اللعبة الكبرى، The Great Game هو الاسم المعروف للصراع الاستراتيجي بين بريطانيا وروسيا للسيطرة على فارس وآسيا الوسطى، حيث تمركزت القوة البريطانية الآسيوية في الهند وانطلقت منها نحو الشمال، في حين انطلقت روسيا من قاعدتها الطبيعية في شمالي غربي آسيا نحو الجنوب. بنهاية عصر السيادة البريطانية، وظهور الاتحاد السوفيتي، كانت موسكو قد نجحت في الهيمنة على جوارها الجغرافي، والذي ظل أسير منظومتها الاستعمارية حتى سقوط الاتحاد، والذي فتح الباب أمام النفوذ الأمريكي على كافة المستويات، لا سيما الثقافية والاقتصادية، لاستبدال الروسي بالغربي، وإرساء قواعد للتواجد الأمريكي تحديدًا لأهميته في مواجهة إيران إلى الغرب والصين إلى الشرق، وتعزيز المهمة في أفغانستان.
اليوم، تشهد المنطقة لعبة كبرى جديدة باعتبارها جسرًا بين أوربا وشرق وجنوب آسيا، وهي لعبة يبدو أن أطرافها الرئيسيين هم الصين وروسيا، وبدرجة أقل الولايات المتحدة التي تنسحب الآن من أفغانستان وتوجه أنظارها نحو آسيا والهادي، وكذلك الهند وإيران وتركيا.
بين بكين وموسكو: الصراع البارد
على العكس مما يعتقد البعض، تختلف المصالح الصينية والروسية بشكل كبير على مستويات عدة، خاصة في آسيا الوسطى، التي يتنافسان فيها بوضوح على الموارد الاقتصادية، ومحاولة جذب بلدانها الخمسة إلى نطاق نفوذهما الإقليمي، وإن كانت روسيا تتمتع بتفوق من الناحية الثقافية نظرًا لسنوات من الهيمنة في المنطقة، والتي لا تزال مرتبطة بها بشكل ما، لا سيما لغويًا حيث تنتشر اللغة الروسية بين شعوبها، فإن الصين على الناحية الأخرى تتمتع بتفوق اقتصادي نظرًا لقدرتها على تغيير شكل المنطقة بالكامل وتوفير التحول الاقتصادي الذي تتطلع له، على العكس من روسيا الغارقة في أزمتها الاقتصادية حاليًا، والتي لا تملك سوى اقتصاد معتمد على الغاز والنفط بشكل كبير، وغير قادر على التوسع بالاستثمارات كنظيريه الصيني والأمريكي.
تهتم الصين بدول آسيا الوسطى بشكل عام في إطار رؤيتها لطريق الحرير الجديد، وهو مشروع تحاول به تدشين دورها باعتبارها القوة الآسيوية الأولى، وبالنظر لمتاخمتها الجغرافية لهذه المنطقة، وأهميتها لدور بكين في آسيا بشكل عام حتى تتمكن من مد خط نفوذها إلى إيران والشرق الأوسط كما تتطلع، ونظرًا لكونها واحدة من أقل المناطق تنمية في العالم، تحاول الصين أن تجذب آسيا الوسطى بتعزيز ارتباط اقتصاداتها بالاقتصاد الصيني، وتطوير وسائل الاتصال والمواصلات بينهما، وتعزيز اتجاهها شرقًا على حساب روابطها الشمالية مع روسيا، وهو بطبيعة الحال ما لا يريح الروس الذين ينظرون للمنطقة باعتبارها جزءًا من فضاء نفوذهم الطبيعي.
تهتم الصين بآسيا الوسطى أيضًا نظرًا لغناها بمصادر الطاقة، حيث تمتلك تركمنستان وحدها مخزونًا يُقدّر بـ17.5 تريليون متر مكعب من الغاز، كما تمتلك كازاخستان احتياطيًا لا بأس به من الغاز والنفط، وهي مصادر تعتبرها الصين مخرجًا من الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، نظرًا لعدم الحاجة إلى نقلها عبر البحر والمرور عبر مضيق ملاكا في ماليزيا، والذي قد يغلق للضغط عليها مستقبلًا خاصة بالنظر للتوتر الجاري مع بعض بلدان جنوب شرق آسيا. أضف إلى ذلك أن آسيا الوسطى ليس بها تواجد عسكري أمريكي قوي، بل تحاول واشنطن الانسحاب منها للتركيز على وجودها في آسيا والهادي، وهو ما يعطي الصين تفوقًا فيها، خاصة وهي أصلًا منطقة تحتاج إلى وجود بري في الأغلب ولا تمتلك سواحل كبرى مثل جنوب وشرق آسيا، وتباعًا فإن الصين فيها على أي حال صاحبة تفوق استراتيجي حتى على روسيا، بالنظر لتفوق قوتها البرية بشكل كبير.
