استطاعت تونس على عكس دول الربيع العربي أن تمتص إلى حين موجة الارتداد العاتية بأن احتكم شعبها ونخبها إلى السياق الديمقراطي لحسم الخلافات والتناقضات الكبيرة التي كادت أن تعصف بالمشهد برمّته.
سياق ديمقراطي مضن امتد على ثلاثة أشهر شهدت فيها تونس انتخابات برلمانيّة ودورين للانتخابات الرئيسية انتهت بإعادة تشكيل المشهد السياسي الذي أفلت فيه قوى سياسية كانت إلى الأمس القريب في سدة الحكم، وظهرت فيه أخرى كانت إلى الأمس القريب مجرد عناوين لا غير.
هذا التغيير على مستوى موازين القوى يفرض بالضرورة تحيينًا لعناوين الصراع السياسي المحكومة بالسياقات التاريخية والمستجدات الظّرفية التي قد تخلق، كما علّمنا التاريخ، تقاطُعات ظرفية بين المتناقضات فتؤلّف بين الأعداء وتُفرّق بين الأخلّاء.
نُحاول في هذا التقرير استقراء محاور الصراع المُنتظرة على ضوء ما أفرزته نتائج الانتخابات الأخيرة.
صراع اليسار – يسار
عندما نُحاول تفكيك المشهد اليساري في تونس، نخلُص إلى وجود کتلتین کبیرتین وهما أقصى الیسار أو الیسار الأیدیولوجی (استماتة أيديولوجية في علاقة بالموقف الحاد والرّافض للتعاطي مع كل ما هو إسلامي)، بالإضافة إلى كتلة اليسار الاجتماعي أو يسار الوسط والتي تضم أحزابًا يسارية مُتحرّرة من العقدة الأيديولوجية في علاقة بالتيار الإسلامي وتُركز اهتماماتها على القضايا الاجتماعية من عدالة اجتماعية وفئات محرومة ومناطق مهمشة .. إلخ.
انتخابات 2011 كانت بمثابة الصدمة الحقيقية لليسار الأيديولوجي الذي تحصل على نتائج جد ضعيفة لم تعكس انتظارات رجالاته خاصة وأنه كان ضمن الفعاليات التي واكبت الحراك الثوري منذ اندلاعه، كما أن التاريخ سجل لبعض رموزه مواقف مُشرِّفة في علاقة برفض دولة الاستبداد والنّضال من أجل الحريات، صدمة دفعت العقول المُفكّرة داخله إلى إعادة طرح فكرة جمع اليسار في كيان سياسي مُوحّد رغم الاخفاقات السابقة، وفعلاً تمّ إيجاد صيغة توليفية تمثّلت في جبهة سياسية انتخابية حفظت لكل حزب استقلاليته المادية والتنظيمية وأفرزت آلية تنسيق بينها وهي “مجلس الأمناء” الذي سهر على توحيد المواقف السياسية والتحركات الميدانية بين هذه الأحزاب تحت يافطة “الجبهة الشعبية” كأول اجتماع شبه هيكلي بين أحزاب أقصى اليسار.
بالإضافة إلى مُعطى التوحد السياسي والانتخابي، استثمرت الجبهة الشعبية حادثة اغتيال قياديين من صف قياداتها الأول وهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي لكسب تعاطف وتضامن فئات واسعة من الناس، كما أحيت آليات استقطابها للفئات العمرية الصغيرة عبر “الجبهة التلمذية” وهي هيكل نقابي تلمذي أُنشئ داخل المعاهد الثّانوية وساهم طيلة سنتين ونصف في اقتحام مساحات شعبية كانت عصية على هذا التيار الأيديولوجي مُستفيدة من تعطّش هذه الفئة العمرية للانخراط الفاعل في الشأن العام .
كُلّ ما سبق مجتمعًا انعكس على نتائج انتخابات 2014 التي بينت تطورًا هامًا لشعبية أقصى اليسار على حساب يسار الوسط الذي مُني بهزيمة قاسية في طعم الاضمحلال فغابت أحزاب مثل الجمهوري والتكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية عن المشهد السياسي الجديد، أو كادت.
هذا المشهد الجديد في الشق اليساري للساحة السياسية التونسية يُحيل على صراع مُقبل بين أقصى اليسار الذي طورآليات عمله والذي يسعى للهيمنة على الكتلة الانتخابية اليسارية الاجتماعية كاملة، وبين اليسار الاجتماعي الذي شرع حسب الكواليس في مُحاولات توأمة وانصهار بين مُكوناته الحزبية بهدف تحقيق التوازن وصد مد الجبهة، صراع تخوضه الجبهة الشعبية بروح التوسع والامتداد الشعبي ويخوضه الطّرف الآخر تحت عنوان البقاء.
