بعد زيارة قصيرة إلى إيران، وخلال احتفالها بالثورة الإسلامية، ليس لدي الكثير من الكلمات لأقولها سوى أني فُتِنت بدولة كل ما وصلني عنها أنها “دولة متعصبة وإرهابية”!! في زيارتي اكتشفت أن إيران بلد يختلف تمامًا عما يسوقه الإعلام في الفضائيات العربية، ورغم الانتشار الكثيف للشرطة والقوات العسكرية في أغلب الأماكن العامة، اكتشفت وأنا أجوب الطرقات أني في وطن مستقر، بعيد عن الهزات التي تجتاح المنطقة.
في إيران وجدت أن الناس فخورون بكونهم شيعة، وعلى عكس ما انتظرت لم يظهروا أي عداء لأهل السنة ربما من باب التقية أو ربما لقناعتهم بأن معادة السنة تضر سياحتهم وتأثر على اقتصادهم، لكنهم لا ينكرون وجود الكثير من الاختلافات والخلافات بين الطائفتين، ويسوقون إلى أن الاختلاف رحمة، كما يعتقدون أنه على المسلمين التوحد ونبذ الفرقة للتصدي لأعداء الإسلام من الذين يسمونهم بالتكفيريين أو الصهاينة والأمريكان أيضًا.
في خلال تجوالي في إيران مررت بمدينة غاية في الجمال، إنها أصفهان، في هذه المدينة، شعرت أنني أقف على أعتاب مدينة عربية، في أصفهان كل شيء يشبه ما كان موجودًا في المدن العربية التقليدية، ولفت انتباهي أن كل مُنتَج يتم عرضه في هذه المدينة الفارسية يأخذك إلى حضارة وتاريخ الفرس القدامى فلا منتجات صينية مقلدة ولا منتجات دخيلة على حضارة البلاد.
ومع ذلك، لا شيء في إيران يوحي بأنك على أرض وطن يعيش لخمسة وثلاثين عامًا في ضل ثورة غيرت نظام الحكم وفي بلد خاض حربًا لسنوات مع جاره العراق أرهقت البلدين، كما أنك لا تدرك البتة أنك في وطن تحت الحصار، في المقابل تشعر أنك في دولة وقفت في وجه أمريكا التي تعد شرطي العالم، ربما هذا الظاهر لأن للسياسة ألعابها خفية، لكن على الأقل يشعر الإيرانيون أنهم تحدوا الولايات المتحدة وذلك مصدر اعتزاز إضافي لهم إلى جانب الاعتزاز بالحضارة الفارسية الضاربة في القدم.
أما في طهران فيمكن للزائر أن يستنشق عبق الثورة حيثما حل، عبق لايزال يفوح في سماء العاصمة حتى بعد مرور 35 عامًا، الثورة لاتزال موجودة حتى اليوم في قلوب وعقول الإيرانيين، في ايران لا يُنظر للثورة على أنها حدث تاريخي كان غايته التغيير والإصلاح، إنهم ينظرون للثورة من زاوية كونها حدث مقدس وكون زعيم الثورة روح الله الخميني إمامًا وسياسيًا مقدسًا، إنهم يعتبرونه الشخص الذي وضع حدًا لعذابات الناس، والشخص الذي وضع حدًا للتمييز والتفرقة.
وأنا أتجول في شوارع طهران اكتشفت أن كل الشوارع تقريبًا تحمل أسماء الشهداء، إنهم شعب آمن بثورته وكرّم شهداءه وخلد ذكراهم، خط أسماءهم على الشوارع والأنهج والأزقة كي يبقوا راسخين في أذهان الأجيال المتعاقبة، ليس الشهداء الإيرانيين فحسب بل حتى أولئك الذين استشهدوا في العالم من أجل القضايا العادلة في نظر قادة إيران.
فعلى سبيل المثال، هناك شارع يحمل اسم خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس المصري أنور السادات، والذي تم شنقه في مصر وتعتبره السلطات المصرية أحد رؤوس الإرهاب، لكن إيران تعتبره شهيدًا لأنه اغتال السادات الذي لم يدعم الثورة الإسلامية في إيران بل أكثر من ذلك فقد وفر لمحمد رضا بهلوي الشاه الإيراني الأخير الذي قامت ضده الثورة اللجوء السياسي والملجأ الآمن، كما قام بتطبيع العلاقة السياسية مع إسرائيل، وهو ما اعتبرته إيران معاداة لثورتها.
