ترجمة وتحرير نون بوست
أثارت الانخفاضات الأخيرة في أسعار النفط موجة من الاتهامات التي بدأت الدول تكيلها لبعضها البعض؛ فالدول صاحبة العلاقة تشير على لسان مسؤوليها بأن الموضوع عبارة عن سوق للعرض والطلب والهبوط أمر طبيعي، أما الآراء والتحليلات المقابلة تشير إلى أن التطور الحاصل في أسعار النفط ليس له علاقة باقتصاد السوق، بل هو عبارة عن تحرك جيوسياسي له أهداف إقليمية وعالمية للضغط على الدول سياسيًا.
يقول علي النعيمي وزير البترول والثروة المعدنية السعودية “إن السياسة النفطية السعودية تتعرض في الآونة الأخيرة لقدر كبير من التخمينات الجامحة والغير دقيقة؛ السعودية لا تسعى لتسييس النفط، وبالنسبة لنا فإن المسألة هي مسألة عرض وطلب وعمل مجرد وتجارة محضة”، كما يقول سهيل بن محمد المزروعي وزير الطاقة الإماراتي “ليس هناك مؤامرة، وليس هناك استهداف لأي شخص، النفط هو سوق وقد تصعد أسعاره أو تهبط”.
من جهته فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين له رأي مختلف، فهو يقول “نحن جميعًا نرى انخفاض أسعار النفط، هناك عدة أسباب قد تكون خلف ذلك؛ فهل يمكن أن يكون هناك اتفاق ما بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية لمعاقبة إيران والتأثير على اقتصاد روسيا وفنزويلا؟ من المحتمل ذلك”.
وتعقيبًا على ما أثاره الرئيس الروسي فإن الرئيس الفنزولي نيكولا مادورو يتفق مع بوتين لجهة وجود اتفاق ضمني أمريكي – سعودي، حيث يشير في مقابلة له مع وكالة رويترز، أنه يعتقد بأن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ترغبان في خفض أسعار النفط لإلحاق الضرر بروسيا، كما أن الرئيس البوليفي إيفو موراليس يتفق مع مادورو وبوتين أيضًا، ويتضح ذلك من خلال تصريحه لقناة روسيا اليوم: “إن الانخفاض في أسعار النفط كان بسبب الولايات المتحدة التي تشن هجومًا على اقتصاد فنزويلا وروسيا، وفي مواجهة مثل هذه الهجمات الاقتصادية والسياسية، يجب على الأمم أن تتحد”، والرئيس الإيراني حسن روحاني بدوره يتخذ ذات الموقف ولكن في اتجاه سياسي مختلف، حيث يشير في حديث له “إن السبب الرئيسي للهبوط في أسعار النفط هو مؤامرة سياسية من قِبل بعض الدول ضد مصالح المنطقة والعالم الإسلامي، إن إيران وشعوب المنطقة لن تنسى هذه المؤامرة والخيانة ضد مصالح العالم الإسلامي”.
إن المواقف السابقة التي تتهم الولايات المتحدة والسعودية بالتآمر للضغط على الدول المصدرة للنفط، لم تلق قبولاً لدى وزير البترول السعودي علي النعيمي، حيث نفى الأخير مرارًا وتكرارًا المزاعم التي تشير إلى أن المملكة السعودية مشتركة في مؤامرة لتخفيض أسعار النفط، وبالنسبة للنعيمي فإن انخفاض أسعار النفط ناجم عن “نقص التعاون من قِبل الدول المنتجة للنفط والغير منضمة لأوبك، جنبًا إلى جنب مع انتشار المعلومات الخاطئة وجشع المضاربين”، وبعبارة أخرى، فإن الوزير السعودي يود أن يقول إن العالم مسؤول عن انخفاض النفط، باستثناء البلد الذي أبقى تاريخيًا أسعار النفط مرتفعة من خلال التحكم بالإنتاج، وهذا الموقف يبدو غريبًا خاصة في ظل تخلي أوبك – ومن خلفها السعودية الرئيس الفعلي لها – عن الإستراتيجية التقليدية لهذا الكارتل، حين أعلن أنه لن يخفّض الإنتاج حتى لو انخفضت الأسعار إلى 20 دولارًا للبرميل.