صراع النظام القديم – الاتحاد العام التونسي للشغل
الاتحاد العام التونسي للشغل منظّمة نقابية عريقة وتضمّ أغلب القطاعات المهنية في البلاد، ورغم مُهمته النقابية الصرفة، لعب خلال فترة حكم الترويكا (حكومة ما بعد الثورة في تونس) دورًا سياسيًا بأن قوض مجهودات البناء والاستدراك الاقتصادي بعدد مهول من الإضرابات عنوانها مطلبيّ وصميمها سياسي يهدف لإفشال حكومة حركة النهضة.
رغم كونه مُنظّمة وطنية، إلا أن العارفين بخبايا المشهد التونسي يتحدثون عن كونه مُخترق من طرف الجبهة الشعبية ذات التاريخ الطويل في النشاط النقابي، اختراق ساعد الأخيرة، رغم ضآلة حجمها السياسي إبّان انتخابات 2011، في دفع المنظمة الشّغيلة إلى صراع بالوكالة كبّل الحكومة وأرهق الاقتصاد الوطني ما سبب تباعًا سخطًا شعبيًا تترجم عبر تراجع شعبية حركة النهضة، كسبب ضمن أسباب أخرى.
إضافة إلى ما سبق من تطويع النشاط النقابي لخدمة الأجندات السياسية، وإضافة إلى الحجم المُعتبر والوازن لهذه المنظمة الوطنية، مثّل الحوار الوطني (الهيئة الحوارية التي احتكم إليها غالبية الطّيف السياسي لحلحلة أزمة صيف 2013 عقب اغتيال البراهمي) نقطة تحول هامة في واقعها كلاعب أساسي في المُعادلة السياسية بل وحولها من عنصر مؤثر إلى عنصر محدد.
اليوم نداء تونس، الواجهة الجديدة للنظام القديم، مُكلّف بتشكيل الحكومة وقيادتها بحكم تحصّله على الكتلة البرلمانية الأكبر، حكومة انطلقت أول خطوات تكوينها بتكليف، الحبيب الصّيد، بترؤسها دون استشارة الجبهة الشعبية وهو ما سبب ردود فعل سلبية من جانبها، وحكومة أيضًا ستُشارك فيها حركة النهضة رغم اشتراط جبهة اليسار الأيديولوجي إقصاء حركة النهضة من تركيبتها للمشاركة فيها، وبالتّالي نحن إزاء توتر بين الحزب الحاكم وبين من بيده مفاتيح الاتحاد العام التونسي للشغل.
بحسب مُراقبين، استثناء الجبهة الشعبية من تشكيل الحكومة قد يُسرّع بالمواجهة بين الحكومة والدولة من جهة، وبين الجبهة الشعبية والمنظمة الشّغيلة من جهة أخرى، كما أنّ النظام القديم عندما ندرس تاريخه في علاقة بمثل هذه المنظمات نجد أنه الوحيد القادر على ترويضها بل حتى تدجينها (وهو ما لا نتمنّاه).
نداء تونس يُريد أن ينجح تجربته الحكومية والهدف انتخابات قادمة سيكون مدى نجاحه في إدارة شؤون البلاد عنصرًا مُحددًا لنتائجه فيها، نجاح لن تتوفّر عوامل تحقيقه إلا بإرجاع الاتحاد إلى حجمه الطّبيعي كمُنظّمة نقابية على مسافة واحدة من كلّ الأحزاب، أمر ليس بالسهل في ظل غضبة الجبهة الشعبية والمُنتظر أن تترجم إلى وابل من الإضرابات.
صراع صفريّ بين الاتحاد والنظام القديم في الأفق إذن، إمّا أن تكون نتيجته ترويض الاتحاد المُغتصبة إرداته بفعل الاختراق الحزبي، وإما أن تترسخ مقولة طالما رددتها قواعده “الاتحاد أكبر قوة في البلاد:.
الحرب الباردة بين حركة النهضة ونداء تونس
بات من شبه المُؤكّد مشاركة حركة النهضة في الحكومة التي يعكف نداء تونس على تشكيلها، مُشاركة سعى لها الطّرفان رغم اختلاف الحاجة، بين حزب أول يُريد تحييد وصيفه في سباق الانتخابات التشريعية الذي يعرف جيدُا كيف يُعارض خاصّة مع قُدراته التنظيمية وامتداده الشعبي الواسع، وبين حزب ثان يُريد أن يُطبّع مع دولة وأجهزة حكم ظلت عصية عليه لسنوات.
