ترجمة وتحرير نون بوست
يستخدم أغلب المسافرين عبر العالم بشكل كبير اللغة الإنجليزية ليستطيعوا التواصل مع غيرهم من الثقافات المختلفة، نظرًا لشيوع اللغة الإنجليزية، والتي يعتبرها الكثيرون الأداة الرئيسية للعولمة في شتى المجالات، من الأعمال والدبلوماسية وحتى الرياضة والفنون، وفي نفس الوقت، يدركون أن الإنجليزية التي سيستمعون لها ستحتاج إلى جهد كبير لفهمها، بل وربما يعجزون عن فهمها على الإطلاق، نظرًا لاختلاف اللهجات الإنجليزية من ثقافة لأخرى بشكل واضح.
هناك إذن سمتان أساسيتان للإنجليزية كلغة عالمية: أولها أن هناك قواعد مشتركة وموحدة يعلمها الجميع ويقوم باستخدامها، وهي تيسّر بالفعل من التواصل، لاسيما التواصل المكتوب، وثانيها التنوع اللغوي المتزايد بين متحدثي الإنجليزية في مختلف مناطق العالم، من الهند إلى أستراليا، ومن روسيا إلى البرازيل.
لذلك، يتساءل بعض العلماء اليوم عمّا إذا كانت الإنجليزية ستلقى مصير اللغة اللاتينية، وتتشعب لصالح مجموعة لغات ثانية لشعوب متعددة، محدودة بالتواصل أثناء السفر أو التعامل مع التكنولوجيا أو الدراسة في الخارج أو دراسة العلوم، حيث يقول البعض إن الإنجليزية العالمية بالتبعية ستصبح مجرد لغة سطحية دون فصاحتها البريطانية وجمالها الأدبي كلغة أم للإنجليز، في حين يقول البعض الآخر إن كلًا من هذه اللهجات الإنجليزية ستصبح لغة قائمة بذاتها وبفصاحتها الخاصة، كما جرى مع اللاتينية، وسيصعب مع الوقت التواصل بين متكلمي هذه اللهجات الإنجليزية المختلفة.
ليست هناك إجابات جاهزة على هذه التساؤلات، لاسيما وأن دراسة اللغة والأدب واللهجات في الحالة الإنجليزية وعلى مستوى العالم، أمر معقّد للغاية، أضف إلى ذلك أن الدارسين والمتحدثين أنفسهم، أحيانًا ما يمتلكون رؤى وتوجهات خاصة حيال مفاهيم عامة مثل “الفصاحة” و”البلاغة” تزيد من نسبية الأمور، ومع ذلك، فالنظر إلى خريطة “الإنجليزية” العالمية مهم على أي حال لفهم واقع اللغة اليوم، والقدرة على التنبؤ بإطار عام لما ستؤول إليه.
الإنجليزية في المستعمرات السابقة
لا نملك حاليًا أرقامًا موثقة لأعداد المتحدثين بالإنجليزية، ولكن التقديرات تشير إلى حوالي ملياري شخص يمثلون ثلث سكان العالم تقريبًا، وهو نمو كبير في عدد المتحدثين باللغة، إذ كانوا يمثلون منذ عقدين تقريبًا خُمس سكان العالم، وسببه بشكل رئيسي هو متحدثي الإنجليزية من بلدان العالم المختلفة، خاصة الهند ونيجيريا والمستعمرات البريطانية السابقة، وليس المتحدثين بها باعتبارها لغتهم الأم، حيث تشير الإحصاءات إلى ثبوت أعداد المتحدثين باللغة الإنجليزية كلغة أم عند 350 أو 380 مليون شخص في نفس الفترة.
بشكل رسمي، لاتزال الإنجليزية البريطانية هي الأساس الذي يتم تدريس الإنجليزية وفقًا له في معظم بلدان المستعمرات البريطانية السابقة، في حين تنتشر الإنجليزية الأمريكية في بقية بلدان العالم، كما تجد الإنجليزية الأسترالية أيضًا صدى لتكون هي الأساس في منطقة أسيا والهادي.