ولكن السؤال هو لماذا؟ لماذا عملت السعودية فجأة على التخلي عن إستراتيجيتها التقليدية المتمثلة بتخفيض الإنتاج مع انخفاض الأسعار؟ هل تسعى السعودية لتحطيم أسعار النفط؟ إن هذه الإستراتيجية أدت إلى هبوط أسواق الأسهم في الشرق الأوسط إلى أدنى مستوياتها، كما أدت إلى زيادة العجز في ميزانية المملكة السعودية ليصل إلى مستويات قياسية بلغت 5% من الناتج المحلي الإجمالي، والتساؤل المحق هو هل تسعى السعودية من خلال خلق هذا الاختلال المالي الواسع للاستيلاء على “حصة السوق” فقط؟ أم أن هناك شيئًا آخر يحدث خلف الستار؟
يجيب كاتب الجارديان لاري إليوت على هذه التساؤلات بقوله إن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تنفذان مؤامرة تسببت بانخفاض أسعار النفط، حيث يشير الكاتب إلى الاجتماع الذي حصل بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري والعاهل السعودي الملك عبد الله في سبتمبر الماضي، والذي توصل فيه الطرفان إلى اتفاق لزيادة إنتاج النفط للتأثير على إيران وروسيا، ونعيد نشر مقتطفات من مقالة إليوت التي كان عنوانها “مخاطر عالية في لعب الولايات المتحدة بورقة النفط ضد إيران وروسيا”:
“تحاول واشنطن، بمساعدة حليفتها السعودية، خفض أسعار النفط، وذلك من خلال إغراق السوق الذي يعاني من ضعف بالطلب بالنفط الخام، ويمكننا فهم هذه الخطوة من خلال الاعتراف بأن روسيا وإيران تعتمدان بشكل أساسي على صادرات النفط لتمويل نفقاتهما؛ ففي سبتمبر الماضي توصّل جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية، إلى اتفاق مع العاهل السعودي، يتعهد بموجبه السعوديون ببيع النفط الخام بأسعار أقل من سعر السوق، وهذا التفسير يساعد على فهم سبب الانخفاض المتتالي بأسعار النفط، على الرغم من أن الاضطراب الذي تحدثه الدولة الإسلامية في العراق وسوريا كان كفيلاً برفع أسعار النفط بدلاً من تخفيضها” وأضاف إليوت في ذات المقالة “إن السعوديين عملوا على تنفيذ مخطط شبيه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين كان الدافع الجيوسياسي لهذه الخطوة هو زعزعة نظام صدام حسين من خلال خفض أسعار النفط إلى ما دون 10 دولار للبرميل، ولكن في هذه المرة، ووفقًا للمتخصصين في الشأن الشرق أوسطي، فإن السعوديين يسعون للضغط على إيران وموسكو للتخلي عن دعمهما لنظام الأسد في سوريا”.
من جهته فإن فلاديمير بوتين ليس على يقين من وجود مؤامرة بين السعودية وأمريكا؛ حيث إنه يأخذ موقفًا أكثر اعتدالاً من جميع المتأثرين بالأزمة، فخلافًا لموراليس ومادورو وروحاني، كان الرئيس الروسي مترددًا في إلقاء اللوم في انخفاض الأسعار على التواطؤ الأمريكي – السعودي؛ فهو يشير إلى أن هذا الاتفاق قد يكون مسؤولاً عن انخفاض أسعار النفط، ولكنه بذات الوقت يُرجِع انخفاض الأسعار لزيادة العرض وضعف الطلب؛ فبوتين مراوغ ذكي يتجنب إصدار الأحكام دون أدلة كافية، ويمكننا ملاحظة موقفه من خلال تصريحه في مقال تم نشره في وكالة ايتار تاس حيث قال “هناك الكثير من الجدل حول أسباب هبوط أسعار النفط؛ فبعض الأشخاص يقولون إن هناك مؤامرة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة من أجل معاقبة إيران أو الضغط على الاقتصاد الروسي أو لممارسة تأثير على فنزويلا، هذا قد يكون السبب الحقيقي، أو قد يكون السبب الحقيقي مختلف، أو قد يكون صراع منتجي النفط التقليدي ومنتجي النفط الصخري هو الذي أدى إلى انخفاض الأسعار”.
