ترجمة وتحرير نون بوست
“ما توجهاتك، أيساري أنت؟”، هكذا سألني، وكان كلانا يرتدي ملابس المارينز الأمريكية التي تُعطى للمسجونين بالسجن العسكري الإسرائيلي رقم ستة.
– رددت عليه ببساطة: “الأمر يتوقف على تعريفك لكلمة اليسار”.
– لا تتحذلق! ما الذي أتى بك إلى هنا؟
– “رفضت أن أكون جزءًا من منظومة همها الأساسي هو الاحتلال العنيف لملايين من الناس”.
– “يعني في قول آخر: أنت تحب العرب ولا تبالي بأمن إسرائيل”.
– “في الحقيقة، أعتقد أن الاحتلال يهدد أمن الجميع، الفلسطينيين والإسرائيليين”.
– “أنت تخون شعبك ليس إلا”.
– “حسنًا، قُل لي أنت ما أتى بك إلى هنا؟”
– “أنا؟ هربت من الخدمة”.
***
تعيش إسرائيل هذه الأيام هوة كبيرة بين الخطاب والواقع، فالخطاب الإسرائيلي في الكنيست والإعلام يقول إن قوات الدفاع الإسرائيلية هي “جيش الشعب”، ويُظهِر رفض الخدمة باعتباره خيانة ومجرد حالة هامشية، طبقًا للكثير من السياسيين والمحللين، والذين بدأ معظمهم مسيرته المهنية بالخدمة في الوحدات المرموقة بالجيش، وهو خطاب ينتشر بقوة، بل وأصبح يُعبِّر عن صوت الحكمة في إسرائيل، حيث تقول إحدى الملصقات على سيارة هنا: “الإسرائيلي الحقيقي لا يهرب من التجنيد”.
في الحقيقة هذا الغضب الموجه لرافضي الخدمة مبالغ فيه، إذ لا يرفض أكثر من بضعة مئات الخدمة بشكل علني كل سنة، احتجاجًا على سياسات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وهو ما يدل بوضوح على ذُعر المنظومة الإسرائيلي من تنديد هؤلاء بسياساتها ليس إلا.
بيد أن العام الماضي شهد ارتفاعًا في أعداد الرافضين للخدمة، وتم نشر الكثير من الخطابات المعارضة للخدمة التي كتبها طلاب في المرحلة الثانوية، بل وضباط احتياطيون، ومحاربون قدامى من الوحدة المرموقة 8200، وأعضاء سابقون بالأكاديمية الإسرائيلية للفنون والعلوم، وهي خطابات نالت ما نالت من التنديد والشجب بطبيعة الحال من قبل السياسيين والإعلاميين في إسرائيل. في سبتمبر، خرج علينا عضو حزب العالم، إسحاق هرزوج، وصب غضبه على خطاب من أحد أعضاء الوحدة 8200 ووصفه بالتمرد.
من الشائع هنا توجيه الغضب والعنف تجاه رافضي الخدمة العسكرية، فأنا أذكر ذات مرة حين صاحبت أحدهم، وهو أودي سيجال، أثناء حرب غزة، وواجهنا مجموعة من الإسرائيليين الغارقين في الأعلام الإسرائيلية، والتي أخذت تصيح بوجهه، “أودي، أنت خائن! اذهب وعِش في غزة!”، بدورها، حين وقّعت أستاذة الأدب رايا روتِم، والتي قُتل زوجها في حرب 1973، على خطاب ضد الخدمة العسكرية، تم تهديدها بالقتل في محادثة هاتفية، وقاطعتها صديقة بعد خمسين عامًا من الصداقة.
في الحقيقة، هذه الثنائية بين الإسرائيليين الحقيقيين الذين خدموا بالطبع في الجيش، والخونة، هي ثنائية كاذبة، فكما قالت لي الأستاذة روتِم متحدثة عن معنى الوطنية الذي يتم لي عنقه هذه الأيام: “الوطنية الإسرائيلية اليوم تعني مقاومة كل ما يرتكبه الاحتلال ويحاول تصويره باعتباره شيئًا عاديًا”، بالإضافة إلى ذلك، ليس صحيحًا أصلًا أن غالبية الإسرائيليين يخدمون بالفعل في الجيش، فالواقع هو أن أغلبهم لا يفعل أصلًا، بما في ذلك العرب، أو الطابور الخامس، كما يحلو للبعض تسميتهم هنا، واليهود الأرثوذكس، أو “الجراثيم”، كما يتم نعتهم.
