في خضم الحروب والاقتتالات الدموية عادة ما يُجبر الأطفال على عيش تجارب قد تعد الأسوأ على جميع المعايير، حيث تشير الإحصائيات إلى أن هناك ملايين الأطفال الذين تعرضوا لمواقف تفوق في قسوتها أسوء الكوابيس التي يمكن للبالغين تخيلها، ففي سراييفو مثلاً، هناك طفل واحد من كل أربعة أطفال على الأقل عانى من إصابات نتيجة الصراع الذي كان قائمًا هناك، فبعد المسح الذي أجرته اليونيسيف على الأطفال الذين شهدوا المعارك التي كانت دائرة في سراييفو في صيف عام 1993 والذي تضمن 1.505 طفل، تبين أن هناك 97% منهم كان قد شاهد مناطق تقصف بالقرب منه، وأن 29% شعر بحزن لا يطاق، و20% منهم كانوا يعانون من أحلام مرعبة أثناء الليل، وحوالي 55% منهم تعرضوا لإطلاق نار من قِبل قناص، و66% كانوا في وضع اُعتقد معه بأنهم قد ماتوا.
ويبين مسح آخر جرى عام 1996 في أنغولا، أن 66% من الأطفال كانوا قد شهدوا حوادث قتل متعمد، وأن 91%منهم رأوا جثث لموتى، و67% رأوا أشخاصًا يتعرضون للتعذيب والضرب أو الأذى، وبالمجمل فقد واجه ما يقارب ثلثي الأطفال حوادث تحدوا معها الموت.
كما أن الأحداث التي تعيشها بلدان العالم العربي والتي تعرضت لمآسي وأهوال الحرب، مثل ليبيا والعراق وسوريا، والتي لم تتبين آثارها النهائية بعد، قد ألقت بظلالها على شبان وأطفال ونساء هذه الدول بشكل خاص، وعلى الرغم من أنه لا توجد إحصائية رسمية حتى الآن تبين الآثار النفسية التي عانى ويعاني منها الأطفال، إلا أن الاحصائيات غير الرسمية تشير إلى أن الآثار النفسية التي يعاني منها هؤلاء الأطفال هي آثار بالغة، وتتراوح ما بين مراحل الصدمة والإنكار وآثار ما بعد الصدمة، كما أن المشاهد التي تُعرض يوميًا على الشاشات الإخبارية والتي تظهر توريط واستخدام الأطفال كأدوات في النزاع المسلّح، وبث الأفكار الرجعية والتخلفية والأصولية في أذهانهم، ستلقي بظلالها على مستقبل الأمم العربية والغربية في المستقبل القريب.
إن هذا النوع من الأحداث الدموية يمكن أن يترك آثارًا كارثية، ينتج عنها مجموعة من الأعراض النفسية لدى الأشخاص الذين عاشوها وذاقوا طعم مرارتها، حيث تعرف هذه الاضطرابات في مجال علم النفس باسم اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD-Post Trauma Stress Disorder) .
يكون تأثير اضطرابات ما بعد الصدمة أكبر بشكل خاص لدى الأطفال، حيث يشير الدكتور ألبرت نامبتجي، وهو عالم في الطب النفسي السريري في المركز الوطني لمعالجة الصدمات، أنه بعد الإبادات الجماعية يعاني الأطفال من العديد من الأعراض التي تتجلى بالكوابيس، وبالصعوبة في التركيز والاكتئاب والشعور باليأس بشأن المستقبل، كما أظهر تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان، أن الأطفال الذين يكونون ضمن دوامة الأحداث الدموية تبقى ذكريات الأحداث معهم، وتسبب لهم كوابيسًا شديدة، وتتداخل مع مجريات حياتهم اليومية وكأنها تحدث الآن، كما أنها تسبب لهم الخوف وانعدام الأمن والمرارة.
من المعروف طبيًا أن التجارب المروّعة تسبب قلقًا شديدًا وغامرًا، لدرجة أن الأطفال الذين يتعرضون لها قد يحاولون قمع ذكرياتهم السيئة عنها بدلاً من مواجهتها، ولكن العديد من الباحثين يعتقدون أن قمع ذكريات الصدمة، يسبب معاناة أكبر للأشخاص الذين يتعرضون للصدمة، وذلك على المدى القصير أو الطويل.
إن الزمن لا يشفي من الصدمات، لذلك يجب مساعدة الأطفال على التعبير عن معاناتهم ومواجهة الذكريات السيئة، وذلك بتوفير الدعم والتوجيه اللازم لهم، وهذا الدعم يُفترض أن يتم من خلال الأشخاص المختصين لتقديم العلاج للأطفال بهدف متابعة حياتهم بشكل طبيعي، ولكن في استحالة عرض الطفل على الأطباء أو المؤسسات المختصة فإن المساعدة المقدمة من قبل أحد الأشخاص البالغ يمكن أن تفي بالغرض، حيث إن الحديث أو الكتابة أو حتى تمثيل الأحداث المؤلمة يمكن أن يكونوا وسائل مهمة لمساعدة الأطفال على الشفاء والبدء باسترجاع حياتهم الطبيعية.
الجدير بالذكر أن كل ثقافة لها طريقتها الخاصة في التعامل مع التجارب المؤلمة، فقد بينت دراسة جرت في جنوب شرق أسيا، شملت كل من كمبوديا ولاوس والفيتنام، أن لكل شعب مفاهيم مختلفة للغاية حول الاضطرابات النفسية والاجتماعية الشديدة، كما أن الكثيرين يعتمدون أيضًا على الظروف الأسرية للأطفال، وذلك فضلاً عن سنهم وطبيعة تعرضهم للأحداث الصادمة.
هناك عامل واحد يعتبر هامًا في جميع الثقافات، وهو التماسك الأسري والاجتماعي، ودرجة الرعاية والدعم الذي يتلقاه الأطفال، حيث إن الانفصال عن الوالدين يعتبر أحد أخطر الصدمات التي يمكن للحروب أن تتسبب بها، ولاسيّما بالنسبة للأطفال صغار السن، وذلك لأنه غالبًا ما يكون أكثر إيلامًا من الحرب نفسها.
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن المراهقين أيضًا يمكن أن يواجهوا مشاكل معينة من جراء التعرض للضغوط التي تسببها الحروب والمآسي، حيث يكون هذا الوقت من حياتهم من أكثر المراحل التي يمرون فيها بالعديد من التغييرات الجسدية والعاطفية، حتى إنهم قد يكونون أكثر عرضة للتأثر بالأحداث الجارية في كثير من النواحي من الأطفال الصغار، وذلك لأنهم أكثر وعيًا لأهمية الأحداث الجارية من حولهم، وفي النهاية لابد من القول إن علاج الأشخاص – بما فيهم الأطفال والبالغين – من الآثار النفسية التي تسببها الحروب والمآسي، مرتبط بانتهاء الحرب أو الأزمة، أو على الأقل خروج الشخص منها إلى منطقة آمنة، فالعلاج النفسي للآثار النفسية السيئة التي تنجم عن الكوارث والحروب لا يمكن أن يؤتي آثاره إلا في حال كان المريض في حالة يسمح فيها باعتبار أزمته من الماضي.