في ليلة من ليالي روما اجتمع أهل حي تِستاتشيو ليشاهدوا فيلمًا بعنوان “إيطاليا: أحبوها أو اتركوها”، لم يكن قد طُرِح بدور العرض بعد، وكان المخرجان الإيطاليان قد نصبا شاشة خصيصًا لعرضه على الناس، وهو يتناول ببساطة مستقبل الشباب في إيطاليا، وهل ينبغي أن يظلوا فيها أم يتركوها كما بدأ يفعل الآلاف، في صباح اليوم التالي، كانت أليساندرا بِرتوليني قد اتخذت قرارها النهائي بالرحيل وهي تقود دراجتها في شوارع روما، وقالت إنها ستفتقد نوافير روما ورائحة الطعام في الشوارع الضيقة وأصوات الدراجات النارية، ولكنه الحنين للوطن الذي لا مفر منه.
قبل عرض الفيلم ببضعة أشهر، كان النقاش على أشده في إيطاليا بعد أن نُشِر خطاب لبيير تشِللي، مدير الجامعة الحرة الدولية للدراسات الاجتماعية في روما، يحث فيه ابنه على ترك إيطاليا، وهو ما صدم الكثيرين بالنظر لكون تشِللي على رأس واحدة من أفضل الجامعات الإيطالية، “طموحك واجتهادك وبحثك عن العدالة لا يجديان في هذا البلد التقليدي والمليء بالصراعات .. انظر حولك جيدًا لتدرك أن إيطاليا لا تستحقك .. واخرج منها بعد أن تنتهي من دراستك”، هكذا كتب تشِللي لابنه.
قد تبدو تلك القصص وكأنها من إحدى البلدان النامية، ولكنها الآن تحدث يوميًا في إيطاليا، البلد الأوروبي الأكبر بعد ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، إذ يعاني الاقتصاد الإيطالي من مساوئ جمّة، أبرزها انعدام التكافؤ بين المميزات التي تحمي كبار السن في العمل وتجعل عملية استبدالهم بالشباب شديدة الصعوبة، وبين رواتب الشباب وأولوية التمسك بهم في سوق العمل، وهو ما وصل بإيطاليا إلى نسبة بطالة بلغت 12٪، ليصبح اثنان من كل ثلاثة شباب في إيطاليا “مامّوني” Mammoni كما هو معروف، أي ابن أمّه المدلل.
مؤخرًا، شرعت الحكومة في تغيير ذلك الواقع بمحاولة “أمركة” الاقتصاد قليلًا، بتمرير قانون جديد يسهّل طرد الموظفين والمعيّنين، في خطوة موجهة بالأساس لكبار السن القابعين في مواقعهم منذ سنين، ولكنها إجراءات تهدد شعبية الحكومة بين الأجيال الكبيرة، وتضعها بين شقي رحا، ولا يدلل على صعوبة تحقيق هذا التحول في إيطاليا أكثر من دار الأوبرا الموجودة في روما.
كنيسة العواجيز
يعمل “البروفيسوري” الإيطالي، أي العازف في دار الأوبرا، 28 ساعة أسبوعية فقط، ويتقاضى سنويًا راتب 16 شهرًا، بالإضافة إلى تقاضي ضعف الأجر إذا ما قام بالعزف في الهواء الطلق أو في ظل ارتفاع الرطوبة باعتبار ذلك “خطرًا على الصحة”!
بعد الشروع في بعض الإصلاحات لخلخلة تلك المنظومة الصلبة، و”كنيسة” التوظيف الطلياني تلك، اضطر مدير الأوبرا، ريكاردو موتّي، لإحياء حفل أثناء الصيف الماضي لم يضم سوى عازف بيانو واحد نظرًا لإضراب بقية الفريق اعتراضًا على محاولات الإصلاح الجديدة، وهو ما دفعه في النهاية للاستقالة من منصبه، بعد استقالة موتي، قررت الإدارة اتخاذ قرار راديكالي غير مسبوق لوضع حد لعبثية النظام القائم: طردت 200 عضو من الأوركسترا، في بلد لا يمكن لأحد فيه أن يطرد المعيّنين بعقود طويلة، خاصة في القطاع العام.
