في العام 1967، خلال الحرب التي هُزم فيها الجيش المصري والسوري والأردني على يد الجيش الإسرائيلي في 6 أيام فقط، بالإضافة إلى احتلال إسرائيل لأجزاء أخرى من فلسطين ومرتفعات الجولان في سوريا وشبه جزيرة سيناء، هزيمة ساحقة في العالم العربي خصوصًا في أيام كانت القومية والاشتراكية العربية في أوجها، فظهر فشلها وتخلى عنها الناس كنتيجة أولى للحرب، ثم تبع ذلك إحياء وانتشار للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، وبدا واضحًا أن الحل للمشاكل التي يمر بها العالم العربي هو العودة إلى نظام حكم إسلامي وترك الشعارات الفارغة للعلمانية والقومية والاشتراكية وغيرها التي بدأ ينظر إليها المسلمون على أنها السبب في الوضع المزري الذي وصلوا إليه.
إلا أن حرب 1967 لم تكن السبب الوحيد لانتشار الحركات الإسلامية، فقد كانت أكبر ثورة دينية في ذاك الوقت ثورة الخميني في إيران، ففي عام 1979 نجحت ثورة الخميني في إسقاط حكم سلالة بهلوي والتي كانت تحكم إيران لأكثر من نصف قرن، وقد كانت الثورة ردة فعل للسياسات التجديدية التي كانت تشهدها إيران في ذاك الوقت من بينها العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
لذلك تمثل السبعينات مرحلة هامة في تطور الحركات الإسلامية وانتشارها، ويعزى ذلك إلى الهزائم الحربية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كان يمر بها العالم الإسلامي في تلك الفترة، إلى جانب فشل الأنظمة العلمانية الموالية للغرب التي استحدثها الحكام العرب.
وقد سبق فترة السبعينات ظهور جماعات إسلامية من أبرزها جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي تأسست على يد حسن البنا عام 1928 لتصبح من أهم الجماعات الإسلامية/ السياسية، وتفرعت بعد ذلك إلى عدة دول أخرى مثل الأردن وسوريا وفلسطين، وقد كانت بدايتها بهدف الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي من منظور إسلامي شامل بدلاً من العلمنة وتبني الثقافة الغربية، إلا أنهم عانوا ككل الجماعات الإسلامية المشابهة لهم بقمع من الدولة في عصر جمال عبد الناصر بالتحديد، ثم كان دور الرئيس أنور السادات مهمًا في إعادة إحياء الحركة الإسلامية في مصر، فقام بتبني مظهرًا سياسيًا إسلاميًا داعمًا دستورًا يتضمن الشريعة كمصدر من مصادر التشريع في مصر، وأطلق سراح السجناء من الإخوان المسلمين.
فمنذ العشرينات أو ما يقاربها كانت الجماعات الإسلامية معنية بمحاربة الاستعمار ومحاربة السيطرة الغربية على المنطقة في محاولة لاسترجاع نظام حكم إسلامي، فقامت الجماعات الإسلامية بفكر مشترك هو أن الإسلام قادر على حل جميع مشاكلهم وأن العودة إلى نظام الحكم الإسلامي هو الطريق الصحيح، وجاء ذلك بشكل أساسي بسبب ما ألت إليه الأنظمة الإسلامية.
الأنظمة الدكتاتورية القمعية المدعومة من الغرب من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نشوء حركة إسلامية في معظم البلدان، فقد كان هناك ومازال شعور بالغضب تجاه هيمنة الغرب على الدول الإسلامية وتجاه الحكومات التي كانت مجرد واجهة للغرب يتم من خلالها فرض السيطرة على أسس الدولة السياسية والاقتصادية، وهذه السيطرة منذ السبعينات كانت من الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساسي، والتي ساهمت سياستها بشكل كبير في تشكيل المنطقة، وقد كان هناك ومازال أيضًا شعور بالغضب تجاه الحكومات الديكتاتورية التي فشلت في إعطاء المواطن حقه ولم تؤثر في شيء سوى إهلاك مواطنيها، بالإضافة إلى علمنة هذه الحكومات والتجديدات التي كانت موالية للنظام العلماني للغرب.
