المشهد التونسي ورهانات المرحلة
انطلاقة دون قيادة
لم يكن الحراك المجتمعي في تونس وكذلك العربي بدعًا من الفعل ولم تكن الثورة التونسية بالحدث المفاجئ بل كان متوقّعًا ومحتملاً، ولكن بقي السؤال متى وبأيّ شكل.
انطلقت الثورة التونسية بنسق بطئ ودون رؤية واضحة في مآلاتها، تحرّك الشعب دون رأس يقوده أو يرسم له خارطة طريقه، فتداعى الجميع إلى شعارات الثورة والتحق الكل بالشارع في شمال البلاد وجنوبها في شرقها وغربها، وكان صوت الثائرين صدّحًا مناديًا بإسقاط النظام في تعبير واضح وشعار أغرى الشعوب العربية جميعها “الشعب يريد إسقاط النظام”.
سقط رأس النظام إلى غير رجعة وبقي نظامه، ولكن مترهّلاً عاجزًا غير قادر على الصمود أمام الشعب الذي نفض عنه لباس الخوف وتحرر من حقبة الاستبداد واستهلّ تاريخًا جديدًا ومرحلة جديدة من مراحل التغيير والتأسيس.
المرحلة التأسيسية
دشن الشعب التونسي مرحلة التأسيس من خلال انتخاب “المجلس الوطني التأسيسي” بعد المرور بمرحلتين انتقاليتين: الأولى كانت مع حكومة محمد الغنوشي آخر وزير وزراء حقبة بن علي، والثانية كانت مع الباجي قايد السبسي الذي اشتغل في عهد الحبيب بورقيبة وكذلك بن علي.
تميّزت المرحلتان بالتردد والشك وضعف اليقين من تأمين المستقبل من عودة رموز النظام القديم إلى سدّة الحكم والردّة عن شعارات الثورة (المجلس التأسيسي وصياغة دستور جديد للبلاد)، وعلى الرغم من هذا التوجس يمكن أن نسوق ملاحظة في هذا الصدد وهو أن جهاز الدولة طوال فترة الثورة وأحداثها المتقلبة بين اشتباك المشهد أحيانًا وهدوئه أحيانًا أخرى، ظل هذا الجهاز في حالة اشتغال ولم يتصدع دوره، بل حافظ على اشتغال فروعه المركزية والجهوية والمحلية بأقدار مختلفة، ويمكن أن تتباين التقييمات لطبيعة هذا الدور، ولكن لا يمكن أن ننكر أن جهاز الدولة ساهم في تأمين المرحلة الانتقالية.
وصلت البلاد إلى يوم 23 أكتوبر 2011 وهي المحطة الانتخابية التي انبثق عنها “المجلس الوطني التأسيسي” أحد أهم مطالب الثورة، ثم اكتمل المشهد بانتخاب رئيس للبلاد من داخل المجلس التأسيسي، ثم تشكيل الحكومة وبالتالي اكتمال المشهد السياسي في إطار الشرعية الانتخابية.
واجه المشهد السياسي التونسي عدة إحراجات طوال المرحلة الانتقالية وتعرض للعديد من الضغوط والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية وكذلك الأمنية، مما تطلّب حزمة من المفاوضات والتوافقات وكذلك التنازلات سواء بين الحكام الجدد أنفسهم أو بينهم وبين بقايا النظام القديم.
لم يكن حجم التحديات سهلاً أمام الوافدين الجدد لقيادة المرحلة الانتقالية، والتجاذبات كانت حادة جدًا إلى درجة الانفلات وخروج المشهد عن السيطرة وتمثّل ذلك في أحداث جبل الشعانبي الإرهابية التي راح ضحيتها عدد من الجنود، بالإضافة إلى الاغتيالات السياسية التي أزّمت المشهد ورفعت درجة الاحتقان إلى المطالبة بحل المجلس التأسيسي وتعطيل الحياة السياسية بالكامل وذلك في صائفة 2013، وينضاف إلى هذا حرص القوى المضادة على استعادة مواقعها والتشبّث بمصالحها في الوقت الذي انشغلت فيه قوى الثورة بمعارك جانبية ومناقشة تناقضاتها وعدم انسجامها في قيادة المرحلة.