لكن الدولة الإيطالية بمؤسساتها ليست مثل دار الأوبرا في نهاية المطاف، ولن تستطيع طرد الملايين بين ليلة وضحاها، وسيكون أصعب كثيرًا اتخاذ نفس الإجراءات في القطاعات الأكثر حيوية وحساسية، فأعضاء البرلمان الإيطالي مثلًا يحصلون على أعلى راتب في أوروبا، وهو ضعف نظرائهم في مجلس العموم البريطاني، بل إن حلّاقي البرلمان يحصلون على أكثر من 100 ألف يورو سنويًا، وهو راتب يفوق المتوسط في القطاع الخاص.
لا تقتصر الأزمة على انعدام المساواة، بل وتصل لتعيينات بالمئات والآلاف لا معنى لها، ففي صقلية على سبيل المثال، تقوم الولاية بتوظيف 28.000 عنصر بالشرطة المسؤولة عن الغابات، وهو أكثر من نظيرتها في كندا والتي تفوق مساحتها مساحة إيطاليا كلها بحوالي 30 مرة، كما تمتلك الولاية 950 سائقًا لسيارات الإسعاف التي لا تصل أصلًا لهذا الرقم، وهو ما يعني تقاضي أغلبهم أموالًا عن لا شيء.
يزيد كل ذلك بالطبع من غضب الشباب، ويجعل مهمة رئيس الوزراء، ماتيو رِنزي، الإصلاحية أثقل، فهو منوط بمواجهة هذه “الكنيسة” المحمية بقوانين العمل، وفي وقت قصير، وإلا فقد شعبيته ومصداقيته، وهو أمر يحدث سريعًا عند الإيطاليين، وهم معذورون في ذلك بالنظر لسجل سياسيّيهم الحافل.
يقول البعض إن رِنزي سيحتاج إلى نهج “تاتشري” – نسبة لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجرت تاتشر – لبث الحيوية في الاقتصاد بشكل سريع، ولكنها محاولات على الأرجح سيعارضها اليسار بحجة فتح الباب أمام “وحشية السوق”، والذي وصل به الحال إلى قتل مستشاري الحكومة الاقتصاديين في مطلع العقد الماضي لمنع إصلاحات قانون العمل، وسيعارضها اليمين القومي أيضًا بحجة الخوف من الهيمنة الثقافية الأمريكية، لاسيما وهو يعارض أصلًا سلطة الاتحاد الأوروبي.
اليورو والسوق السوداء
حين تُذكَر إيطاليا أو عاصمتها العريقة روما، يكون الكولوسيوم (المسرح الروماني المفتوح) هو أول ما يخطر على البال، فهو المحطة التي لا يمكن لسائح أن يفوّتها أثناء رحلته، بيد أنه سيلاحظ أن الكولوسيوم الروماني، يحيط به مسرح آخر ليس سوى أحد مشاهد السوق السوداء في إيطاليا، والتي تدرس الحكومة إدراج بعض الإحصاءات بشأنها في حسابها للناتج القومي.
في طريقك إلى الكولوسيوم، تجد شبابًا يرتدي بطاقات تقول إنه “مرشد سياحي للمسرح” يمكن أن يتجول معك داخله، مقابل 150 يورو لكل خمسة أشخاص، وقد تعتقد أنه مصرح له من قبل الوزارة بذلك، ولكنها في الواقع ليست سوى حيلة لكسب المال من بعض الشباب الذين يعرفون خبايا الكولوسيوم، والذين يقف بجانبهم باعة جائلون ومجموعات من بائعي الصور التذكارية الملتصقين بالسياح في محاولة دفعهم لشراء منتجاتهم، في مشهد أقرب إلى ما قد تشاهده في الأماكن السياحية في مصر والهند.
لا تقتصر السوق السوداء على ذلك بالطبع، ولكن تشمل الجرائم المنظمة (المافيا)، وتجارة الكحول والسجائر غير المشروعة، والمخدرات، والبغاء، بل وتعيينات دون عقود أو توثيق تصل إلى الآلاف من الشباب في خدمات الرد على الهاتف بالمطاعم، وهي سوق تقدر الإحصاءات أنها تصل إلى 15 أو 20 بالمائة من الاقتصاد الإيطالي.
