يقف ديودونِه أمام جمهوره في أحد أندية باريس، ويضع يده على صدره فيما يُعرَف بحركة “كينيه” Quenelle، والتي تشبه التحية النازية الشهيرة، على الأقل كما يعتقد منتقدوه، إذ تنتشر رويدًا بين محبيه الذين يقومون بوضع صورهم على الفيسبوك وهم يقومون بنفس الحركة باعتبارها تمرد ضد النظام، بل وقام بها مؤخرًا اللاعب الفرنسي المعروف نيكولاس أنيلكا، المحترف في الدوري الإنجليزي، ليشعل الجدل في بريطانيا، ويتم إيقافه لخمس مباريات.
من هو ديودونِه إذن؟ هو كوميدياني فرنسي ذو أصول كاميرونية، يستهدف الحركة الصهيونية واللوبي اليهودي باستخدام السخرية على حد قوله، تمامًا كما يفعل رسامو صحيفة شارلي إيبدو مع الإسلام والمسيحية وغيرها من أشكال السلطة التي لا تعجبهم، يعتقد كثيرون أن خطاب ديدونِه في جوهره معادٍ لليهود، ويعيد إحياء الكثير من الألفاظ والإشارات التي استخدمها معادو السامية الفرنسيون خلال النصف الأول من القرن العشرين، دون أن يدري جمهوره طبيعتها وحساسيتها نظرًا لكون معظمهم من المولودين بعد الحرب العالمية، وأنه يخفي ذلك تحت ستار “استهداف سياسات إسرائيل” و”فضح اللوبي اليهودي”.
من هو جمهور ديودونِه؟ بالإضافة إلى المهاجرين العرب في ضواحي باريس، والحانقين على النظام الفرنسي وعلاقاته بإسرائيل بطبيعة الحال، يتزامن صعود ديودونِه مع صعود اليمين الفرنسي، وتزايد الغضب في الريف تجاه المنظومة الأوروبية، بل وربما العالمية، بشكل عام، إذ وصلت مبيعات عروض ديودونِه إلى 1.8 مليون يورو خلال عام 2012، كما تعج قناة اليوتيوب الخاصة به بملايين المعجبين، ورُغم أن اليمين قد يكون بالأساس مرتبطًا بمعاداة الاتحاد الأوروبي والمهاجرين من الأفارقة، إلا أنه في فرنسا تحديدًا له تاريخ طويل من معاداة اليهود، لاسيما جيا ماري لو بِن، الذي قاد حزب الجبهة القومية منذ تأسيسه عام 1972، وأشعل الكثير من الجدل بتصريحاته المعادية لإحياء ذكرى الهولوكوست وتشكيكه فيها، وهو الذي ترأس ابنته، مارين لو بِن، الحزب هذه الأيام.
موجة جديدة من الاضطهاد؟
“لقد ظنوا أنني أملك الكثير من الأموال لأنني يهودي، وأخذوا يسألوني عن مستودع الأموال الخاص بي”، هكذا قال أحد الشباب اليهود الذي تعرّض للهجوم مؤخرًا في منزله بأحد أحياء باريس، وهو هجوم استهدفه بالأساس لأنه يهودي، كما جرى مع كثيرين غيره خلال الأعوام الأخيرة، حيث تشهد فرنسا موجة غير مسبوقة من معاداة السامية منذ الحرب العالمية، تعود معها كافة الأفكار النمطية عن اليهود، باعتبارهم بخلاء ويمتلكون أموالًا كثيرة، إلخ.
تعد فرنسا ثالث أكبر موطن لليهود في العالم، بعد الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تصل أعدادهم هناك إلى حوالي نصف مليون، وقد شهدت البلاد هجرة أعداد غير مسبوقة منهم لإسرائيل رُغم ظروفها الأمنية المضطربة، نظرًا لتصاعد الهجمات عليهم، والتي تجاوزت 500 هجوم العام الماضي، ووصلت لأوجها أثناء حرب إسرائيل على غزة أثناء الصيف، حيث اندلعت احتجاجات واسعة بين الفرنسيين، اختلط فيها المهاجر المسلم مع اليميني الفرنسي، وتم فيها إلقاء زجاجات المولوتوف على معبد يهودي.
خلال العام الماضي فقط، خرج من فرنسا 7000 يهودي متجهًا لإسرائيل، طبقًا للوكالة اليهودية الإسرائيلية التي تنسق الهجرة، والتي توقع رئيسها، ناتان شارانسكي، وصول الأعداد هذا العام إلى 10.000 أو 15.000 بعد أن كانت بالكاد تتجاوز 3000 خلال العقد الماضي، خاصة بعد الهجوم على محل للأطعمة اليهودية (كوشِر) عقب حادثة شارلي إيبدو.
