” اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم عن فلسطين، بدو يعرف حاله ميت”. ناجي العلي
دعنا يا ناجي ندعوك اليوم لتكون حاضرًا، بل شاهدًا على عالم بدا لا يعرف للقضية أصل، لا يعرف لها صاحب، قانونه أن الحق المهضوم سيظل مهضومًا، المظلوم سيُظلم أكثر، الدم يحب الدم، ومن يدافع عن القضية، عن الوطن، مصيره رصاصة، كالتي أصابتك يا ناجي، من الخلف، وببطء، وبكاتم للصوت.
سأتخيلك بكامل هيئتك حاضرًا، تتحدث كما كنت دومًا ببساطة، وفي حضرتك كان ما يكون من الكلام، فكله عائد لك وإليك.
“أنا ناجي العلي، إنولدت وين إنولد المسيح – عليه السلام -، بين الطبرية والناصرة بقرية الشجرة بالجليل الشمالي، طلعونا من هناك بعد عشر سنين بالـ 48، وهجرونا لمخيم عين الحلوة بلبنان، بتذكر هاي السنين العشر بفلسطين أكثر ما بتذكر أي إشي تاني من عمري، لسه العجب والحجر والنور .. لساهم صور ثابتة بعيني”.
“كنت صغير لما وصلنا على عين الحلوة، وصلنا تعبانين وحافيين، سمعت وقتها الكبار بيحكوا عن الدول العربية، الإنجليز، المؤامرة، سمعت بليالي المخيم شهقات البكاء المكتوم، شفت الحزن بعيون أهلي، وكان عندي رغبة كبيرة إني أرسم هذا الحزن علي حيطان المخيم كلها.”
“إحساسي والوعي تاعي اتشكلوا بالمدرسة الابتدائية بعين الحلوة، كنا نستغل مناسبات مثل وعد بلفور أو 15 آيار للتعبير عن رغبتنا في إنا نرجع لفلسطين، علمني أستاذي كيف أرفع علم فلسطين وأحييه،عرفني مين أصدقاءنا وأعداءنا، كان دايمًا يقول لي: ارسم يا ناجي .. بس دايمًا ارسم عن الوطن”
“ضليت أرسم علي حيطان المخيم شو كنت أرسم عن الوطن، شو كنت أشوف أشياء محبوسة بعيون الناس، وبعدين انتقلت رسوماتي لحيطان الجيش اللبناني، كنت أقضي بضيافتهم فترات دورية إجبارية، كانوا يقبضوا علينا بأي تهم، ويفرجوا بس لما يزهقوا من وجودنا بالمخيم.”
كان ناجي يستغل كل جدار من مخيم عين الحلوة ليعبر عن حزن اللاجئين، خسر اللاجئون الفلسطينيون كل حقوقهم المدنية والاجتماعية منذ دخولهم مخيم عين الحلوة، وكان “ناجي” متمردًا، القهر المكتوب في الكتب والمسموع بالآذان يختلف تمامًا عن القهر الذي عاشه ناجي وعاشه الفلسطينيون، والإنسان بطبيعته إما يستسلم حتى الموت بسبب القهر، أو يُقاتل، أما ناجي العلي فقرر أن يتمرد بريشته، عاش ناجي بمبدأ “المخيم بركان نار لن يهدأ حتي يعود الحق لأصحابه”.
“بالرسم بدأت أحس إن في جسر بيتكون بيني وبين الناس، كنت بتمنى يكون لي 20 يد، وبكل يد ريشة”.
ناجي العلي هو صاحب الشخصية الكاريكاتورية الشهيرة “حنظلة”، الطفل الفلسطيني المتمرد لكل حلول خارجية مؤقتة للصراع العربي الإسرائيلي، المتمرد على كل الخلافات العربية والنزاعات الداخلية، “حنظلة” دائمًا وأبدًا سينادي بكامل التراب الفلسطيني غير منقوص، حنظلة هو ممثل للشخصية الفلسطينية البسيطة، كان في معظم رسوماته يتبع حنظلة بشخصية “فاطمة” التي تعبر عن فلسطين، عن الدار، عن الأرض.