تعد الدول التي تنتشر فيها الإنجليزية كلغة ثانية بشكل رسمي المحرك الرئيسي لزيادة أعداد المتحدثين بالإنجليزية عالميًا، فبعد نهاية الاستعمار البريطاني، ورُغم توقعات البعض بأن ينحسر استخدام اللغة الثانية التي أتت مع المستعمر، جرى في الواقع توسع في استخدام اللغة لأسباب عدة أبرزها النظر لها كلغة محايدة في ظل مجتمع متعدد الثقافات، مثل الهند، حيث تنقسم البلاد بين متحدثي الهندية وأخواتها في الشمال، والتاميل وأخواتها في الجنوب، وكذلك نيجيريا، حيث الانقسامات بين متحدثي الهاوسا واليوروبا والإجبو، وهو ما يعني أن فرض واحدة منها باعتبارها اللغة الرسمية على حساب غيرها كان ليؤدي بالقطع إلى توتر بين المناطق والمجتمعات الإثنية المختلفة (وهو واقع بالفعل في الهند، حيث صرحت القوى السياسية في جنوب البلاد مرارًا بأنها لن تسمح بفرض الهندية على قاطنيها).
بالإضافة إلى ذلك، كان التحول من الإنجليزية إلى اللغة الأصلية أحيانًا مكلفًا، نظرًا لنشأة المؤسسات الحديثة كلها على أيدي الإنجليز، حيث تتمتع الإنجليزية بصفة رسمية ولو لم يقرر الدستور ذلك، مثلما الحال في الفيليبين وسريلانكا وناميبيا وكينيا وسنغافورة وغيرها، وخاصة في الحالات التي لم تمتلك فيها الدول المستعمرة منظومة لغوية سياسية واضحة، كما الحال مع بعض بلدان أفريقيا، وهو ما دفعها للإبقاء على الإنجليزية.
الإنجليزية كأساس للتواصل عبر الثقافات
بالإضافة لبصمتها في المستعمرات السابقة، تنتشر اللغة الإنجليزية على مستوى العالم باعتبارها لغة عالمية، فهي ليست فقط مقتصرة على الدبلوماسيين والمؤتمرات الدولية، بل تستخدمها الشركات متعددة الجنسيات في ألمانيا، وسائقو الشاحنات البلغاريون وهم يعبرون الحدود النمساوية، والسياح المتدفقون سنويًا على اليونان، والغواصون على سواحل البحر الأحمر في مصر، ومعظم النشطاء والفنانين والرياضيين، وغيرهم.
ببساطة، يتزايد استخدام اللغة الإنجليزية، ولو بصورة محدودة، خارج حدود الطبقات الوسطى، والتي اعتقد كثيرون لوقت طويل أنها السبب الرئيسي في انتشار الظاهرة باهتماهم بالتعليم الأجنبي لأبنائهم، إذ يبدو من الأنماط الموجودة حاليًا أن هذه الإنجليزية البسيطة أو البدائية أصبحت منتشرة نظرًا لطبيعة الاقتصاد العالمي، وضرورة وجود معجم للتواصل البسيط، مثلما يفعل العمال الهنود في الخليج، والباعة في لبنان، وسائقو التاكسي في مصر، وهو ما يعني انتشارها بين شرائح لم تدرس ولن تراعي، القواعد الكلاسيكية للغة.
تباعًا، يزداد النظر للغة الإنجليزية العالمية باعتبارها معجمًا غنيًا بالكلمات العالمية والموّحدة، أكثر منها لغة ذات قواعد بالمعنى التقليدي، ونتيجة لذلك، لم يعد الهدف الأساسي للكثيرين حول العالم هو تعلّم قواعد اللغة كما الحال حين يتعلم أي منا لغة جديدة، بل مجرد الإحاطة بأكبر قدر ممكن من تلك الكلمات ليتمكنوا من التواصل بشكل ما.
