في المقالات السابقة قدمنا رؤية موجزة للدولة العميقة وقدمنا مقترحات تتراوح بين النظرية والعملية حول أداء جماعة الإخوان المسلمين بوصفها – واقعيًا – قطب الرحى في الحراك الحالي ضد نظام السيسي.
الآن نقدم بعض المقترحات للانتقال من الأداء السطحي المتمثل بهبات في الشارع ليس لها عمق أو تكوين تحالفات بين شرائح المجتمع المختلفة إلى ثورة تكون جزور أو ريزومات بالمجتمع كما لخصنا بالمقال السابق.
أولاً: علام تتصارع الدولة العميقة؟
لكي تفهم بشكل أوضح ماهية الدولة العميقة وطرق عملها ومن ثم تشرع بتكوين ما يمكن تسميته “الثورة العميقة”، يجب فهم علام يتصارعون أو مناطق النفوذ محل التوتر، ويمكن اختصارًا تقسيم أهم الملفات التي بها توتر:
1- ملف الأرض العقارية أو الصالحة للتطوير العقاري بكامل مصر وقد أوردنا نموذج بمقال سابق عن التنافس حول أرض الضبعة.
2- ملف الاتصالات والإنترنت: وليس خافيًا أن المصرية للاتصالات وشركة الإنترنت الرئيسية بمصر “تي إي داتا” مملوكتين للمخابرات وهو الملف الذي بدأ الجيش يزاحم المخابرات به، بداية من شراء الجيش لحصة شركة فودافون بالمصرية للاتصالات ثم المشاكل التي تواجه إصدار رخصة المحمول الرابعة، حيث يطمح الجيش أو بمعنى أدق المخابرات الحربية أن يكون لهم نصيب مباشر بإدارتها وهو ما تم تسويته بشكل مؤقت بتكوين المجلس الأعلى السايبراني لإدارة النفوذ وتقاسم الموارد بين الجيش والمخابرات العامة بقطاع الإنترنت والاتصالات.
3- الطاقة من بترول وغاز، والآن بعد شهادة المخابرات العامة ممثلة بعمر سليمان في محاكمة مبارك، أصبح لدينا اعتراف رسمي بإشراف المخابرات رسميًا على صفقة الغاز وتكوين شركة الشرق للغاز، وأن أرباحها كانت تغطي ميزانية المخابرات العامة، ولكن تلك ليست كل القصة؛ فقطاع الطاقه إن شئنا بالكامل هو ملك للمخابرات العامة من خلال رجالهم بوزارتي البترول والكهرباء وشركاتها العامة، وكمثال قديم نسبيًا يمكن الرجوع إلى ملف بيع احتياطي مصر الغير مستكشف من البترول إلى مؤسسة مورجان ستانلي المالية أو رهنه حتى عام 2017 ومن وراء تلك الصفقة هي المخابرات العامة، ولكن مجددًا بعد 30 يونيو بدأ الجيش يزحف على هذا القطاع ومن قبلها أيضًا، فللجيش حصة مثلاً بشركة سوميد وغيرها، كما أن هناك تنافس حول عقود حراسة خطوط الغاز والبترول ومحطات الكهرباء، فهي مقسمة بين المخابرات العامة والجيش وأمن الدولة، حيث أصبحت لهم اليد العليا في إقصاء أو تثبيت موظفين بقطاع الطاقة بدعوى فحص خلفيتهم الأمنية وميولهم السياسية وهو ما ترافق مع الحملة الإعلامية التي حمّلت موظفين “إخوان” بقطاع الطاقة الأزمة بالصيف الماضي وهو ما يمكن أن يمثل سلاح “لتطهير” الجهاز البيروقراطي وعقد شبكات فرعية ولعل هذا امتد أيضًا للقطاع الوظيفي مثل مسؤولية أمن الدولة على إمرار تعيينات المدرسين الجدد بوزارة التربية والتعليم.