بدورها، لا تنظر روسيا بارتياح إلى الدور الصيني جراء التنافس على الطاقة في المنطقة، حيث تقوم الصين حاليًا بكسر هيمنة موسكو على لعبة الغاز والنفط، وهو ما توّج بمشروع خط غاز الصين-آسيا الوسطى (أو خط الغاز الصيني التركمني) الذي يصل بين تركمنستان وأوزبكستان وكازاخستان والصين، والذي تم تدشينه عام 2009، وكذلك خط الغاز الصيني-القازاقي الذي يجري العمل عليه حاليًا.
ما الذي يجمع الصين وروسيا في منظمة شانغهاي إذن إن كان التنافس بينهما على أشده؟ تجمعهما أهداف مشتركة، أبرزها مواجهة النفوذ العسكري الأمريكي الذي لا يزال موجودًا، وإن كان متوقعًا أن يتضائل على مدى العقود المقبلة، وكذلك أخطار الجماعات المسلحة، التي تهدد روسيا في الشيشان، وتهدد الصين في تركستان الشرقية، وغالبًا ما تأتي من أفغانستان والحركات الجهادية في بلدان مثل طاجيكستان وأوزبكستان. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج البلدان إلى بعضهما البعض بشكل عام في ملفات عدة، فروسيا بحاجة للتعاون الاقتصادي مع الصين، خاصة بعد العقوبات الاقتصادية الغربية، والصين بدورها لا تزال بحاجة إلى التكنولوجيا العسكرية الروسية الصاروخية والجوية، وكلاهما بشكل عام يتفق حيال بعض القضايا التي تخص المنظومة الدولية ورفض الهيمنة الغربية. عدا ذلك لا يبدو أن هناك أفقًا حقيقيًا لشراكة صينية روسية منافية للمنطق، فحالما يخرج الأمريكيون من المنطقة، وتبدأ الصين تدريجيًا في الاستقلال عن وارداتها العسكرية من موسكو في المستقبل، ستتلاشى الكثير من الأهداف المشتركة، وستظل الحقائق الجغرافية والديمغرافية الثابتة، وهي أنه ليس مريحًا لموسكو أبدًا، منذ توسعها من شرق أوربا باتجاه آسيا واستحواذها على سيبريا وآسيا الوسطى، أن تطل على سهولها الشرقية بلد مثل الصين، وأن يتطلع 1.5 مليار شخص إلى مورادها ومساحاتها الخالية في الشرق، وهو ما يدفعها دومًا لأن تكون يقظة لاعتدال الموازين بين البلدين، والتي ستفتح الباب أمام هيمنة صينية فعلية على سيبريا إذا اختلت يومًا ما وأصبحت روسيا كبلد أقل استقرارًا من الصين.
الهند وباكستان وإيران وتركيا: الحلقات الاستراتيجية
تعد الهند واحدة من أبرز الدول المرشحة للعب دور اقتصادي وثقافي هام في آسيا الوسطى، بالنظر لموقعها وتاريخها الطويل مع المنطقة، والممتد منذ دخول الشعوب الهندية الأوربية (الآرية) من المنطقة إليها وإلى إيران، وحتى حكم المغال ذوي الأصول المغولية والذي استمر قرونًا قبل أن تقع الهند تحت الاحتلال البريطاني.
التحدي الاستراتيجي الأساسي الذي يمنع الهند من لعب دورها في المنطقة هو غياب الاتصال الجغرافي، والحادث بسبب وجود باكستان منذ عام 1947، حيث يفصلها عن المنطقة الجزء الباكستاني من إقليم كشمير، وهي واحدة من الأسباب الرئيسية للصراع فيه، إذ تمثل كشمير الجسر الوحيد للهند تجاه آسيا الوسطى، في حين تمثل لباكستان حائطًا يمنع توسع الدور الهندي ويحصره في جنوب آسيا، وهو هدف تشترك فيه إسلام آباد مع بكين، حيث تنظر الصين لنفسها باعتبارها قوة من الدرجة الأولى في آسيا لا ينافسها أحد، في حين تنظر للهند واليابان وغيرهما باعتبارهما قوى ثانوية محصورة في نطاقات معيّنة من آسيا، وهو ما يعزز الشراكة الاستراتيجية بين الصين وباكستان لوضع حد للدور الذي قد تلعبه الهند.