على الجهة الأخرى فإن الصحفي كريس موني من صحيفة واشنطن بوست، يرى في مقال له نُشر مؤخرًا في الصحيفة، إن أي شخص يفكر بأن هبوط أسعار النفط هو نتيجة للتعاون بين الولايات المتحدة والسعودية، هو مجرد شخص مؤمن بنظريات المؤامرة الغريبة، ويشير موني في مقاله الذي عنونه “لماذا يوجد الكثير من نظريات المؤامرة الغريبة حول النفط”، إلى إن سبب التأرجح المفاجئ بأسعار النفط ليس راجعًا للنظريات الغريبة، كون أسعار النفط مرتبطة بعوامل مثل العرض والطلب، وإن الاستثمار الكثيف لشركات النفط في التنقيب منذ عدة سنوات وإنتاج كميات كبيرة من النفط زائدة عن حاجة السوق، ربما قد يكون أدى إلى هذا الانخفاض، فضلاً عن أن عدم تعاون أعضاء منظمة أوبك يمكن أن يؤدي إلى هذه النتائج، ولكن الغريب بالموضوع، بأن موني يدحض هذه النظرية في ذات المقالة عندما يقول: “إن منتجي النفط ينسقون فيما بينهم، كما أن أوبك، والتي تصفها الصحافة بأنها عبارة عن “كارتل”، تتمثل مهمتها في تنسيق وتوحيد السياسات النفطية بين الدول الأعضاء، أما بالنسبة للنظرية القائلة بوجود إستراتيجية نفطية كبرى فهي فكرة بالكاد تكون معقولة”، ويضيف موني متحدثًا عن المؤمنين بنظرية المؤامرة بقوله “هناك الكثير من نظريات المؤامرة التي تفترض بأن مجموعات صغيرة من الأشخاص يخططون للسيطرة على كل شيء، الحكومات والأنظمة المصرفية ومصادر الطاقة الرئيسية، وأن المؤمنين بنظرية المؤامرة يظنون أن القوى النفطية الكبرى في العالم – البلدان أو الشركات الضخمة – تعمل على تشكيل أحداث العالم”.
بمراجعة ما ذكرته صحيفة واشنطن بوست على لسان موني، نجد بأن المقالة وقعت بالعديد من التناقضات؛ فموني يوافق على أن أوبك هي كارتل مهمتها تنسيق وتوحيد السياسات البترولية، ولكنه من جهة أخرى، يقول إن أساسيات عمل السوق المتمثلة بالعرض والطلب هي التي أدت لانخفاض الأسعار، متناسيًا بأن الكارتلات تعرقل ديناميكيات العرض والطلب العادية عن طريق تحديد الأسعار، كما أن موني ينظر إلى الدول المصدّرة للنفط والتي تعمل ضمن الأوبك على أنها منظمات خيرية تعمل في خدمة الإنسانية، وهو بالتالي بحاجة إلى من يوقظه من أحلامه الوردية على حقيقة أن أوبك ليست فيلقًا للسلام، بل هي عبارة عن مزيج من المحتكرين والمبتزين والسفاحين الذين يهدفون لزيادة أرباحهم وزيادة سطوتهم السياسية بغض النظر عن أي فائدة أخرى، فضلاً عن أن الخطأ في المادة يتمثل بأن كاتب المقال فاته جوهر النقاش بشكل تام، فالنقاش ليس بين المؤمنين بنظرية المؤامرة وبين الذين يعتقدون بأن قوى السوق قد تستطيع وحدها تفسير انخفاض الأسعار، بل إن النقاش الأساسي هو بين الأشخاص الذين يعتقدون بأن القرار السعودي في إغراق السوق ناجم عن تحرّك جيوسياسي، وهم يقفون بمواجهة الأشخاص الذين يعتقدون بأن دافع السعودية هو زيادة حصتها في السوق فقط.
فضلاً عمّا تقدم فإن مقالة كريس موني تتابع بتناقضاتها عندما تقول “النفط هو أداة مثالية لتحريك أحداث العالم، فلو كنت عضوًا في جمعية سرية مجنونة لها تطلعات للسيطرة على السلطة وعلى العالم بأجمعه، فكيف لك أن تتحكم بالعالم لخلق نتائج يمكنها إسقاط الحكومات وإثراء البعض على حساب البعض الآخر؟ إن الوسيلة الأنجع هي عن طريق التحكم بأسعار النفط، نظرًا للدور الأساسي الذي يلعبه في الاقتصاد العالمي”.