4- السيطرة على المكون التقليدي العشائري والقبلي سواء بالأطراف في مطروح والصعيد وسيناء أو نفس المكون العشائري والقبلي الذي انتقل للقاهرة ويعتبر جزءًا أساسيًا من حزام الفقر الذي يحيط بالقاهرة كما نوهنا بالمقال السابق، وبالرغم من أن المكون القبلي بالحدود يخضع لهيمنة من المخابرات الحربية ألا انها ليست هيمنة مطلقة، حيث كان ينازعها منافسة من الداخلية والمخابرات العامة سواء في إرساء الاستقرار وحل النزاعات أو في شبكات التجارة والتهريب عبر الحدود، وقد تخلص الجيش مؤخرًا من منافسة الداخلية بقانون تنظيم المناطق الحدودية، حيث نص على أن الجيش وحده هو المسؤول عن تأمين المناطق الحدودية وهو ما يسحب هذا من نفوذ الداخلية.
5- السيطرة على العقول من خلال وسائل الإعلام، وإن كان تقليديًا أن يكون رجال الأعمال أصحاب شركات الميديا الكبرى محسوبين أو مرتبطين بمصالح مع المخابرات العامة كنجيب ساويرس، حيث إن لديه ارتباطات عدة بالمخابرات من واقع أنه صاحب أول رخصة للمحمول بمصر، وكما قدمنا قطاع الاتصالات تهيمن عليه المخابرات العامة ومن واقع ارتباطه بمجلس الأعمال الفلسطيني وارتباطه بشبكة محمد دحلان، وهو تحدث عن هذا الارتباط علنًا حينما هاجمه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في حديثه مع الإعلامي وائل الإبراشي وارتباط مجموعة أوراسكوم (تيليكوم والعقارية) بمجلس الأعمال المصري الأمريكي وهي العلاقات التي تُشرف عليها المخابرات العامة، وهو ما يتكرر أيضًا مع محمد الأمين، فمحمد الأمين شريك بمجموعة عامر جروب للاستثمار العقاري والتي تشكل بدورها حلقة من حلقات التنافس بالأرض العقارية بين الجيش من جهة والمخابرات العامة ومجموعة رجال أعمال جمال مبارك من جهة أخرى، إلا أن تلك السيطرة بدأ الجيش بالمنافسة بها كما يوضح التسريب الأخير لعباس كامل وأحمد علي.
6- السيطرة على الحالة الدينية، وهنا نستطيع أن نقول بشكل أدق إن هذا ليس صراع بقدر ما هو توزيع للأدوارـ فبينما تهتم المخابرات العامة بالدور الذي تلعبه البعثات الأزهرية للعالم وخاصة بأفريقيا وذرع ولاء لطلبة العلوم الشرعية المبتعثين للأزهر خاصة أيضًا من أفريقيا، يهتم الجيش بالحالة الدينية بالداخل المصري، وقد صرح السيسي قبيل تولية الرئاسة أن تنظيم وتحديد دين المصريين هو من مهام رئيس الجمهوريةـ ويهتم الجيش أيضًا بإعطاء شرعية دينية لأعمال القتل التي يمارسها خارج القانون وظهر هذا بالفيديوهات الوعظية لمجندي وظباط الجيش من قبل أصوليين محسوبين على الدكتور علي جمعة، التي تحمل رسالة استحلال دماء معارضيهم شرعًا بوصفهم خارجين عن الحاكم الشرعي! بينما يتابع قسم النشاط الديني بأمن الدولة نشاط الدعاة المستقلين وتحديدًا الدعاة السلفيين، كما يتابع جهاز أمن الدولة أيضًا النشاط الكنسي وخاصة التبشيري منه والعكس أي الانتقال من المسيحية إلى الإسلام.