مستقبل الإنجليزية
يواجه الساسة والمدرسّون تحديًا إذن، وهو كيف يمكن دعم الطامحين إلى تعلم هذا النوع من الإنجليزية، وما هي تبعات توجه كهذا، فهل تفقد الإنجليزية مثلًا تماسكها وتناغمها كلغة فصيحة وتصبح مجرد كلمات مبعثرة؟
تقترح بعض الآراء تطوير لغة قائمة بذاتها هي “جلوبيش” (أو العالمية Globbish) لكي تكون نسخة محدودة من الإنجليزية، ودليلًا للتواصل العالمي، وهي محاولة شبيهة لـ “الإنجليزية الأساسية” Basic English، الموجهة نحو متحدثي الإنجليزية البسيطة، وقد دشّنت ويكيبيديا منذ سنوات نسخة من الموسوعة بهذه اللغة، قد يبدو هذا الاقتراح نبيلًا، ولكنه في حقيقته يعاني من رغبة دفينة في توحيد وتنميط التواصل، بدلًا من مراعاة الطبيعة الحضارية في تعدد اللهجات وضرورة تشعبها وتعقّدها، واختلافها تدريجيًا بين المناطق والبلدان المختلفة.
اللغات ليست مراسيم تُملى وتُهَندَس من أعلى، كما يعتقد البعض، ولكنها تولد وتتطور بالاستخدام، وهي ملك لمتكلميها وليس لواضعي القواعد، خاصة في هذه الحالة، ربما غير المسبوقة في التاريخ، والتي تشهد خروج مجموعة كبيرة من المتكلمين عن إطار القواعد الفصيحة الموضوعة للغة الإنجليزية، وتشكيلهم للهجاتهم الخاصة.
ستكون مقترحات مثل “جلوبيش” غير منطقية، أولًا لأن المتحدثين بالإنجليزية لن يضيعوا أوقاتهم في النزول بمستوى لغتهم إلى تلك اللغة المصطنعة، وثانيًا لأن الإنجليزية البسيطة الصاعدة لا يبالي مستخدموها بهذه الشعارات ومحاولات التصنيف والتعريف، بل ولربما لا يعتقدون أصلًا أنهم يتحدثون لغة قائمة بذاتها، فهم مشغولون على الأغلب بمواصلة حياتهم والتعامل مع سوق يزداد ترابطًا، أكثر منهم غارقين في المفاهيم، وثالثًا، يبدو على الأرجح أن هذه اللهجة البسيطة ستتطور بسرعة، لاسيما وأنها مرتبطة بالسوق بشكل أساسي، بشكل يجعل من “جلوبيش” مع الوقت نسخة بالية في حاجة إلى التحديث كل فترة.
ما نحتاجه إذن هو تعزيز قدرتنا على فهم الآخر، وبلهجته الإنجليزية الخاصة، سواء أكانت هندية أم أسترالية أو روسية، وأن نبذل وقتًا وجهدًا في التواصل بوضوح، بدلًا من السعي خلف مقالات وكتب من فصيلة “تعلم 1500 كلمة إنجليزية في يوم”، والتي لا تخدم سوى المزيد من التسطيح، وقتل الأبعاد المختلفة لاستخدام اللغة عند البشر، وقد تحول التواصل البشري إلى نوع من الردود الآلية.
***
لا يمكننا أن نتنبأ بشكل قاطع بمستقبل اللغة الإنجليزية، ولكن متابعة ما سيجري لها ولكافة لهجاتها في المستقبل سيكون أمرًا مثيرًا للباحثين والمهتمين باللغات، الشيء الوحيد الذي نعلمه على وجه اليقين هو أن اللغة الإنجليزية ستبقى معنا لوقت طويل أساسًا للتواصل بين الثقافات المختلفة، وأن الإنجليزية البريطانية، على الناحية الأخرى، لن تظل هي المقياس لوقت طويل.
الإنجليزية لا تتشرذم، كما يقول المتشاءمون والمحافظون، ولكنها تتشعب وتزداد ثراءً ويزداد متلكموها، وممتلكوها بالتبعية، تنوعًا وانتشارًا، وهي ظاهرة مبدعة وخلّاقة في تاريخنا يجب أن نقدّرها ونقبلها، بدلًا من التحذير منها أو السعي لقولبتها وتنمطيها.
المصدر: تشاثام هاوس