التناقض في هذا المقطع يظهر واضحًا من خلال تناسي موني بأنه خلال السنوات الماضية قامت الولايات المتحدة بغزو الدول التي تحتفظ بموارد طبيعية ضخمة من النفط والغاز الطبيعي، أو التي تتميز بموقع جغرافي يستطيع التحكم بخطوط أنابيب النقل، وهذا التوجه الأمريكي ليس سرًا؛ فالولايات المتحدة ليست “جمعية سرية مجنونة لها تطلعات للسيطرة على العالم”، بل إنها إمبراطورية علنية وواضحة لها تطلعات صارخة للسيطرة على العالم، ويدير هذه الإمبراطورية مجموعة من الدمى السياسية التي تخدم النخب والشركات الغنية، وأي شخص يتصفح عناوين الصحف اليومية يمكنه معرفة هذه الحقيقة دون أدنى شك.
إن حقيقة أن المملكة العربية السعودية تتلاعب بمستوى عرض النفط حول العالم، لم يتم الطعن بها من قبل أي محلل سياسي أو اقتصادي، حتى أن الصحيفة البريطانية المحافظة فاينانشال تايمز أشارت إلى أن السعودية قد تخلت عمداً عن دورها التقليدي المتمثل في تخفيض العرض لدعم الأسعار، حيث أن السيناريو الذي كان من المفترض أن يحصل –لولا وجود أسباب خفية- هو أن تقوم الدولة المتحكمة بالنفط بالتلاعب بالعرض للحفاظ على غلاء الأسعار، وإن سبب انحراف السعودية عن هذه السياسة التقليدية هو السؤال الذي يجب الإجابة عليه، وإن الإجابة على هذا السؤال يحتمل إحدى الاجابتين التي أوردناهما سلفاً، إما أن يكون الدافع هو زيادة حصة السعودية في سوق النفط، أو أن يكون الدافع هو تحرك جيوسياسي مبني على اتفاقيات خفية.
إن أنصار حجة تخلي السعودية عن سياستها التقليدية لزيادة حصتها في السوق لهم تبريراتهم المقنعة؛ فلا أحد يستطيع أن ينكر بأنه إذا استطاع السعوديون إبقاء الأسعار في الحضيض لفترة طويلة من الزمن، فإن هذا سيؤدي إلى قيام الدول التي لا يمكنها تحمل انخفاض الأسعار لما تحت الـ 70 دولار للبرميل بترك أوبك، وهذا سيؤدي بالنتيجة إلى زيادة حصة السعودية في السوق النفطية، وسيلحقه زيادة في سيطرتها على سياسة الأسعار.
على الجهة الأخرى، يشير بعض المحللين بأن زيادة حصة السوق هو بالتأكيد عامل أساسي في السياسة النفطية الأخيرة التي تنتهجها السعودية، ولكنهم يشيرون إلى أنه ليس العامل الوحيد؛ فبالنظر إلى قيام الولايات المتحدة في العالم الماضي بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا، وبذلها لجهود جبارة لعرقلة مشروع خط أنابيب ساوث ستريم، وإطاحتها بالحكومة في كييف حتى تتمكن من السيطرة على تدفق الغاز الروسي إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، يمكن لنا أن نقول إن هذه التحركات كلها يمكن أن تتكلل بإجبار السعودية على إغراق السوق بالنفط من أجل زعزعة الاقتصاد الروسي، وخلق ظروف مواتية لتغيير النظام في موسكو.