توافق بين الحزبين الأولين في تونُس فيما يخص الحكومة، لكنه يظل هشًا باعتبار ارتباطه بشخصية زعيم الحزب عند الطّرفين، وغياب أحدهما، سيُؤدي بالضرورة إلى تحويل هذا المسار التوافقي وتصريحات الوجوه اليسارية داخل نداء تونس خاصّة تُنبئ بصعوبة بالغة في هضم هذا التوجه.
رغم تعاضد جهود الحزبين في إنجاح عمل الحكومة القادمة، إلا أن الأوضاع الداخلية لكلا الحزبين ستمنع الهُدنة المرجوة، ومن المُنتظر أن تنشأ “حرب باردة” بينهما وهذا طبيعي باعتبار أن كلاهما سيٌفكّرا وهما في الحكم من أجل تحقيق كسب شعبي إضافي للاستثمار في الاستحقاقات الانتخابية القادمة (الانتخابات البلدية وانتخابات المجالس الجهوية) خاصة مع وجود تضارُب في المصالح والرؤى حول ملفات حارقة قد يكون من أبرزها مسار العدالة الانتقالية .
صراع الكل ضد الإرهاب
مثّل الإرهاب أحد أهم النقاط السوداء في مرحلة ما بعد انتخابات 2011، إرهاب تدرّج من القول إلى الفعل، وانتقل من الحاضرة إلى الجبال الوعرة، أين استوطن وتمترس مُستدرجًا قوات الأمن والجيش التونسي ليُلحق بها خسائر في البشر والعتاد .
ولئن ساهم التعاطي النموذجي لحكومة الترويكا مع هذه الظاهرة في منع تكوّن حاضنة شعبية لها بأن تدرجت في التعامل معها عبر دعوة “أنصار الشريعة” بداية إلى التنظم ضمن إطار جمعياتي وإلى تبنّي مسار مدني تحمي فيه الدولة حقها في التعبير طالما أنها لم تُؤذ الغير، ثٌم انتقل الزجر تدريجيًا تفاعلاً مع الخروقات التي قامت بها لتنتهي بإعلانها تنظيمًا إرهابيًا عندما توفّرت الحجة والدليل بأن هذا التنظيم بصدد تخزين الأسلحة وتهريبها نحو تونس وهو ما يتعارض مع أي مدنية ممكنة، رغم حرمانه (التنظيم) من لعب دور المظلومية وبالتّالي العجز عن كسب قطاعات واسعة من الشعب التونسي، إلا أنه نجح في تكوين بعض الخلايا النائمة التي أعلنت الحرب على الدولة عبر عمليات مُتناثرة تفتقد للنسق لكن كان لها تأثير كبير على الاقتصاد التونسي وعلى المزاج الشعبي العام الذي أصبح هاجسه الأوّل أمنه وأمانه.
ملفّ الإرهاب كان حاسمًا في الانتخابات الماضية، حسب دراسات مراكز الإحصاء وحدّد خيار جزء واسع من الناخبين، ورغم أنه كان إلى أيام قليلة ماضية ورقة للمُزايدة السياسية وللاستثمار الانتخابي، إلا أنه يتطلب توحد الاجتماع السياسي التونسي لمحاربته فكريًا وثقافيًا بالموازاة مع العمليات العسكرية، ورغم انصراف حركة النهضة عن استقطاب يمينها وتوجهها لزحام الوسط، الا أنها تبقى الأقدر على المُقارعة الفكرية مع هذا التيار الهدّام الذي يبني أطروحاته على فهم مغلوط للنّصوص الدينية، وهو ما يتطلّب ردًا من جنس المُرتكز الحجاجي الذي يُسوّقون به طرحهم في دوائر الهامش الشعبي .
عددنا في هذا التقرير أبرز محاور الصراع التي يُبشر بها المشهد السياسي الجديد في تونس، ما يُحيل إلى زخم كبير سيشهده مهد الربيع العربي، خاصة إذا ما فصّلنا في الصراعات الداخلية التي من المُنتظر أن يشهده مُختلف الفاعلين في الشأن العام من أحزاب ومُنظّمات وهو ما قد نُخصص له تقريرًا مُستقلاً.