تميّزت الثّورة الليبيّة مُنذ اندلاعها بصعوبة فصولها ودمويّتها سواء في مرحلة ما قبل سقوط نظام القذّافي أو في المرحلة التي تلته، وقد ساهم انتشار السّلاح في إفشال أي عملية سياسية شاملة ممكنة تُغني البلاد عمّا تعيشه اليوم من اقتتال.
لما تحمله ليبيا من أهمية إستراتيجية كبلد نفطي وكدولة تطل على البحر الأبيض المُتوسّط؛ حظت باهتمام واسع من الفاعلين الدوليين، اهتمام لم يُترجم إلى فعل حقيقي إلا منذ أشهر قليلة ببروز بعض المبادرات التي تعلن كهدف لها لمّ الشمل الليبي وإدارة حوار يفضي إلى حل سياسي شامل يُخرج البلاد من أزمتها وآخرها مُبادرة الأمم المتحدة .
المشهد الليبي: انقسام سياسي وعسكري
منذ سقوط نظام القذافي سنة 2011، ولافتقار ليبيا لحياة سياسية أو مدنيّة في عهد الدكتاتورية، عجّل غياب الممارسة وغياب مؤسسات الدولة القوية بالدخول في أزمة سياسية مُبكرة سُرعان ما تحوّلت إلى صراع مُسلّح بين التيّار الليبرالي والتيّار الإسلامي المُحافظ ليتشكّل تباعًا مشهد فريد وغريب قوامه برلمانان وحكومتان وميلشيات تُشكّل جيشان:
فأمّا البرلمان الأّول أو برلمان الغرب فهو المؤتمر الوطني العام الذي انبثقت عنه حكومة عمر الحاسي ويتمترس خلف تشكيل مُسلّح مُتكوّن من “قوّات فجر ليبيا”، “غرفة عمليات ثوّار ليبيا”، “الدّروع”، و” كتيبة الفاروق”، يُذكر أن المحكمة الدستورية أعادت لهذا البرلمان الشرعية بعد أن نزعتها عن برلمان طبرق.
وأمّا البرلمان الثاني أو برلمان الشرق فهو مجلس النواب الذي انبثقت عنه حكومة عبد الله الثني ويتمترس خلف تشكيل مُسلّح مُتكون من 12 كتيبة وهي على التوالي “قوات رئاسة أركان الجيش”، “قوات حرس المنشآت النفطية”، “كتائب الزنتان”، “كتائب رشفانة”، “صحوات المناطق”، “كتيبة حسن الجويفي”، “كتيبة 319 التابعة للجيش”، “كتيبة 204 دبابات”، “كتيبة 21 صاعقة”، “قوات الصاعقة”، “مديريات الأمن”، وأخيرًا “كتيبة محمد المقريف”.
بالاضافة لما سبق تجدر الإشارة لوجود 4 كيانات مُسلّحة أخرى لا توالي حكومة طرابلس ولا تعترف بشرعيّتها رغم اشتراكها معها في صراعها مع قوات حفتر المدعومة من حكومة وبرلمان الشرق وهي على التوالي “مجلس شورى ثوار بنغازي”، “تنظيم أنصار الشريعة”، “تنظيم مجلس شورى مجاهدي درنة وضواحيها”، و”تنظيم شباب شورى الإسلام”.
من بين أهمّ المُنعرجات التاريخية التي أدت لهذا المشهد وهذا الانقسام، قيام اللواء المُتقاعد خليفة حفتر يوم 16 مايو 2014 بإطلاق “عملية الكرامة” ضدّ كتائب الثوار وتنظيم أنصار الشريعة، فظهرت تكتلات عسكرية جديدة ثمّ مجلس نواب طبرق لتنتهي بإعلان عملية مضادة وهي “فجر ليبيا”.
نحو الحل السياسي
بالنظر لأهمية الوضع الليبي وتأثيره الإستراتيجي على دول الجوار والمنطقة، تعدّدت الآراء والمُقترحات التي تعلن كهدف لها تخليص ليبيا مما هي واقعة فيه.
تنوعت المُبادرات وتنوعت المُقترحات لكن يمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين: مبادرات الحل السياسي ومبادرات التدخل الأجنبي “لفرض السّلم” على طريقة النّاتو، إلا أن الأخيرة سواء كانت تدخلا أفريقيًا أو دوليًا لاقت صدًا كبيرًا من الجزائر، تونس ثمّ السّودان؛ ما دفع الجميع إلى محاولات البحث عن حل سلمي سياسي لهذه الأزمة.
في هذا الإطار، تندرج مهمّة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الأونسميل (UNSMIL) بقيادة الممثل الخاص للأمين العام الأممي في ليبيا برناردينو ليون التي كلفها مجلس الأمن الدولي في قراره رقم 2040 (12 مارس 2012) المادة 6، بمساعدة السلطات الليبية بما يتفق مع مبادئ الملكية الوطنية، في تحديد الاحتياجات والأولويات الوطنية في جميع أنحاء ليبيا ومواءمة هذه الاحتياجات والأولويات مع العروض الخاصة بتقديم المشورة الإستراتيجية والفنية حسب الحاجة، ودعم الجهود الليبية في خمس مجالات وهي إدارة عملية التحول الديمقراطي، تعزيز سيادة القانون ورصد وحماية حقوق الإنسان، استعادة الأمن العام، التصدي للانتشار غير المشروع لجميع الأسلحة وتنسيق المساعدة الدولية وبناء القدرات الحكومية في جميع القطاعات.
