وأبناؤها في بنائها بعد أن تم إفقار وإذلال الشعب وتغييبه وتجهيله عن كل ما يدور حوله، وبعد ذلك لا يُسمح لهم بتخطي الحواجز الشائكة التي ضُربت حول هذه اليوتوبيا بسبب أنهم من الأغيار الفقراء من طبقة غير طبقة أصحاب الفيلات الفاخرة والعقارات الشاهقة المزودة بأساليب رغد العيش والتقنيات الأحداث والديكورات التي لا يضاهيها طراز.
كل هذه المدن وغيرها اُنتزعت من أهلها بواسطة أباطرة العمل التنفيذي الحكومي ليأكلوا الفتات على موائد سلاطين العسكر ووزرائهم وليجدوا مكانًا لهم في “اليوتوبيا العسكرية” الجديدة.
هلافيت الدولة العسكرية عمال بناء في اليوتوبيا الجديدة
لا تتعجب حينما تُنتزع ملكية أراض حدودية مصرية من أهلها لأجل حماية اليوتوبيا إقليميًا، هذا ثمن يجب أن يُدفع كما تم انتزاع السوابق من الأراضي لصالح اليوتوبيا، فأمن اليوتوبيا ورجالها واستمراراها ثمنه أن تُنتزع المزيد من الأراضي لتستخدم في تأمين إمبراطورية أخرى نخشى بطشها؛ لذلك تُهدم منازل أهالي مدينة رفح حتى 500 متر من الشريط الحدودي لتأمين الجارة إسرائيل، يبدو أن هذا الرقم لا يكفي إذن فليكن 1000 متر، يبدو أن الأمان والبعد عن الأغيار لم يصل للمستوى المطلوب فليكن 1500 متر، بل لنُزيل المدينة بأكملها فهذا لا يضر في سبيل بناء هذه اليوتوبيا.
إذن من ينفذ هذا الأمر ومن يتصدر واجهته؟ إنهم الجنرالات المحافظون الحكوميون الذين عُينوا من قِبل جنرال أكبر ليقوموا على شؤون الأغيار كولاة أمور لأن هؤلاء الأغيار فاقدون للأهلية كما يتصورهم الجنرالات؛ لذلك فهم من يقومون على أمورهم بل وينتزعون أراضيهم حفاظًا عليهم وعلى أمنهم القومي، بل ويقتلونهم خوفًا عليهم من الحياة مع الإرهاب المحتمل المزعوم، كل ذلك بالتعاون مع أجهزة الدولة التنفيذية لليوتوبيا الجديدة التي تعمل على نزع أراضي الأغيار لصالح رجال أعمال اليوتوبيا وجيشها.
ولكن دعني أعطيك مثالاً لتعرف كيف تسير مصر نحو اليوتوبيا عن طريق “هلافيت للعسكر” موزعين على الأجهزة التنفيذية للدولة في كل عصر؛ مصطفى كمال مدبولي وزير الإسكان والمرافق والتنمية العمرانية الحالي في حكومة الجنرال السيسي، الرجل المقرب من نجل المخلوع مبارك، جمال، الذي عمل على انتدابه في عام 2004 كمدير عام للمكتب الفني للهيئة العامة للتخطيط العمراني، ثم ترقى بعد ذلك ليصبح نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتخطيط العمراني، ثم ليصبح رئيس الهيئة ولمجلس إداراتها حتى 2011.
هذا الشخص كان مسئولاً ووزيره عن قضايا فساد الأراضي التي كانت في عهده أثناء توليه هيئة المجتمعات العمرانية المنتدب بها، ففي 23 أغسطس 2006 تم توقيع عقد بين شركة بالم هيلز والتى يمثلها ياسين منصور – طرف أول مشتري -، وبين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التي يعمل في مكتبها الفني مصطفى مدبولي والتى يمثلها أحمد المغربى وزير الإسكان ــ طرف ثان بائع -، حيث باعت الهيئة للشركة مساحة تسعمائة ستة وستون ألف مترًا مربعًا فى القاهرة الجديدة، مقابل مبلغ مقداره مائتان وواحد وأربعون وخمسمائة ألف جنيهًا، بواقع 250 جنيهًا للمتر الواحد ، وتم البيع بالأمر المباشر، مع العلم أن الطرف البائع وزير الإسكان، ابن خالة الطرف المشتري ــ ياسين منصور، ليس هذا فحسب بل إن الوزير مساهم فى رأسمال الشركة التى باع لها هذه الأرض.
فضلاً عن مسؤوليته في قضية مدينتي التي سبق وأن أشرنا إليها كأحد مدن الطبقة الحاكمة وكيف تم انتزاعها، وهو أحد أفراد الهيئة المسؤولة عن ذلك في وزارة الإسكان التي تنتزع الأراضي من أصحابها لصالح الدولة وتعطي بالأمر المباشر للجيش وغيره من المستثمرين دون أن توفر أية بدائل للمتضررين، حتى أصبح هذا الرجل وزيرًا ليستكمل مهام السابقين له في عملية بناء اليوتوبيا المصرية العسكرية ليصبح أحد الأُجراء بها مع كل علامات الاستفهام التي تلاحقه ليبقى التساؤل عن دوره ودور الجيش في إبادة مدينة بأكملها على الشريط الحدودي مع الكيان الصهيوني وقبلها جزيرة القرصاية وأهالي الضبعة دون توفير بديل لأصحابها من أجل أهداف غير معروفة للأغيار لكن في حقيقتها تجذير لعملية صناعة طبقة وحاجز للفئة الحاكمة التي تتصرف في شؤون الطبقة المحكومة دون أي اكتراث بالأمر ولا لحياة البشر ومأواهم، فأي دولة تلك التي تعين مسؤولاً عن فساد سابق في أحد أجهزة وزارة ما ليأتي على رأسها فيما بعد ليستكمل مسيرة الفساد السابقة .. إنها اليوتبيا الجديدة ونظام إداراتها.