7- السيطرة على معايش الناس: فبينما يهتم الجيش بوضع ملفات كالضرائب والمرتبات والتأمينات والمعاشات تحت إشرافه المباشر، تهتم المخابرات العامة بشكل غير مباشر بحالة الاقتصاد الغير رسمي أو الاقتصاد الموازي، فتلك الحالة إنما وجدت بالأصل لتنفيس عبء بعض التزامات الدولة على شبكات موازية وكنموذج مختصر؛ فمجموعة غبور المرتبطة بشكل من الأشكال مع المخابرات العامة هي محتكرة استيراد وتجميع وبيع “التوك توك” بمصر وهذا مثال يمكن القياس عليه بغيره، ويهتم جهاز الأمن أو الداخلية بالشبكات المجتمعية المتكونة من الجمعيات التضامنية التي تنوب عن الدولة في توفير مجموعة متنوعة من الخدمات من المشاريع الصغيرة إلى الخدمات الصحية إلى الإعانات السكنية والغذائية .. إلخ، وظهر بوضوح مبكرًا منذ نهاية العام 2013 أن السيسي يطمح إلى “تجفيف منابع” الإخوان المجتمعية من خلال تصفية أي وجود لهم بالعمل المجتمعي وتسليمه إلى الشبكات التي شرع بتكوينها الدكتور علي جمعة والتي بدورها متداخلة مع الجهاز الأمني، كما يجب التنبه إلى أن الحزب الوطني السابق بالتنسيق والتعاون مع الداخلية كون شبكات تصل لكل قرية وكل شبر بمصر وتسيطر على منافذ توزيع الخبز والبوتوجاز، ولم يكن هناك منافس لتلك الشبكات إلا الشبكات التي شرع الإخوان بتكوينها بعد ثورة يناير بهذين الملفين تحديدًا، ولعل الأزمة بهذين الملفين حاليًا نابعة أساسًا من تفكيك كلا الشبكتين أي شبكة الحزب الوطني السابق وشبكة الإخوان.
8- ولكن هذا بدوره جزء من الصراع على المجتمع و”إعادة هندسته” كما استخدم هذا المصطلح الدكتور مصطفى حجازي مستشار الرئيس السابق المعين عدلي منصور، فهنا نقطة هامة يجب توضيحها وهي أن نظام عبد الفتاح السيسي ليس هو إطلاقا نظام مبارك أو امتداد له؛ فنظام مبارك أو من قبله نظام السادات كان فلسفته هو توزيع الجهد والمسؤوليات المطلوبة من الدولة وأعبائها على شركاء أو اتباع طالما يستطيع النظام السيطرة من أعلى على هؤلاء الاتباع، فتكون طبقة رجال الأعمال وتشبيكها بالقطاع الأمني بشقيه المخابرات والداخلية والسماح بشبكات أو اقتصاديات الفساد المختلفة والسماح بالعمل المجتمعي للإسلاميين والسماح بشبكات التهريب وأدوار بديلة للمكون القبلي في القضاء العرفي وتوزيع الثروة من خلال القبيلة بالمناطق الحدودية والاقتصاد الموازي، كل هذا كان لتحميل أعباء ومسؤوليات الدولة على شركاء مرتبطين عضويًا بالنظام الحاكم فبالتالي يسهل السيطرة والحوكمة عليهم، بينما مشروع السيسي الذي يبشر به هو أن هذا الوضع كان وضع فوضوي ومن ثم يجب إعادة هندسة المجتمع حتى يكون منظم بالدولة وليس هناك أي ولاء لأي فرد إلا للدولة فقط، ولا ينتمي لأي شبكة مصالح إلا بالدولة فقط، فبالتالي يجب تفتكيك ما ينظر إليه السيسي من فوضى الشبكات المجتمعية البديلة حتى لو توفر الدولة ما كانت توفره تلك الشبكات من احتياج المواطن المهمش! ويجب تفكيك فوضى الخطاب الديني واحتكاره فيما يشبه الكهنوت من المؤسسة الدينية الرسمية فقط، ويجب أن تُقاد حملة بسيناء لتأديب وإخضاع المكون البدوي هدفها تغيير التركيبة المجتمعية بألا يكون هناك أصلاً مكون بدوي! أو بعبارة أخرى إلغاء الولاء الثانوي للمواطن السيناوي لعشيرته ولا يكون لديه ولاء إلا للدولة فقط حتى ولو بالإكراه.