اسمي “حنظلة” .. اسم أبوي مش ضروري .. أمي اسمها “نكبة” .. وأختي الصغيرة فاطمة .. نمرة رجلي: ما بعرف لأني دايمًا حافي، تاريخ الولادة: إنولدت بـ 5 حزيران/ يونيو 1967، جنسيتي: أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش لبناني، مش مصري، مش حد، باختصار ماليش هوية ومش ناوي أتجنس، محسوبكم إنسان عربي وبس.
يقول ناجي إن حنظلة هو تعبير ذاتي عن نفسه، وقت ما دخلت عين الحلوة كان بعمره، لم يقصد وقت رسمه أن يُجمله ويُحسن من ملامحه، لأن بداخله إنسان حميم دافيء.
ناجي العلي كتب ورسم عن الخلافات العربية، الفلسطينية، الأعداء المُعلنين من أمريكا وإسرائيل، كل اعداء العرب وفلسطين، الفقر، المعتقلين، والمخيمات، وكانت نجمة الصبح في كل رسوماته لها اسم واحد “فلسطين”.
شهدت رسومات ناجي على الحرب الأهلية بلبنان، كان يعشق لبنان، كان يمشي بالشوارع غير عابئ بأي خطر، بأي رصاص، يريد أن يصور بعينيه كل دمار خلفته الحرب، ناجي يريد أن يبقي بالقرب من الناس، دومًا وإلى الأبد.
“كنت أمشي في الشوارع مذهول، ما كنت بتخيل إذا في كاتب أو رسام أو حتى شاعر يقدر يجسد لحظة من لحظات بيروت”.
لا ننسى من الحديث وداد العلي، زوجة ناجي العلي، التي كانت دائمًا تشعر بخطر رسوماته عليه، تحاول أن تدفعه عن العديد من الرسومات قائلة: “بتجيب آخرتك هاي يا ناجي”.
تقول دومًا إن ناجي كان مدخنًا شرهًا، في كل مرة تحاول أن تجعله يعدل عن التدخين يرد ببساطة: أنا ما بموت من التدخين، أنا بموت من إشي تاني”.
وداد كانت تشعر دومًا أن حياة زوجها أهم من حياتها، أثناء وجودهما بلبنان كانت تخشي أن تكون سيارته مفخخة، فكانت كل يوم تسرع قبله لتشغيل السيارة لتتأكد من أنها لن تودي بحياة زوجها.
عمل ناجي رسامًا بصحيفة السفير، ومن بعدها صحيفة القبس بالكويت، كان متعايشًا مع حالة التهديدات الدائمة التي تحوط به من كل الاتجاهات، بسبب رسوماته كان مكروهًا من كل الأطراف، وأولهم ياسر عرفات.
انتقادات ناجي للسياسة الفلسطينية ولياسر عرفات كانت السبب الرئيسي في طرده من الكويت وذهابه إلى لندن.
أبو عمار لناجي العلي: “هادا اللي اسمه ناجي العلي، إذا ضل يرسم كدا؛ بحط أصابعه بالأسيد”.
في حوار بين ياسر عرفات وناجي العلي حيث طلب الأول مقابله ناجي.
ياسر عرفات: إنت ليه بتشتم شعبك يا ناجي؟
ناجي: أنا ما بشتم شعبي، أنا أُمثل شعبي، وأنا انتقد هادول اللي عايشين على دم شعبي، أنت اللي تشتم شعبك، أنت تتكلم اللهجة المصرية، لماذا لا تتكلم اللهجة الفلسطينية .. إذا كنت تحب شعبك وتمثل شعبك!
“أنا برسم .. ما بكتب حجابات عالجبين وما بحرق بخور .. بس برسم .. وإذا قالوا إن ريشتي بتجرح بكون حققت حلمي، بعدين أنا مش مهرج ومش شاعر قبيلة، أنا بطرد عن قلبي مهمة دايمًا كانت تعود لإلي ثقيلة، بس كافية إنها تعطيني مبرر إني أحيا”.