العاصمة الجديدة
إن هذه المدن الطبقية التي يشتكي سكانها على مواقع التواصل الاجتماعي من دخول “تاكسي البسطاء” إليها دون تصريح أو غفلة من رجال الحراسة، أو من دخول أحد العمال البسطاء لقضاء حاجة ما بداخلها لسكانها، أو رؤية المتسولين – أحد ضحاياهم- داخل مدنهم؛ يجعلك تتأكد من ماهية هذه التجمعات التي تدعو لفرض حراسات أكثر وضرب المزيد من الأسوار لعزلهم عن هذا العالم الغير صحي بالنسبة لهم، فأفكار إنشاء مدن خاصة بهم في الصحراء لازالت تروادهم، فهم لا يستطيعون أن يتعايشوا وأسرهم مع هؤلاء الأغيار؛ لذلك وُجِدت المجتمعات العمرانية الحديثة التي بها مدارسها الأجنبية الخاصة وفنادقها الخاصة ووسائل ترفيه خاصة بها وأمنها وحراستها الخاصة التي تستغني بها عن حراسات الشرطة المدنية لنصبح على تواجد شركات أمن في كبرى المؤسسات الصناعية الضخمة الخاصة بهم والبنوك الخاصة بهم والمدارس والحدائق والمنتزهات والجامعات حتى يصبحوا في حصن منيع عن الفقراء.
وبعد أن تحولت القاهرة القديمة إلى كومة من الخراب على أيديهم تجد الجنرال الأكبر وحاشيته يضعوا في العقول مشروعات تتحدث عن نقل العاصمة ومركز الحكم إلى خارج القاهرة التي تم تصفية دمائها وخيراتها من دولة الضباط وحاشيتها، وهم يريدون الآن تركها للعامة والدهماء من الأغيار بعد أن فسدت، فهي لا تصلح لحياتهم ولا لحياة أسرهم؛ لذلك وُجِدت مصطلحات “القاهرة الجديدة” التي تحيط بالقاهرة القديمة وعلى أطرافها لتجد تجمعات سكنية متعولمة لا تمت للواقع المصري بصلة بل تمت لواقع يوتوبيا العسكرية المصرية، ليسكنها الضباط ورجال الأعمال والبعثات الدبلوماسية ومن استطاع أن يتعايش مع هذه الفئات التي من العسير جدًا أن تقبل أحدًا من خارجها.
لذلك فأمر نقل العاصمة ومركز الحكم وارد جدًا، قد يكون غالبا في المنظور القريب، لكن دولة الضباط ورجالها لم يعودوا يطيقون العيش بيننا فهنا الحاجة إلى عاصمة جديدة لليوتوبيا.
هؤلاء الأغيار ليس لهم ثمن
طبيعة الدولة المصرية الآن التي تسير نحو معاداة الطبقات المهمشة لصالح الطبقات التي تمتلك نقاط القوة والنفوذ سواء كانت داخلية أو خارجية لا يجعلها تتورع في فعل أي شيء مقابل حماية هذه الطبقات والتجمعات، من انتزاع الأراضي والتشريد والديكتاتورية السياسية والاضمحلال الاقتصادي – اقتصاد الأغيار بالطبع – لأن الاقتصاد العسكري واقتصاد رجال الأعمال في أوج ازدهاره، فلا تسمع عن الانهيار الاقتصادي إلا في حاجات الفقراء أما الانهيار الاقتصادي لا يواجه نوادي الجيش ولا صالة أفراحه الفاخرة ولا فنادقه باهظة الثمن.
كذلك الأرواح البشرية خارج هذه الطبقات ليس لها ثمن، فلقد أعطي الضباط الإذن بقتل من يخرج للتمرد على هذه اليوتوبيا وذلك بأمر من الجنرال مباشرة، أما عن التسلية بأعراض وأرواح الأغيار فيمكنك في يوتوبيا العسكر أن تسير بسياراتك الفارهة ذات الدفع الرباعي وتقوم بانتقاء إحدى بنات الأغيار واغتصابها داخل سيارتك – حتى وإن كانت سيارة شرطة -، ولن تواجه أي عقوبات، فطالما لدينا قضاء يعمل بالتليفون ستخرج من تلك القضية بألف جنيه كفالة، ولكن لم يستطع الأغيار تحديد لماذا هذه الألف جنيه؟ هل كبدل اغتصاب أم إزعاج للسلطات بقضية من قضايا الهُمّل؟
كما لديك رفاهية قتل “حاجة وتلاتين” من الأغيار داخل سيارة ترحيلات وستخرج منها سليمًا معافى لأن والدك من ساكني التجمعات الراقية بالطبع “هيتصرف”، فهؤلاء بلا ثمن مصدر للتسلية، وأرواحهم ليست ذات قيمة حقيقية، كل هذه الحوادث حقيقية وموثقة وليست للتجني أو للتندر، وإنما هي تجمعات سُرقت أراضيها وضُربت عليها الأسوار لتُعزل بحراس عن باقي المجتمع، ولتشرع الدولة العسكرية في بناء يوتوبيا خاصة بطبقتها هروبًا من الفقر والفقراء الذين هم أول أسبابه، شعارهم في ذلك {فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}.