مرّت جهود الأونسميل أساسًا عبر جولتين للحوار كانت الأولى في مدينة غدامس، غربي ليبيا، أواخر سبتمبر الماضي قام فيها برناردينو ليون بإقامة حوار بين أعضاء مجلس نواب ليبيا المؤيدين والمعارضين لانعقاده في مدينة طبرق مع تجاهل لبقيّة الفاعلين على الأرض؛ فكان الفشل الذّريع خاصّة بعد أن نزعت عن برلمان طبرق شرعيته.
منذ يومين كان من المنتظر أن تنطلق الجولة الثانية من المحادثات في جنيف السويسرية، مُحادثات دعي إليها ممثلون عن طرفي الصراع ناهيك عن شخصيات حقوقية ومستقلّة وضمت قائمة المشاركين، حسب بيان البعثة الأممية الذي نشرته على موقعها، كلاً من:
– محمد علي شعيب، النائب الأول لرئيس مجلس النواب.
– أبوبكر بعيرة، عضو مجلس النواب.
– الصديق إدريس محمد، عضو مجلس النواب.
– فتحي باشاغا، عضو مجلس النواب.
– نعيم الغرياني، عضو مجلس النواب.
– أحمد العبار، عضو المجلس الوطني الانتقالي.
– توفيق الشهيبي، عضو المؤتمر الوطني.
– فوزي عقاب، عضو المؤتمر الوطني.
– نعيمة جبريل، قاضية وناشطة حقوقية.
– نهاد معيتيق، عن المجتمع المدني.
– الفضيل الأمين، رئيس الهيئة التحضرية للحوار الوطني.
– نوري العبار، رئيس سابق للمفوضية العليا للانتخابات في ليبيا.
ثانيًا: مشاركون لم يتأكَّد حضورهم
– صالح المخزوم، النائب الثاني لرئيس المؤتمر الوطني العام.
– عمر حميدان، الناطق باسم المؤتمر الوطني.
– محمد العماري، عضو المؤتمر الوطني العام.
– محمد سعد امعزب، عضو المؤتمر الوطني العام.
ثالثًا: مشاركون (دور استشاري) تأكَّد حضورهم:
– سليمان الفقيه، عضو مجلس النواب
– مصطفى أبو شاقور، عضو مجلس النواب
– الشريف الوافي، عضو المؤتمر الوطني
– محمد عبد العزيز، وزير الخارجية السابق
رابعًا: مشاركون (دور استشاري) لم يتأكَّد حضورهم:
عمر أبوليفة، عضو المؤتمر الوطني العام.
ورغم الموافقة المبدئيّة التي أعلنها طرفا الصراع الرئيسيين (برلمان طبرق وبرلمان طرابلس)، إلا أن المؤتمر الوطني العام تخلّف عن المُشاركة في الحوار يوم الأربعاء، طالبًا من البعثة الأممية منحه مزيدًا من الوقت للتباحث فيما قيل أن المبعوث الأممي فاجأهم به (أعضاء المؤتمر)، وخاصّة في مسألة قائمة المُشاركين في الحوار والطريقة التي تم اختيارها للحوار (الحوار الغير مباشر) ناهيك عن عدم استشارتهم بخصوص اختيار جنيف لاحتضان هذه الجولة من المباحثات.
احتجاج ظاهره وقوف على الشّكليات (مكان المباحثات، طريقة الحوار …) ولكنّه في العمق جملة من الحسابات والمُناورات، إذ يبدو أن برلمان وحكومة طرابلس تفطّنا إلى أنّ الحوار سيُدار في مناخ يُريح أكثر شقّ برلمان طبرق بدعم دبلوماسي دولي وبأكثريّة عدديّة على مستوى المدعوّين من طرف المبعوث الأممي لهذا الحوار وما هذا التأخير في الالتحاق إلا من أجل فرض توازن في مشهد المباحثات.
ومن المنتظر أن يُعلن المؤتمر العام عن موقفه النهائي يوم الأحد القادم، في حين أكّد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي السابق مشاركة المجلس في الحوار الذي دعت إليه الأمم المتحدة، وسيتم تمثيل المجلس الانتقالي بأربعة من الأعضاء السابقين.
جولة ثانية من الحوار تنطلق في جو معقدة فيه الحسابات السياسية، وتنطلق أيضًا وسط فشل في فرض وقف إطلاق النّار حتّى السّاعة، مشهد عام لا يؤشر بأنه من الممكن أن تفضي مفاوضات جنيف إلى حل شامل للمشكل الليبي، وهو ما أعلنه المبعوث الأممي نفسه حينما صرح يوم أمس بأن هذه المفاوضات “ستكون طويلة ومعقدة”.