اغتيال ناجي العلي في لندن
رحل ناجي العلي بسبب التهديدات الواقعة عليه وهو في الكويت، وقرر العمل بفرع الصحيفة نفسها في لندن، فتح ناجي النار على كل الرؤوس من لندن، لم يكن يخاف من قبل وتجرأ أكثر وأكثر بريشته، أصبح شخصًا مكروهًا أكثر وأكثر من كل الجهات، ناجي كان عضوًا بارزًا في قائمة اغتيالات جولدا مائير – وزيرة الدفاع الإسرائيلية – التي كان بها غسان كنفاني أيضًا.
انتقد ناجي “منظمة التحرير الفلسطينية” بكل من فيها،على حسب تقارير الشرطة البريطانية عن جريمة اغتيال ناجي العلي أن هناك شخص يدعي عبد الرحيم مصطفى أو بشار سمارة عميلاً مزدوجًا بين الموساد ومنظمة التحرير الفلسطينية وهو من المشتبه بهم في قضية اغتيال ناجي العلي؛ مما يجعل اسم منظمة التحرير الفلسطينية يحوم حول جثة “ناجي” المهدور دمه.
لم يكن المدعو عبد الرحيم مصطفى الوحيد الذي كان مشتبهًا به في قتل الرسام الفلسطيني، بل هناك إسماعيل صوان الذي كان مكلفًا من الموساد بمراقبة عبد الرحيم مصطفى، أيضًا له يد في الجريمة، حيث إن كلاهما كان لهما نشاطات ضد الفلسطينيين الكائنين بلندن.
بعد اغتيال ناجي العلي أمرت السلطات البريطانية بترحيل العديد من عملاء الموساد الذي تبين أن لديهم نشاطات إرهابية ومخططات اغتيالات للعديد من الشخصيات الفلسطينية من وسط الأدباء والرسامين على الأراضي البريطانية.
رواية منظمة التحرير الفلسطينية تفيد بأن حركة فتح هي المسؤولة عن اغتيال “ناجي العلي” لما لها من خلافات سياسية معه.
بعد مرور أكثر من خمسة وعشرين عامًا على اغتيال الرسام الفلسطيني، لايزال القاتل مجهولاً، لكن المعروف للجميع أنه اتحدت ثلاث مصالح متنازعة على مقتل ناجي العلي؛ الموساد، ياسر عرفات، ومنظمة التحرير الفلسطينية.
قُتِل ناجي وهو في طريقه لجريدة القبس، حاملاً معه آخر ما رسم من رسوماته الناقدة، برصاصة من الخلف في رقبته، بقي على إثرها خمسة أسابيع في غيبوبة، لم يكتمل يومه الـ 39 في المشفي حتى أسلم ناجي العلي الروح.
دُفن ناجي مؤقتًا بالمقبرة الإسلامية بلندن، نظرًا لرفض السلطات الفلسطينية المسؤولة عن مخيم عين الحلوة دخول جثمانه إلي المخيم، وعدم استطاعة الأسرة نقل جثمانه حيث ولد بقرية الشجرة في فلسطين نظرًا لظروف الاحتلال.
ربما لو وصل جثمانك يا ناجي لعين الحلوة لحدثت انتفاضة فلسطينية أطاحت برؤوس الكثير، ارقد في سلام حيث تكون يا ناجي، فإنّا على العهد باقون، ما دام حنظلة هنا، وما دمنا نتحدث عنك، فاعلم أنك حي تُذكر، وأن الثورة قادمة.
“المعركة مفتوحة، ومازال عندي أمل، وعندي إحساس لأنه لابد من حصولنا على حقوقنا المهضومة مهما كان الثمن، وأشعر بالضعف أمام الناس البسطاء، أما النجوم. . فليس عندي نجوم، أعلم أنني سأواصل الطريق .. فأنا على موعد هناك .. بعيدًا أن أخلفه .. سنلتقي ذات يوم .. الجميع .. الشهداء .. أبناء المخيمات .. المغتربون هنا وهناك .. حاملين صورة الوطن في العيون .. سندق ساري علم فلسطين في تراب الوطن .. سنستمر”.