وعلى ما يبدو فإن كاتب النيويورك تايمز توماس فريدمان يساند الرأي السابق، حيث يشير في مقالة له في ذات الصحيفة إلى وجود حرب نفطية عالمية تقف فيها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية على جانب واحد ضد روسيا وإيران، ولم يكن فريدمان الوحيد الذي انضم إلى “جماعة نظرية المؤامرة”، بل كان الصحفي أليكس لانتيير من مشجعي هذه النظرية، ويتوضح ذلك من خلال مقالته المنشورة في موقع الاشتراكيين العالميين حيث يقول: “على الرغم من وجود مجموعة من العوامل الاقتصادية العالمية الكامنة وراء انخفاض أسعار النفط، إلا أن العامل الأساسي لهذا الانخفاض المذهل، هو تعاون واشنطن مع أوبك والسعودية لزيادة الإنتاج وإغراق أسواق النفط العالمية بهدف زيادة تخفيض الأسعار”، وأضاف “عملت السعودية الحانقة من الغزو السوفياتي لأفغانستان في عام 1979، على زيادة إنتاج النفط في تلك الفترة حتى وصل سعر البرميل إلى 20 دولارًا محسوبة بأسعار اليوم في منتصف الثمانينيات، واليوم يسعى السعوديون لمعاقبة بوتين بسبب تأييده لنظام الأسد في سوريا عن طريق اتخاذ ذات الخطوة، وسيكون من المستغرب عدم طرح أوباما لهذه الفكرة على الرياض عندما حلّ ضيفًا على المملكة العربية السعودية بعد اندلاع الأزمة في أوكرانيا”.
كما أن رويترز أشارت في إحدى مقالاتها إلى أن السياسة السعودية الحالية موجّهة من قِبل إدارة أوباما، حيث جاء في المقالة “عقب عودة وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري من زيارته للمملكة السعودية في سبتمبر الماضي، تجنب الخوض في مسألة الاتفاق السعودي الأمريكي، وردًا على أحد الأسئلة التي استفسرت عن حصول مشاورات مع الرياض حول حاجة روسيا لبقاء النفط فوق 100 دولار لمعادلة ميزانيتها، ابتسم كيري وقال: السعوديون يدركون بشكل جيد جدًا أنهم يمتلكون قدرة كبيرة في التأثير على أسعار النفط العالمية”.
بطبيعة الحال، فإن المملكة العربية السعودية هي عميل للولايات المتحدة الأمريكية، فهي ليست مستقلة بقرارها وليست ذات سيادة، إنها محمية أمريكية أو قمر صناعي أمريكي أو مستعمرة أمريكية، سمها ما شئت، ولكن المهم بالمحصلة أن السعودية تفعل فقط ما يُقال لها، فعلى الرغم من أن العلاقة بين الدول معقدة، ولكن من الهزلي أن نقول بأن السعودية هي التي اتخذت القرار بشكل مستقل لانتهاج السياسة النفطية الأخيرة، فهل حقاً يمكن أن نصدق أن السعودية ستعمل على تدمير الصناعات الحيوية للطاقة المحلية الأمريكية، وستقف واشنطن ساكنة بدون حراك تجاه هذا التحرك؟
المتابع للأحداث سيدرك بأنه لو كانت الولايات المتحدة غير راضية عن التصرف السعودي، لعَلِمَ العالم بأجمعه بهذا في وقت قصير، لأن أمريكا ستمطر سماء السعودية من الخليج العربي إلى البحر الأحمر بالصورايخ، كون أمريكا تعبّر عن استيائها عادة بهذه الطريقة، وحقيقة أن أوباما لم يلمّح لا من قريب ولا من بعيد إلى أزمة انخفاض أسعار النفط، تثبت أن سياسة السعودية تتوافق مع الإستراتيجية الجيوسياسية الأوسع التي تتبعها واشنطن.
دعونا لا ننسى بأن السعوديين سبق لهم استخدام النفط كسلاح سياسي لمرات عديدة خلال العقود الماضية، ففي الواقع، إن استخدام النفط كأداة للضغط ليس أمرًا جديدًا على المملكة النفطية؛ ففي عام 1973، أقنع الرئيس المصري أنور السادات العاهل السعودي الملك فيصل بخفض إنتاج النفط والامتناع عن تصديره لرفع الأسعار، بهدف معاقبة الولايات المتحدة لدعمها إسرائيل ضد الدول العربية، وقد نجحت هذه الإستراتيجية عندما تضاعف سعر النفط بأربعة أضعاف، كما قامت السعودية مرة أخرى في عام 1986 بالتلاعب بأسعار النفط عندما قامت السعودية – التي تسيطر على أوبك – بالسماح لأسعار النفط بالانخفاض بسرعة، وأيضًا في عام 1990 قام السعوديون باستعمال النفط كوسيلة للضغط على روسيا التي كانت تهدد سيادة النفط السعودية، وفعلاً نجح المسعى في عام 1998عندما انخفض سعر النفط من 25 دولار إلى 12 دولارًا، حيث تخلفت روسيا حينها عن سداد ديونها، وبطبيعة الحال عملت السعودية بمشاركة الأعضاء الأخرين في أوبك على السيطرة على أسعار النفط خلال العقد الماضي، من خلال تخفيض الإنتاج لإبقاء الأسعار مرتفعة؛ مما سمح لأعضاء أوبك بالاستفادة القصوى من أموال “البترودولار”، خاصة حين بلغ النفط ذروته في عام 2008 بوصول سعر البرميل إلى 147 دولار.
