الشعب السوري اليوم هو غير الشعب السوري قبل عام 2011، على الأقل في تشكيلته والتحولات الهائلة التي طرأت عليه، والتي كانت سريعة جدًا لدرجة أننا قد لا نستوعبها ولا ندرك أننا مررنا بها إلا بعد مضيها، صحيح أن التوصيف قد لا يسعف في ظل تغيرات ضخمة مازالت تجري، ولكن لا بد من قراءة ولو أولية تتيح لنا معرفة التوجه، عن طريق تتبع نقاط معينة خلال تلك المسيرة الطويلة.
إن التفاعلات بين أبناء البقعة الواحدة ضمن قيم وضوابط مشتركة معلومة لهم (الثقافة) هو ما يجعل منهم مجتمعًا له خصائص يتميز بها عن غيره، ونعبر عنها بشبكة العلاقات الاجتماعية، وغياب ذلك يعني فناء ذلك المجتمع – وليس أفراده – أو إعادة تشكيله ليقوم محله مجتمع آخر، فهل مازالت شبكة العلاقات ضمن المجتمع السوري فعالة؟ وإذا كان الجواب لا فمالذي نتج عن ذلك؟
في توصيف واقعي للمجتمع السوري نجد أنه ينقسم جغرافيًا أو بناء على مناطق النفوذ إلى خمسة أقسام: إما مهاجر إلى دولة بعيدة يستعيد فيها حياته أو لاجئ في المخيمات يعُدّ سنوات ضياعه، أو نازح إلى مناطق يسيطر عليها النظام، أو مقيم في مناطق يسيطر عليها البغدادي، أو صامد في أرض محررة منهكة من القصف! هذا التقسيم الذي فرضته الأحداث الأليمة المتتابعة، ضرب تلك الشبكة الاجتماعية في صميمها أو على الأقل جعلها أجزاءً، ولو امتد الأمر فإن كل قسم من هذه الأقسام قد يرسم ملامح مجتمعات آخرى يحمل كل منها سمة معينة تميزه عن غيره.
أما القسمين الأولين فلا تأثير لهما على سير المعركة، فالمهاجر خرج من الصراع واللاجئ متأثر لا مؤثر، وأما الشعب ما بين الأسد والبغدادي فهو بين استبداد ديني واستبداد طائفي، مغلوب على أمره مسير بالسيف لا إرادة ولا قرار، والشعب في هذين المكانين يُعيد تشكيل نفسه بناء على الواقع الذي يعيشه والعناصر الخارجية التي أُضيفت إليه.
فالبغدادي يحكم تلك المناطق بسلطة مطلقة ذات أديولوجية واحدة تتحكم في كل صغيرة وكبيرة، وتفرض على الناس حتى آراءها الفقهية التي ما اتفق العلماء عليها في يوم من الأيام، وتصوغ المجتمع ضمن قالب واحد يخدم طبيعة الدولة التوسعية، بالإضافة إلى العزلة التي يفرضها طبيعة الفكر المؤسس لهذه الدولة حتى مع المسلمين، وهناك أيضًا المهاجرون إلى تلك المناطق، وهم من أصحاب الفكر الديني الأحادي المغالي، وأعدادهم ليست بالقليلة إضافة إلى أنهم متنفذون ولهم تأثير على القرار، كل هذه العوامل تعيد مع مرور الزمن تشكيل المجتمع في تلك المناطق ليأخذ شكلاً غير الذي نعرفه، قد لا يكون محبذًا عند معظم المسلمين ناهيك عن بقية العالم.
أما مناطق نفوذ النظام فهي صورة لا تختلف كثيرًا عما كانت عليه سوريا قبل الثورة عدا عن الكثافة السكانية الضخمة بسبب النزوح، بالإضافة إلى ما يمكن اعتباره خلل في التركيبة السكانية بسبب غياب فئة الشباب إما بسبب الهجرة أو المشاركة في القتال أو خروجهم إلى المناطق المحررة أو المخيمات هربًا من التجنيد الإجباري، والمجتمع – و لا أعني الأفراد – هنا محيَّد عن الصراع كله، مضطر للنأي بفسه عن كل شيء، يكفيه في ظل فوضى الدماء تلك أن يحافظ على وجوده!
أما المناطق المحررة والتي تتوزع بشكل مفرق على معظم مناطق سوريا عدا الشرقية منها، فهي تمثل بؤر يتنفس من خلالها – على الرغم من علاتها – كل من يؤمن بالثورة وينشد الحرية، وهي التي تمثل محور الصراعات الفكرية والمخاض العسير التي تمر به سوريا، والتي تتم من خلالها مراجعات للتيارات السائدة – خصوصًا الإسلامية منها – ليس في سوريا فحسب وإنما في العالم أجمع، وتتجلى هنا التغييرات الحقيقية التي يمر من خلالها المجتمع السوري خلال ثورته، عن طريق معاناته وثورته وصراعه ليس مع النظام فحسب وإنما مع النظام العالمي الفاسد كله، ويظهر ذلك جليًا بفضل هامش الحرية – على تفاوته – الذي تعيشه تلك المناطق على الأقل فيما يخص الجانب الاجتماعي والفكري، والتي تبدو للبعض فوضى، ولكنها على الأقل تسمح بذلك التدافع المحمود.
والمناطق المحررة هي الملعب الذي تدور من خلاله المؤامرات الدنيئة للدولة ذات النفوذ، وهي أيضًا البطاقة الرابحة بيد الثوار والتي ستحسم المعركة إما للثورة أو عليها، هذه الأشكال المختلفة والمتنوعة وصراعها هي المخاض الذي سينجلي عنه عقل سوري جديد يكوّنه المجتمع كيفما يناسبه، فيقرر ما يريد ويصوغ حياته بالشكل الذي يراه أليق به!
ليس ما ذُكِر هنا توصيف دقيق للواقع، فذلك بحاجة لإحصاءات وبيانات تصف الواقع بتفاصيله، ولكنها محاولة لتسليط الضوء على جزء مهمَل مهم، فلا بد من معرفة مسار التغيير الذي يمر به المجتمع وأن ندرك موقعنا منه، فالمجتمع الذي بدأ الثورة هو غيره الذي يخوضها الآن، لقد صقلت هذه الأحداث الجسام عقلية المجتمع وفرقته تلك الأفكار التي تغلغلت فيه، ولا بأس في ذلك ما دمنا واعين مدركين لما يحدث ونتعامل مع ذلك بواقعية منصفة، لا بناء على صورة مثالية مزروعة في أوهامنا، يجب أن نقبل بحقيقة أن المجتمع يتغير ويمضي في حركته وأن الثورة حركة مضاعفة السرعة، فإما أن ندركها أو يفوتنا القطار.