القطاع الأكبر بالطبع هم العرب، البالغ تعدادهم داخل إسرائيل 1.7 مليون مواطن، وهم غير مطلوبين أصلًا للتجنيد بموجب القانون، والقليل جدًا منهم هو الذي يتطوع للخدمة (حوالي 100 مسيحي وبضع مئات من الدروز طبقًا لإحصاء أُجري عام 2013)، جدير بالذكر أن قوات الدفاع الإسرائيلية أرسلت خطابات دعوة للتطوع للمسيحيين العرب العام الماضي؛ وهو ما أشعل تظاهرات عربية في الجامعة العبرية وفي جامعة تل أبيب.
حتى الدروز، والذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي منذ عام 1956، وتحاول المنظومة الإسرائيلية التقليل من شأن هويتهم العربية وإغفالها، أصبحوا مؤخرًا أكثر غضبًا، ومن هؤلاء عمر سعد، أحد أبرز الدروز الرافضين للخدمة العسكرية، والذي قضى النصف الأول من العام الماضي في السجن، وكتب في خطاب رفض الخدمة بوضوح أنه لن يقبل أن يحمل السلاح ضد إخوانه في فلسطين.
ثاني أكبر مجموعة لا تخدم في الجيش هي يهود الحريديم، وهو طائفة أرثوذكسية متطرفة، وكانت تاريخيًا معفاة من الخدمة طالما خدمت في أي يشيوا (معاهد الدراسة الدينية)، بيد أنه ظهر تحالف في الكنيست مؤخرًا يدعو لفرض الخدمة العسكرية عليهم؛ وهو ما أدى إلى تظاهرة لهم وصلت إلى نصف مليون محتج، معظم الحريديم يستندون لأسباب دينية في رفض الخدمة العسكرية، ولكن بعضهم أيضًا يشير لرفضه للاحتلال، كما فعل أورييل فريرا مؤخرًا بعد قضاء ستة أشهر في السجن.
علاوة على ذلك، هناك الكثير من رافضي الخدمة غير المنتمين لهوية محددة، والذين يلجأون إلى ادّعاء أمراض عقلية لتجنب الخدمة، وقائمة الأمراض العقلية التي يستخدمونها معروفة الآن باسم “بروفايل 21″، وهي القائمة التي انضممت لها بعد إطلاق سراحي من السجن.
معظم من كانوا معي في السجن رقم 6 كانوا من يهود المزراحيم (يهود الشرق الأدنى أو المنطقة العبرية)، ومن الإثيوبيين والروس، والكثير منهم كانوا المجتمعات اليهودية المهمّشة داخل إسرائيل، وقالوا لي بوضوح إنهم ينتوون الخروج من السجن بواحدة من حجج “قائمة 21″، رُغم خطورة ذلك على مستقبلهم المهني وفرص الحصول على شهادات ما بعد الجامعة، والتي يعتمد الكثير منها على إكمال الخدمة العسكرية.
رُغم ذلك لا يبدو أن الموقف الرسمي سيتغيّر كثيرًا، على الأقل ليس في الكنيست القادم والذي يليه، والذي يتنافس فيه بالأساس بنيامين نتنياهو، ومواقفه معروفة بالطبع، وهرزوج، الذي هاجم رافضي الخدمة، بيد أن هناك بعض الأمل في هذه النسبة المتزايدة من “الخونة” كما يسميهم السياسيون، وتعدادهم بالملايين اليوم.
قد تختلف أسباب رفض الخدمة بين شاب فلسطيني في عكا، ويهودي من الحريديم في بيت شيمش، وبين محارب مرموق بالكتيبة 8200 ومهاجر إثيوبي، وبيني وبين هاربين كثر في السجن رقم 6، ولكن الذي يجمعنا هو رفضنا لاعتبار الحكومة الإسرائيلية طرفًا أخلاقيًا وسلطة يمكن اتباعها، ورفضنا أيضًا قداسة الخدمة العسكرية، تلك “الخيانة” التي نقوم بها بوجه حكومة إسرائيلية تبتعد رويدًا رويدًا عن السلام، وبوجه جيش يُنفذ أوامرها العنيفة، هي أكثر ما نحتاج ربما في هذه اللحظة.
المصدر: نيويورك تايمز