وللطرافة لعل الرئيس السيسي يعتبر هذا نوع من التحديث والحداثة مشابه لما فعله محمد علي عندما فكك الجماعات الوسيطة التي كانت سابقة لحكمه وأحال أدوارها للدولة، ولعل حديث الرئيس السيسي لجريدة المصري اليوم المطول وقتما كان وزيرًا للدفاع وقوله إنه يأتيه بالجيش أفراد شديدي التباين ما بين المتعلم تعليم أجنبي والأمي وما بين الفلاح والمنتمي للطبقة الوسطى العليا ثم يدخلون الجيش ومهمته تحويلهم “لمنتج” – استخدم السيسي هذا التعبير بنصه – ليس به أية اختلافات بينية أو تفاوتات وأن مهمة الإنقاذ التي يرى أن الشعب المصري استدعاه لها هي أن يطبق ما كان يفعله كقائد للجيش على مجمل مصر (بالرغم من أن غالبًا الرئيس السيسي لم يقرأ لكارل ماركس إلا أن مصطلح التشيؤ الذي استخدمه ماركس أو تحول الإنسان لمجرد شيء أو بالانجليزية objects and items هو عين ما عبر عنه الرئيس السيسي بحواره هذا).
والصراع مع الطلبة خاصة طلبة الأزهر كان أوضح نموذج لهذا بجلاء، بالرغم من أن الطلبة لم يدركوا هذا، فعندما كان هدف الطلبة هو إحداث إضراب عن الامتحانات الدراسية وتعطيلها وتجلى هذا بشعارهم حينها “لن نمتحن وزملاؤنا بالسجون” كان ما تريده الدولة متجلية بالجهاز الأمني هو إجبار وإخضاع الطلبة على الامتحانات وتصوير الطلبة وهم يؤدون الامتحانات ونشر تلك الصور بالإعلام، بالرغم من أن الداخلية طردت الطلبة بعد التقاط الصور! فليس هذا هو المهم فقد كان المطلوب فقط إظهار أن الدولة فرضت إرادتها وبهذا يرى نظام السيسي أنه قد حقق الانتصار بهذا التحدي!
9- وأخيرًا الصراع على الملف الخارجي والإقليمي، فبالرغم من أنه لا توجد تباينات كثيرة بهذا الملف ما بين الجيش والمخابرات العامة فلا يوجد اختلاف على النظرة لحماس أو إسرائيل أو العلاقة مع الخليج، ولكن الصراع هو من يقرر الكلمة الفصل، يمكن الرجوع الى حادثة محددة أعقبت ثورة يناير مباشرة حيث تم نقل الملفات الكاملة المتعلقة بالشأن السوداني وملف انفصال جنوب السودان الذي يعد بأحد جوانبه فشل للمخابرات العامة إلى وزارة الخارجية، حيث إن وزارة الخارجية قبل الثورة مباشرة كادت أن تصبح مجرد سكرتارية للمخابرات العامة في تقرير السياسة الإقليمية والدولية بمصر وساعد بهذا تولي أحمد أبو الغيط – الذي هو بالمناسبة عديل لمدير المخابرات الراحل عمر سليمان – الوزارة.
هذا يمكن أن يكون حصر بجميع الملفات محل النزاع أو التوتر بداخل الدولة العميقة وبناء عليه يتم طرح رؤية لتكوين شبكات تقوم بهذا التحدي يمكن أن نطلق عليها “الثورة العميقة”.