ثم هناك الاحتلال الخارجي والذي يتمثل بصورة أساسية في القضية الفلسطينية التي كانت دافعًا مهمًا لكثير من الجماعات الإسلامية القديمة والحديثة، بالإضافة إلى الاحتلالات الأخرى في العراق وأفغانستان والتي نتج عنها نشوء جماعات جديدة وفكر جديد في الحركات الإسلامية.
ويُعد الوضع الاقتصادي من أهم الأسباب التي تؤدي إلى نشوء جماعات متطرفة، فالتوزيع الغير عادل للاقتصاد وازدياد عدد السكان مع فشل الأنظمة في مواكبة احتياجات السكان وازدياد نسبة البطالة بالإضافة إلى أعراض أخرى كلها قد تدفع البعض إلى الانضمام إلى جماعات بعضها قد يكون متطرف في محاولة لحل الأزمة التي يعيشونها، ويساهم في ذلك نظام الرأسمالية والعولمة التي تعد من أخطر ما يواجه النظام الاقتصادي العالمي وهو المسبب الرئيسي لتوسع الفجوة المادية للسكان، فهو النظام الذي يعمل على زيادة الغني غنى والفقير فقرًا وإفادة شريحة صغيرة من المجتمع على حساب الأكثرية، وينظر إلى الرأسمالية على أنها استعمار جديد من قِبل الغرب لإبقاء الدول التي كانت مستعمرة من قبل تحت قبضتهم وضمان اعتماد هذه الدول على الغرب.
ولكن الحكومات العربية فشلت، أو معظمها فشل، في التعامل مع الجماعات الإسلامية، فالسياسات التي اعتمدوها تجاه تلك الجماعات كانت مما ساهم في زيادة التطرف، بل ربما كانت مما دفع إلى التطرف في الأصل، فكان دورها إما في دعم تلك الجماعات التي تنشر فكرها ليصبح ذلك لعبة السياسيين لخدمة مصالحهم وتوسيع نفوذهم، أو بقمع الجماعات ومنعها من الوصول إلى أي منصب أو مكانة سياسية فيما يعرف بالإسلام السياسي الذي يشكل خطرًا ليس فقط لبعض الدول الإسلامية (وهنا نقطة تتطلب تفكيرًا عميقًا لتفسير كيف يمكن للإسلام أن يمثل تهديدًا لدول إسلامية)، بل الإسلام السياسي يمثل خطرًا للعالم الغربي أيضًا، فمجرد أن يدرك الناس أن الإسلام لا يتنافى مع الديمقراطية وأن نظام الحكم الإسلامي، إذا ما طبق بطريقة صحيحة، فإنه يمكن أن يهدم الأنظمة الفاسدة التي تغلغلت في أعماق البلاد العربية ويعيد بناء نظام حكم راقي، هذا وحده كافي للنظر إلى الإسلام كتهديد خطير لكل الأنظمة الدكتاتورية في العالم التي تدعي الحكم بالإسلام.
والمملكة العربية السعودية من أكثر الدول التي تلعب على الطرفين: دعم الجماعات التي تنشر فكرها السلفي الوهابي، ومحاربة الجماعات المعتدلة التي قد تقلل من هيمنتها ومكانتها في العالم الإسلامي كحامية الحرمين الشريفين.
وكان دور السعودية في دعم المجاهدين في أفغانستان خلال الحرب مع الاتحاد السوفيتي التي دامت 10 سنوات من 1979 إلى 1989 هامًا جدًا، حيث كانت السعودية في ذاك الوقت تُرسل الدعم المادي والعسكري عبر باكستان وبإعانة من الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، كما شجعت مواطنيها على الجهاد في أفغانستان، ولم يكن ذلك إلا لنشر الفكر الوهابي هناك للقضاء على الفكر الشيوعي، ومثّل الجهاد في أفغانستان مرحلة مهمة في تطور الجماعات الإسلامية، فقد شارك في الجهاد آلاف الأشخاص من عدة دول عربية، إلا أن الحرب خلفت مجموعة كبيرة من الأشخاص المدربين على القتال والذين يحملون أفكارًا متطرفة عادوا بها إلى بلادهم.