أطعمة الكوشر هي الأخرى صارت محل جدل مؤخرًا، بجانب الأطعمة الحلال التي يتناولها المسلمون، لاسيما بعد فوز حزب الجبهة القومية في 11 بلدة في الانتخابات المحلية، إذ تعهد بمنع تقديم خيارات مختلفة من الوجبات في المدارس الحكومية، والاقتصار على وجبة واحدة من لحم الخنزير، الذي يأكله غالبية الفرنسيين (لأنهم مسيحيون)، منعًا لإهدار الأموال العامة، حيث تشتكي بعض المدارس من أن تقديم أكثر من نوع من الوجبات يزيد من التكاليف، بطبيعة الحال، لم تُستقبل تلك الأخبار بشكل جيد بين المسلمين واليهود الذين لا يأكلون لحم الخنزير، والذين ردت عليهم مارين لو بِن ببساطة قائلة، “لا مجال للدين والطلبات الدينية في المجال العام، هذا هو القانون في فرنسا، وتلك هي تقاليد الدولة العلمانية الفرنسية”.
إلى تل أبيب
بدورها، لا تتوانى إسرائيل عن استغلال أي من تلك الهجمات والتضييقات لصالحها لتعزيز أعداد المهاجرين اليهود إليها، لاسيما الحادث الأخير الذي تبع الهجوم على شارلي إيبدو، حيث تتعالي أصوات السياسيين في إسرائيل، والموجهة لليهود في أوروبا، مطالبة إياهم بالهجرة فرارًا من موجة الغضب اليمينية التي تجتاح القارة بأسرها وقد تعرضّهم للخطر، “إذا لم تتخذ فرنسا والدول الغربية خطوات لحل هذه الأزمة، وإعادة التأسيس القوي للمنظومة المتحضّرة بين شعوبها الليبرالية، فأوروبا ستكون في خطر، وخروج اليهود الآن من القارة إلى إسرائيل إشارة كافية للاتجاه الذي تسلكه شعوب أوروبا حاليًا”، هكذا يقول شارانسكي.
“نحن نعيش حربًا هنا، ولا نشعر بالأمان كما في السابق، وبعد ما جرى مؤخرًا، أعتقد أننا سنكون أكثر أمانًا في تل أبيب من قلب باريس، في تل أبيب هناك قبة حديدية تحمينا، أما هنا فنحن نشعر يوميًا بالخوف على أبنائنا وهم ذاهبون للمدارس”، هكذا قالت جاكلين كوهِن، والتي تملك مخزنًا للأعمال الفنية في حي من أحياء اليهود في فرنسا.
على ما يبدو وصلت مخاوف اليهود إلى حد دفن ضحايا الهجوم على محل الأطعمة اليهودية في تل أبيب بدلًا من باريس، خوفًا من تعرض مقابرهم للهجوم والتدمير، على حد قول سيرجِه تشوايجنباوم، الأمين العام للكونجرس اليهودي الأوروبي.
المخاوف ليست فقط منتشرة بين يهود فرنسا، ولكنها في بلدان عدة بأوروبا تشهد تصاعد تلك الموجة الجديدة المعادية لليهود، وهي موجودة في ألمانيا، حيث هتفت مسيرة أثناء الحرب على غزة “فليذهب اليهود إلى الأفران!”، فطبقًا لاستطلاع تم مؤخرًا، يمتلك 25٪ من الألمان آراءً غير جيدة بخصوص اليهود، وهو ما يعني بطلان الحجة القائلة بأن معادي اليهود هم غالبًا من المهاجرين المسلمين، إذ يمثل المسلمون في ألمانيا 6٪ فقط، وكذا الحال في إسبانيا، حيث يمثل المسلمون 3٪ فقط، في حين يمتلك 50٪ آراءً سلبية تجاه اليهود.
بغض النظر عما إذا كانت موجة معاداة اليهود تلك ظاهرة منفردة، أو أنها جزء من التيار العام الرافض للمهاجرين، يعتقد اليهود في أوروبا اليوم، أكثر من أي وقت منذ عام 1945، أن أوروبا لم تعد مكانًا مناسبًا لهم، وخاصة فرنسا.
ما بعد شارلي إيبدو
يرى كثيرون أن الهجوم على شارلي إيبدو وما تبعه سيدفع الدولة في فرنسا إلى تخاذ خطوات حقيقية لحماية اليهود، وهو ما بدأت تظهر بوادره بالفعل في أعداد ضباط الشرطة المنتشرة بطول العاصمة لحماية الأحياء اليهودية، بيد أن خطوات كهذه قد ترسّخ من نظرة قطاعات واسعة من اليمين لليهود باعتبارهم جزءًا من المنظومة السائدة، وقد تعزز من معاداة السامية المتصاعدة في البلاد، أضف إلى ذلك أنها ستزيد من الاحتقان بين الدولة والمهاجرين المسلمين، والذين يشعرون بوضوح باختلال الموازين في التعامل معهم مقارنة بالتعامل مع اليهود.
هذا الصباح، وقبل أن يمر أسبوع واحد على مسيرة الجمهورية، تم اعتقال ديودونِه، رغم مشاركته في المسيرة، بتهمة تمجيد الإرهاب، بعد أن نشر على حساب الفيسبوك الخاص به ردًا على حملة “أنا شارلي إيبدو” أنه يشعر بأنه ربما يكون شارلي كوليبالي، في إشارة إلى أمِدي كوليبالي الذي شارك في الهجوم على محل الأطعمة اليهودية وقتل أربعة.