هذا التشويش وهذا التناقض الحاد بين الفاعلين السياسيين أتاح الفرصة للقوى المضادة أن تجمع شتاتها وتوحد صفها وتستعيد دورها في إدارة الأمور، ولكن بأقدار محدودة خاصّة بعد النجاح النسبي الذي حققته الثورة التونسية في ترسيخ أقدامها على الصعيد السياسي وبناء المؤسسات الانتقالية التي فوّتت الفرصة على القوى المضادة من إمكانية استغلال الفراغ السياسي والدستوري الذي مرت به البلاد لمرحلة وجيزة.
ما بعد المرحلة الانتقالية
طوت تونس المرحلة التأسيسية بعد كتابة دستورها وسن قانون العادالة الانتقالية وتثبيت مناخ يسمح بالتعددية وممارسة مختلف الحريات، ولكن في ظل كل هذا يُبدي عدد من المتابعين للشأن التونسي التونسي العديد من التحفظات والمخاوف بشأن مستقبل الحريات في البلاد خاصة أمام عودة رموز النظام القديم إلى المشهد السياسي وهذه المرة من باب الانتخابات وبالطرق الشرعية.
وهذا المعطى الجديد الذي أفرزته انتخابات أكتوبر 2014 فرض موازنة جديدة لدى الأحزاب السياسية وتغيّر واضح في خطابها، حيث كنا نسمع خطاب من قبيل “لا لعودة النظام القديم” وبعد الانتخابات تحوّل المعنى وتحولت النبرة إلى “عدم التغوّل” و”لا لحكم الحزب الواحد والرجل الواحد” في إشارة إلى حزب “نداء تونس ” الفائز في الانتخابات التشريعية وكذلك الرئاسية.
لعل هذه الشعارات وهذه الأصوات وجدت صدى لها عندما اختار الباجي قايد السبسي رئيس حزب نداء تونس تكليف شخصية من خارج الحزب لتشكيل الحكومة المنتظرة التي لم تتوضّح معالمها بعد ومازال مخاض تشكيلها معقّدًا ولم يتم الإفصاح عن شخصياتها حتى الآن.
ما بعد تشكيل الحكومة
ما يميز المرحلة الانتقالية عمومًا هو حالة الخوف والتردد والارتباك وتضارب الأولويات وتعدد السيناريوهات وكثرة الاختلافات والتجاذبات، فالمرحلة الانتقالية عادة ما تكون مرحلة تداخل بين البرامج الحينية والإستراتيجية، تتضارب فيها المصالح وترتفع حدة التناقضات بين التشكيلات الحزبية والعائلات الفكرية والأيديولوجية، وحتى مع انتهاء المرحلة الأولى من مراحل الانتقال والتأسيس وبناء الهيئات والمؤسسات الدستورية والوصول إلى مرحلة تشكيل حكومة وتوفير مناخ الاستقرار السياسي والاجتماعي، إلا أنّ هذا الاستقرار يبقى نسبيًا وهشًا؛ لذلك تحتاج المرحلة الانتقالية إلى مرحلة تعقبها وعنوانها الأبرز “تثبيت الحريات وتدعيم الديمقراطية وترسيخها”، لأن المراحل الانتقالية عمومًا مراحل هشة ومعرضة للاختراق والارتداد عن مكاسبها وخاصة مكسب الحرية وهذا ما أثبتته عدد من التجارب السابقة، لذلك فإن المرحلة الراهنة تتطلّب يقظة من طرف جميع مكونات الشعب سواء الأحزاب أو المجتمع المدني، حتى يكون الحارس والمدافع عن كل المكاسب التي جناها خلال المرحلة السابقة، فالعبرة من الثورة والحراك المجتمعي عمومًا ليس فقط تحقيق تحول ديمقراطي مؤقت وإنما إيجاد وتوفير كل الضمانات لاستمراره وترشيده وقطع الطريق أمام كل محاولات التراجع عنه.