كما تجد في طهران شارعًا يحمل اسم عبد الحميد كشك الداعية المصري الأكثر شهرة، وهو من بين أكثر الأشخاص تأثير في تاريخ “الدعوة” والذي تبني الإسلام منهج حياة في العصر الحديث، كان كشك قد عارض سياسة عبد الناصر، وعانى ويلات السجن رغم كونه ضريرًا، وأرهق نظامي عبد الناصر ومن بعده السادات من خلال خطبه التي لاقت رواجًا واسعًا في صفوف الشباب المتحمس، واعتبرته إيران رمزًا لأنه تحدى نظامين معاديين للإسلام الذي تتبناه إيران الثورة كمنهج حكم.
ولا يمكنني أن أنسى أن هناك شارعًا في طهران اتخذ اسم راشيل كوري، راشيل كوري الفتاة الأمريكية التي كانت ناشطة سلام مؤيدة للفلسطينيين وهي عضوة في حركة التضامن العالمية (ISM)، راشيل كوري التي سحقتها جرافة إسرائيلية كانت بصدد هدم منازل الفلسطينيين في قطاع غزة زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وشارع يحمل اسم راشيل كوري يرمز إلى أن إيران دعمت كل حركات السلام والتضامن في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن الجنسيات والانتماءات والديانات.
ولم يفتني أن أسير في شارع يحمل اسم الشهيد عماد مغنية، عماد هو عضو بارز في حزب الله اللبناني وأحد العقول المدبرة للحزب، كما تشير بعض التقارير الإخبارية أن عماد مغنية يمكن أن يكون من بين مؤسسي حزب الله في عام 1980، وبالنسبة لكثير من الناس هناك يعتبر مغنية أسطورة مخابراتية وأمنية، وقُتل عماد في 12 فبراير 2008 بسيارة مفخخة انفجرت في دمشق بسوريا.
في طهران، كل شارع يُحدِثك عن قصة كفاح ومقاومة، قصة مجد وكرامة، وقصة نصر أيضًا، في طهران يمكنك أن تأخذ الكثير من الدروس من دون حضور أي دورة تكوينية ومن دون دخول أي صف، طهران هي على حد سواء ومصدرًا للإلهام ومدرسة واسعة يتعلم فيها الإيرانيون معنى الثورة.
إن من يريد حقًا أن يتحدث عن دولة وشعب التحما للحفاظ على أسس ومبادئ وأهداف الثورة لا يسعه إلا أن يزور إيران، وككل ثورة لابد من ضحايا ومضطهدين، كما لابد من خونة وغادرين، والأكيد أن صمود الثورة الإيرانية لهذه المدة لم يتأت من فراغ، بل على العكس كان الطريق طويلاً وكانت الدولة العميقة شرسة ومتنفذة، واليوم ترى الإيرانيين من أشد شعوب المنطقة تقدمًا وعلمًا رغم الحصار.
لا شك أن إيران لن تكتفي بتقوقعها على نفسها بما لها من مخزون بترولي، وترسانة عسكرية ودعم روسي صيني، ومذهب شيعي يسوقون من خلاله انتسابهم لآل بيت النبوة، فتجاوزت إيران رقعتها الجغرافية رغم امتدادها، وأصبحت لها أذرع في الشرق الأوسط بأسره فبعد حزب الله في لبنان، برز الحوثيون في اليمن، وتحرك شيعة القطيف في السعودية، والشيعية أيضًا يخوضون معركة شرسة مع النظام في البحرين، كما أن لهم حضور في مجلس الأمة الكويتي ولهم حضور في تونس وجريدة ناطقة باسمهم “الصحوة”، فهل هذا التوسع أساسه الطائفي أم أن المواطن مل من عمالة أنظمة تدّعي السنية، دون أن تقدم لشعوبها أيًا من مبادئ أهل السنة؟