إذن يتضح مما سبق بأن السعودية قامت بالتلاعب بأسعار النفط خمس مرات على الأقل خلال الأعوام الماضية لتحقيق أهدافها السياسة الخارجية، وطالما أن هذا هو الحال، لماذا تعمل وسائل الإعلام على السخرية من فكرة أن السعودية قد تشارك في إستراتيجية مماثلة اليوم؟ هل يمكننا الافتراض أن وسائل الإعلام تحاول تشكيل رأي عام حول هذه القضية، وبذلك تساهم في الواقع بانخفاض أسعار النفط أكثر مما هي عليه؟ فالقارئ العادي يمكنه ملاحظة أن عناوين الصحف تتكرر خلال الأسابيع الماضية لتركز على حقيقة واحدة وهي “السعودية ترفض خفض الإنتاج” على الرغم من أن الحقائق الأساسية لا تتغير في جميع المقالات، حيث يتم إعادة صياغة ذات القصة في كل مرة، بحيث يشكّل هذ العنوان أداة للدخول في وعي الجمهور لغسل أدمغتهم، بناء عليه هل يمكن اعتبار تكرار هذه الرسالة أداة لحث الأسعار على الانخفاض من خلال تشكيل رأي عام جماهيري حول هذه القضية؟
لتوضيح أثر الإعلام على هذه المسألة، يمكننا تذكر ما حصل منذ حوالي الأسبوع عندما تمت مهاجمة مصفاة للنفط في ليبيا؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط على الفور، ولكن بعد ساعات فقط، برز عنوان ” السعودية ترفض خفض الإنتاج” مرة أخرى في جميع وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة، وهذا ما أدى إلى تراجع الأسعار مجددًا، وهذه هي الطريقة التي يعزز فيها الإعلام سياسات الحكومة الأمريكية، وذلك من خلال صياغة رسالة مكررة توجّه للجمهور وتساعد على تحفيز خفض الأسعار، مما سيؤدي بالمحصلة إلى الإضرار بروسيا، وهو الهدف الأمريكي الأساسي، وإن ما يساعد الحكومة الأمريكية على تحقيق خططها، هو أن منظمة أوبك لن تجتمع مرة أخرى إلا في شهر يونيو من هذا العام، وبالتالي لن يكون هناك أي تغيير بمستويات الإنتاج في هذه الفترة، سوى الرسالة المتكررة التي ستطرح مرارًا على وسائل الإعلام، والمتمثلة برفض السعودية لخفض الإنتاج؛ لذا فإن وسائل الإعلام ستستمر بطرح هذا الخطاب حتى يتنازل بوتين ويقدم ولاءه للولايات المتحدة، وفي حال عدم حصول هذا السيناريو ستنفجر أزمة سوق السندات حيث ستعمل الدول على طرح سنداتها المستحقة للوفاء لمعادلة ميزانيتها؛ مما سيؤدي إلى انهيار شامل في النظام المالي العالمي.
خلاصة القول، إن انخفاض أسعار النفط وهبوط الروبل ليسا نوعًا من الحوادث التي تحدث نتيجة لديناميكية السوق الحرة الناجمة عن زيادة العرض وضعف الطلب، بل إنهما جزء من إستراتيجية جيوسياسية أوسع تهدف لخنق الاقتصاد الروسي، وإسقاط بوتين، وإقامة الهيمنة الأمريكية فوق المساحات الأسيوية؛ إن ما يحصل الآن هو جزء من خطة واشنطن للحفاظ على الصدارة بصفتها القوة العظمى الوحيدة في العالم، على الرغم من اقتصادها آخذ في الانخفاض بخط لا رجعة فيه.
المصدر: كاونتر بانتش