ثم عادت لتدعم جماعات متطرفة في البوسنة لتنشر فكرها هناك، وقد بلغ عدد الإعانات المرسلة لدعم الجهاد في البوسنة 373 مليون دولار، وكان هناك العديد من المؤسسات الدينية التي كانت تقوم بتوزيع الكتب ذات الطابع الوهابي السلفي.
ويُعد تهميش الإسلاميين وقمعهم ظاهرة في جميع الدول العربية، وخصوصًا بعد اتجاه معظم الحكومات نحو العلمنة وتبني سياسات تجديدية موافقة للسياسات الغربية، فأصبحت الجماعات الإسلامية وبالتحديد السياسية – أي الإسلام السياسي – مصدر تهديد لهذه الحكومات حتى قبل انتشار اللجوء للعنف بين الجماعات، وقد يكون القمع لبعض الجماعات هو الذي دفع إلى اللجوء للعنف، فكانت هناك الكثير من المحاولات من تلك الحكومات لمنع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة خوفًا من أن تنتشر الحركات الإسلامية بعد ذلك.
ففي الجزائر عام 1991 خلال الانتخابات البرلمانية الأولى للبلاد كان فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية المقاعد صدمة كبيرة، إلا أن الانتخابات أُلغيت بعد ذلك من قِبل الجيش الذي قام بسجن قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ دافعًا البلاد إلى حرب أهلية بعد أن قامت الجماعات الإسلامية بتشكيل معارضة سلاحية أدت إلى اشتباكات مع الجيش.
وبعد ثورات الربيع العربي وإطاحة الأنظمة القديمة التي عمَرت لثلاثين أو أربعين سنة وفتح الباب للإصلاحات والتغييرات السياسية، وجد الإسلاميون في ذلك فرصة للحصول على مناصب سياسية، ففي مصر صعد الإخوان المسلمون إلى الحكم بطريقة شرعية ودون اللجوء إلى العنف مطلقًا إلا أنه وبعد سنة من ذلك تم نزعهم من السلطة في انقلاب عسكري، ودخلت البلاد إثر ذلك في انقسامات وتظاهرات نتج عنها مقتل العديد من المواطنين، واتضح أن السعودية والإمارات العربية كانوا من الممولين لهذا الانقلاب خوفًا، كما ذُكِر، من انتشار صدى الإسلام السياسي لبلادهم وللمناطق المجاورة.
وفي ليبيا يرجع تهميش الإسلاميين إلى الأربعة عقود تحت حكم القذافي، فبالرغم من وجود عدة جماعات إسلامية إلا أنه كان يجري قمعها ومنعها من المشاركة في الوسط السياسي، والثورة في ليبيا في عام 2011 سمحت للإسلاميين بالانخراط في الوسط السياسي بل وعملت على تقويتهم عندما وجدوا لأنفسهم الفرصة للتشكل وجمع الدعم، والواقع أن معظم المنضمين للجماعات الإسلامية مثل الجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا كانوا من المجاهدين في أفغانستان والشيشان وغيرها من البلدان، ثم جاء تدخل حلف الناتو الذي ساهم في دفع الميليشيات إلى الساحة.
فهذه السياسة التي اتبعها العالم العربي من استغلال للحركات الإسلامية من طرف أو محاربتها من طرف أخر لم تكن لتؤدي إلا إلى نشوء جماعات متطرفة أو اتجاه بعض الجماعات إلى التطرف، ولا شك أن هناك عوامل أخرى كثيرة إلى جانب ذلك، فهي مجموعة من العوامل التي تراكمت بعضها على البعض، إلا أن دور العالم العربي كان ومازال عاملاً مهمًا يجب النظر فيه، وهو لا يدري أنه بذلك يهلك نفسه بنفسه.