ترجمة وتحرير نون بوست
حين وقع حادث شارلي إيبدو، اتجهت أنظار الجميع إلى هوية مرتكبيه الدينية، وهم مسلمون كما عرفنا جميعًا، ظنًا منهم أنها تملك التفسير الوحيد لما جرى، وهو افتراض قد يكون صحيحًا بالنظر لعضوية أحدهم في تنظيم القاعدة، ولكن الجميع تغاضى عمّا قد يكون العامل الأهم في تفسير ما جرى، وما يجري منذ سنوات، وهو هويتهم الثقافية، كمهاجرين من شمالي وغربي أفريقيا بشكل رئيسي.
قبل الحادث بأشهر طويلة، كانت النقاشات على أشدها بالفعل بين الفرنسيين حيال تصاعد التوتر بينهم وبين المسلمين في البلاد، والتي ظن البعض أنها قد تجر البلاد إلى مواجهة مسلحة، وبعد الحادث بيومين فقط، ظهرت مؤشرات غير طيبة على موقع صحيفة لوموند المرموقة، إذ تمت مشاركة أخبار ردود فعل القادة الأوربيين حوالي 5000 مرة، ومشاعر طلاب المدارس المسلمين 6000 مرة، وتفاصيل الاجتماع التحرير لشارلي إيبدو بعد الحادث 9000 مرة، في حين تمت مشاركة خبر غريب حوالي 28000 مرة، يُقرأ عنوانه: “المساجد أهداف لهجمات محتملة، ومسلمو فرنسا غير مطمئنين”.
المشكلة في فرنسا الآن قد تشتمل بالفعل على خطر مسلح، وصراع ديني، وحركة حقوق مدنية عنيفة، وهي ليست البلد الوحيد، بل إن كافة بلدان أوروبا الغربية تقريبًا تمتلك ظروفًا مشابهة، نظرًا لاستقبالها موجات من المهاجرين من أفريقيا على مدار عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ليصل تعداد المسلمين وحدهم اليوم إلى 20 مليونًا في أوربا كلها، 5 ملايين منهم في فرنسا (أي 8٪ من السكان).
الهجرة أمر جديد على الأوربيين، والذين تتسم معظم فترات تاريخهم بمعاداة الأجانب بشكل كبير، كما أنها وقعت في أوقات غير مناسبة شهدت فيها أوربا انخفاض معدلات المواليد، والذي أكسب حركة الهجرة زخمًا إضافيًا، وكذلك صعود الإسلام السياسي، والذي أضفى على المهاجرين طابعًا راديكاليًا.
لماذا عانت أوروبا دون غيرها من الهجرة؟ يمكننا فهم أزمة أوروبا تلك بالمقارنة مع الولايات المتحدة، فمنظومات الرفاهة، الأكثر تطورًا وتقدمًا في أوروبا، كانت حتى وقت قريب أكثر قبولًا للمهاجرين الشرعيين غير المجنّسين (نظرًا لصعوبة أو استحالة الحصول على الجنسية)، وبالتالي كانت معدلات الهجرة غير الشرعية قليلة، على العكس من الولايات المتحدة التي فتحت باب التجنيس باعتبارها بالأساس مجتمع مهاجرين يبحث عن الرواد في كافة المجالات، بالإضافة إلى ذلك، يُنظَر للمهاجر في الولايات المتحدة باعتباره شخص أكثر كفاحًا من غيره وفي كافة المستويات، على عكس الحالة الأوروبية، حيث ملأ المهاجرون الوظائف الدنيا، بل وتتزايد معدلات البطالة بينهم مؤخرًا، مما يجعلهم عبئًا على منظومة الرفاهة.
علاوة على ذلك، حين فتحت أوروبا باب الهجرة، كانت خارجة لتوها من نيران الحرب العالمية، ومُثقلة بذكريات النازية والاستعمار، بدرجة شعر معها السياسيون أنهم لا يمتلكون الأرضية الأخلاقية الكافية لمواجهة مشكلات أساسية مثل العنصرية، على عكس الولايات المتحدة والتي تعامل فيها السياسيون مع العنصرية بوضوح، سواء بالإيجاب، حين انتهت العقبات الرئيسية بعد حركة الحقوق المدنية، أو بالسلب، حين رعت بعض الحركات والسياسيين الفصل الواضح والرسمي. في كلتا الحالتين، كانت الولايات المتحدة تتخذ خطوات واضحة ومباشرة، على عكس أوروبا، والتي لم تتخذ لليوم حيال الأقليات أي خطوات جذرية، سلبًا أو إيجابًا.
المحرّمات الأوربية وخطاب الهوية
حين بدأت الهجرة إلى أوروبا، كل ما أثار مخاوف الأوربيين كان ألا يكون القادمون من شمال أفريقيا ناصريين أو قوميين، ولكنهم لم يكونوا بعيدي النظر ليدركوا أن الأجيال الجديدة من المهاجرين قد تكون أكثر تمسكًا بدينها وتراثها، بل وأيضًا أكثر قوة وتماسكًا بالنظر للتهميش الاجتماعي وهبوط معدلات المواليد الأوروبية.