تباعًا، وفي إطار الصراع الاستراتيجي البارد بين باكستان وإيران في أفغانستان، حيث تدعم الأولى طالبان بدرجات متفاوتة في حين تعتبرها الثانية عدوها الأساسي، تُعَد إيران شريكًا استراتيجيًا للهند في آسيا الوسطى، لا سيما وهي تمثل منفذّا جغرافيًا لدلهي إلى المنطقة ولو بشكل غير مباشر، أكثر أمانًا، وغير معتمد على الصراع الأفغاني، على عكس المنفذ الكشميري، والذي يصل الهند، حال سيطرتها بشكل كامل على الإقليم، بأفغانستان ومن ثم إلى طاجيكستان.
تتابع حلقات تلك السلسلة الاستراتيجية بالنظر للدور التركي، والذي تُعَد روسيا وإيران غريميه التاريخيَّين في آسيا الوسطي، مما يدفع أنقرة نحو توطيد علاقاتها مع باكستان، خاصة وأن طالبان لا تمثل خطرًا استراتيجيًا على الدور التركي بقدر ما يمثله توسع النفوذ الإيراني الشيعي في مواجهة السني، لا سيما في بقية بلدان آسيا الوسطى التي تعتبرها تركيا جزءًا من دوائر نفوذها نظرًا للروابط اللغوية والإثنية التركية التي تربطها بها (عدا طاجيكستان فارسية اللغة)، ووحدة الدين والمذهب التي لا يشاركها فيها إلا باكستان.
تكتمل الدائرة الاستراتيجية لآسيا الوسطى بالعودة إلى التنافس الاستراتيجي بين الصين وروسيا، فبالنظر لحتمية الصراع البارد بين الصين والهند، تتمتع الهند بشراكة استراتيجية مع موسكو تمتد إلى سنوات الحرب الباردة، لا سيما حين شهدت الصين انفتاحًا على الولايات المتحدة أثناء سنوات الخلاف مع السوفييت عام 1979، وعلى الناحية الأخرى، وفي إطار شراكة إسلام آباد مع أنقرة وبكين، تعتبر العلاقات الصينية التركية جيدة إلى حد ما، باستثناء ما يخص ملف الأويغور في تركستان الشرقية، وهو ملف تتعامل معه أنقرة ببراجماتية على أي حال، في حين تعد علاقات الهند بطهران وموسكو جيدة نظرًا لتعامد أهدافهما في أفغانستان حيال طالبان، ودعمهما الواضح للقوى المواجهة لها بشكل مستمر منذ الاجتياح الروسي لأفغانستان.
المسألة الوحيدة التي تعكر صفو الشراكة الصينية الباكستانية، هي دعم الأخيرة لطالبان، وهي مشكلة أساسية بالنسبة للصين في آسيا الوسطى، والتي تعتبر الجماعات المسلحة تهديدًا لوحدتها السياسية في الشرق حيث يتواجد مسلمو الأويغور الذين تغذيهم بعض الجماعات في أفغانستان للانتفاضة بوجه بكين، وهو ما يضع بالتبعية حدودًا أمام إسلام آباد في سياستها الأفغانية كي لا تفقد شريكًا استراتيجيًا هامًا، لا سيما وأن طالبان داخل باكستان أصبحت تهدد المنظومة الباكستانية بشكل يمنعها من الدعم المفتوح لها كما كان في السابق.
على الناحية الأخرى تقف الهند، وتحاول استغلال تلك النقطة بوضوح لكسب الصين في صفها مع روسيا وإيران فيما يخص التنسيق ضد تلك الجماعات، والتي تستغلها باكستان كثيرًا في كشمير للضغط على الهند، وكذلك على إيران في الغرب، وهو رصيد لا يمكن لإسلام آباد أن تتوقف عن استخدامه باعتبارها القوة السنية الوحيدة داخل آسيا الوسطى، خاصة في مواجهة الدور الشيعي لإيران.
بدورها، تتعامل روسيا بشكل مفتوح مع الدور الثقافي الإيراني باعتباره البديل الوحيد المقنع للإسلام السنى “المتطرف” الذي يهدد استقرارها الجنوبي، إذ تتيح لإيران بناء المدارس والمساجد الشيعية داخل الولايات المسلمة بجنوب روسيا وتشجع تمددها الثقافي الديني، الذي لا تملك بديلًا له، على حساب باكستان وتركيا، فرغم أن تركيا هي الأخرى تمتلك نسخة “معتدلة” من الإسلام السنى، إلا أنه غالبًا ما يأتي محملة بالقومية التركية والأفكار الطورانية التي لا تعجب الروس على الإطلاق.