كان هذا هو ما حدث بالضبط، لاسيما وأن ثقافة أوروبا العلمانية والمادية بدت لهؤلاء شديدة البرودة، ولم تكن جذابة للكثير من المسلمين كبديل عن الرجوع إلى التراث والدين كما ظن البعض، والحق أنها أصلًا لم ترض الكثير من غير المسلمين والمفكرين الغربيين أنفسهم، والذين لم ينبسوا ببنت شفة تجاه المنظومة الغربية إلا حين فقدوا أموالهم خلال أزمة 2008.
بالإضافة إلى ذلك، جهل الأوروبيون الكثير عن الإسلام وخلفية المسلمين الثقافية للتعامل معهم كما ينبغي، فالمسلمون لم يشاركوهم الإحساس بالذنب جراء الجرائم الفاشية والاستعمارية التي ارتكبها أجدادهم، وبالتالي تمتعوا بحرية حركة كنظرائهم الأمريكيين في تناول المسائل المهمة والحساسة، على عكس الأوروبيين الذين لايزالون مرتبكين حيال تلك الملفات التاريخية.
من ناحية أخرى أيضًا، وفي عالم أصبحت الهوية فيه أكثر أهمية، يتمتع المسلمون بالطبع بتمسك واضح بهويتهم، على العكس من الأوروبيين الذين إما تراجعت هوياتهم القومية باسم “الاتحاد الأوروبي متعدد الثقافات” والعولمة والليبرالية، أو ظلت حبيسة عقدة الذنب والرهبة من الانزلاق إلى الفاشية.
بطبيعة الحال، لا يمكننا الخلط بين المسلمين والإرهابيين، ولكنه من الواضح أن المسلمين لا يملكون الوسائل، ولا الدافع، ولا الشجاعة، للوقوف بوجه تلك الشريحة الصغيرة من الإرهابيين وداعميهم، ونحن نرى بين الحين والآخر في الحقيقة نوعًا من الفخر بأفعالهم، كما حدث مثلًا عام 2012 حين قتلت الشرطة مسلمًا في مدينة تولوز بعد أن هدد ضباطًا فرنسيين وطلابًا يهود بالسلاح، ليخرج علينا أخوه ويقول إنه فخور به.
لا يدلل على ذلك أكثر من ردود فعل عامة المسلمين بعد حادثة شارلي إبدو ونشر رسومًا جديدة للرسول في العدد الأخير من الصحيفة، والتي تبعها استهجان واسع وتظاهرات عدة، وكأن الهجوم على الصحيفة لم يكن، ورغم ذلك، خرج رئيس رابطة اشتراكية ليقول ببساطة إن “الطبقات العاملة” الأفريقية لم تكن جزءًا من كل هذا، في محاولة للدفاع عن المهاجرين بشكل ما عبر عدسة اقتصادية بحتة، دون النظر لحقيقة الأمور، وفي محاولة أيضًا للحفاظ على مكاسب اليسار وسط المهاجرين.
لايزال سياسيّو أوروبا إذن يدفنون رؤوسهم في الرمال ويتحدثون عن براءة الإسلام مما حدث كما قال الرئيس أولاند، وضرورة دعم الإسلام “الوسطى”، بدلًا من مواجهة الواقع على أراضيهم، وهو أن المسلمين يمتلكون أسبابًا عديدة للاعتزاز بالهوية الإسلامية أكثر من غيرها في وجه القيم الأوروبية، وأن هذا قد يخلق بعض العنف والتحيز من جانبهم، وعلى الناحية الأخرى، أنهم لا يملكون الجرأة التي يملكها المسلمون، والتي بدأت قطاعات واسعة من الأوروبيين تتطلع لها، كما نرى مؤخرًا في الموجة اليمينية التي تجتاح القارة وقد تؤدي للعنف والتحيّز أيضًا، ويختلط فيها العنصري والفاشي بالفرنسي الغاضب لأجل هويته وقيمه، كما يختلط الإرهابي بالمتديّن في صفوف المسلمين.
يشعر الناخبون بطول أوروبا وعرضها أن نخبهم السياسية خذلتهم بشدة، وأنها شديدة الميوعة والارتباك فيما يخص المسائل الهامة والملحة، وهو السبب الرئيسي في ارتفاع أرصدة أحزاب اليمين القومي، لاسيما حزب الجبهة القومي الفرنسي بقيادة مارين لوبان، وحزب استقلال بريطانيا بقيادة نايجل فاراج، وحزب البديل لألمانيا الألماني، وحزب النجوم الخمسة الإيطاليا، وغيرها الكثير من الحركات المناهضة للاتحاد الأوروبي، والتي تشعر أن المنظومة الأوروبية القائمة اليوم تقتل الحوار حيال أي مسألة حساسة، بدءًا من الهولوكوست وحتى المهاجرين والإسلام، باسم الحفاظ على الليبرالية وتعددية الثقافات.
الأوروبيون لا يشعرون بالأمان لأسباب كثيرة، مثل الحرب في العراق وسوريا، والآلاف من المهاجرين التي تقرع أبوابهم سنويًا، وقد تكرر هجوم شارلي إيبدو، وكل ما فعله الحزب الاشتراكي في فرنسا هو أنه أقصى حزب الجبهة القومية المتطرف من مسيرات الجمهورية مدعيًا أنه ليس “جمهوريًا” بما يكفي.
في الحقيقة، خطوات كتلك هي ما ستدمر الجمهورية، والتي تحتاج إلى فتح الجرح بالكامل بدلًا من كتم أصوات الأنين المنبعثة بسببه بين شرائح شتى في أوروبا.
المصدر: وول ستريت جورنال