مرة أخرى، تُعَد آفاق الشراكة الاسترايجية بين إيران وروسيا محدودة لأسباب عدة، أهمها العداوة التاريخية بين البلدين فيما يخص القوقاز وبحر قزوين، وكذلك قدرة إيران على خلق ممر بديل للغاز في المنطقة، بما فيها الغاز الإيراني، نحو الصين أو أوربا، مما يجعل طهران المنافس الأقوى لموسكو في سوق الغاز، وهو ما لا يجعلها متحمسة في الواقع لرفع العقوبات عن إيران، على عكس الصين والهند مثلًا، واللذين يطمحان لرفع العقوبات لتوسيع شراكتهما الاقتصادية مع إيران والاستفادة القصوى من مواردها لتغذية اقتصاديهما العملاقين.
شعرة معاوية
كما هو واضح، ليست هناك تحالفات أو عداوات قاطعة في آسيا الوسطى بقدر ما توجد حلقات معقدة ومتداخلة بين بلدان المنطقة التي تبقى كل منها على شعرة معاوية مع اللاعبين الآخرين لتعزيز مكاسبها وتوسيع نفوذها قدر الإمكان على كافة المستويات، فإيران تمتلك شراكة استراتيجية مع الهند، ولكن هذا لا يمنعها من توطيد علاقاتها مع الصين، لا سيما الاقتصادية، وفي نفس الوقت تعميق الروابط العسكرية مع روسيا، والتي تحتاج إليها، والاعتماد عليها في توسيع نفوذها الثقافي، رُغم حتمية التنافس الجغرافي.
تركيا بدورها تمتلك علاقة قوية مع باكستان في وجه منافستها للروس والإيرانيين، ولكنها لا تستطيع الاعتماد فقط على إسلام آباد، وتعزز لذلك من علاقتها بالصين أكثر من سواها، والتي قد ترى في الدور التركي بديلًا جيدًا للإسلام المتطرف كما تراه، وقدرة على احتواء المسألة التركستانية ثقافيًا واقتصاديًا بشكل يغلق الباب أمام فكرة الانفصال لدى الأويغور، في حين تحاول باكستان هي الأخرى الحفاظ على شعرة معاوية لضمان الركنين الرئيسيَّين لاستراتيجيتها في آسيا الوسطى: دعم الجماعات السنية بشكل يمدد نفوذها دون أن ينعكس بداخلها (وهو هدف صعب، بل وربما شبه مستحيل كما هو واضح) وفي نفس الوقت الإبقاء على علاقة قوية مع الصين لا يمكن لبكين الاستغناء عنها نظرًا لضرورتها في الصراع مع الهند.
بين الكبار، الهند وروسيا والصين، تحاول الصين السير بشكل حذر بين توطيد العلاقات مع روسيا في إطار الصراع البارد بينهما، لا سيما وأن كليهما يقف في معسكر واحد على المستوى الدولي، بشكل يجعلها قادرة على الضغط عليها لكيلا تميل بشكل زائد نحو الهند، وهو انحياز تدرك بكين أنه لا مفر منه، ولكن تحاول تقليله قدر الإمكان، خاصة عبر قوتها الاقتصادية التي تغري موسكو هذه الأيام، وهو ما تدلل عليه صفقة الغاز التاريخية بين البلدين، والتي تعطي موسكو حلًا قصير المدى لأزمتها، في حين تعطي للصين قدرة للتأثير على موسكو على المدى البعيد، أضف إلى ذلك أن الاتجاه نحو شراكة اقتصادية بين الصين والهند، والتي ستسفيد منها الهند بشكل واضح، هو نهج تسير فيه الصين بجدية هذه الأيام لتعزيز قيادتها في آسيا، وسيخلق أيضًا حدًا للشراكة الهندية الروسية.
هذا المقال يأتيكم ضمن ملف سباق التسلح على نون بوست، والذي كان من ضمنه مقالات: مقدمة في الموازين العسكرية في الشرق الأوسط و موازين القوى في شرق آسيا و إنفوجرافيك: تعرّف على مصادر تسليح الجيوش العربية وأقواها و مستقبل الناتو بين واشنطن وبرلين