يقول البعض إن الدولة يجب أن تتخذ خطوات حاسمة لتقليص تلك السوق، والتي لا تدفع بالطبع أي ضرائب، وتساهم في الأزمة الاقتصادية، في حين يقول آخرون إن الحل الأوقع هو التعامل معها ووضعها في حسابات الناتح القومي نظرًا لعدم قدرة أي من القطاعين العام والخاص على توفير ما توفرها السوق السوداء، خاصة وأن الأزمة، كما يعتقد هؤلاء، سببها هو اليورو والاتحاد الأوروبي.
استيقظ الإيطاليون ذات صباح عام 1999 ليجدوا أنفسهم في السوق الأوروبية، وبعملة جديدة، دون مناقشة مطوّلة لجدوى الالتحاق باليورو، بل وقبلوا سعر صرف عالٍ لليورو مقابل الليرة للانضمام سريعًا، فتضاعفت أسعار الكثير من السلع، كالقهوة والسجائر والكحول، في غضون ساعات، رُغم بقاء الرواتب على حالها؛ وهو ما أدى بالطبع لأزمة، خاصة لدى أصحاب الأجور الضعيفة، ومعظمهم من الشباب.
يحلو لنقاد اليورو أن يشيروا لهذا الخلل منذ دخول بلادهم لليورو ليبرهنوا على ضرورة الخروج منه، لاسيما الأحزاب ذات الشعبية مثل النجوم الخمس والتحالف الشمالي، ولكن الحق أن السوق الأوروبية ليست هي أساس المشكلة في إيطاليا، كل ما هنالك أن دخول روما للسوق المشتركة سلبها القدرة على التحكم الكامل في اقتصادها، وهو ما يعني عدم قدرتها على مواجهة مشاكلها الاقتصادية بالحلول التي تريد، وهي حلول على الأرجح لم تكن لتغيّر من المنظومة الاقتصادية الإيطالية، والتي تعد مصدر الأزمة الحقيقي خاصة للشباب.
فطبقًا للقوانين القائمة حاليًا، تفرض الدولة ضرائب بشكل مبالغ فيه على الشركات والاستثمارات لتستطيع الحصول على ما يكفي للإنفاق على ملايين الموظفين لديها، وكافة القطاعات التي ترعاها وتدعمها، فمقابل كل يورو يصل لراتب أي عامل في إيطاليا، تدفع الشركات مقابله حوالي نصف يورو للدولة، وهو سبب لجوء الكثيرين للسوق السوداء.
تقول ستِلّا، إحدى العاملات بمركز لتلقي الاتصالات (كول سنتر)، والتي تعمل دون عقد: “لا يمكنني أن أغضب تجاه من يوظفوننا بصراحة، لأننا على علم بالمنطق الكامن خلف السوق السوداء تلك، إنهم لا يستطيعون ببساطة دفع كل ما يُطلَب منهم، وهم يحاولون في نهاية الأمر البقاء في السوق وتحقيق الأرباح”.
المعضلة إذن قد لا تكون ارتفاع الأسعار منذ دخول اليورو، وهبوطها إذا ما خرجت إيطاليا منه، ولكنها أزمة بنيوية تتعلق بدور الدولة الإيطالية في الاقتصاد، والذي يسعى ماتيو رِنزي لتقليصه وتعزيز روح المبادرة وريادة الأعمال والاستثمار، وهو ما يعزز من شعبيته لدى الشباب، وكذلك لدى قطاعات واسعة من المستثمرين ورجال الأعمال، لاسيما وهو رئيس الوزراء الأصغر سنًا في تاريخ إيطاليا، وهو أمر غير معتاد في السياسة الإيطالية التي هيمن عليها الشيوخ تمامًا كما يفعلون في شتى مناحي الحياة الإيطالية.
ما إذا كان رِنزي سينتصر في النهاية على الأخطبوط البيروقراطي الذي ازداد رسوخًا خلال سنوات هيمنة رئيس الوزراء السابق سلفيو برلسكوني على الحياة السياسية، هو أمر في علم الغيب، ولكن في الوقت الراهن، لا يبدو أن الشباب يملك حلًا في السنوات القليلة المقبلة سوى الخروج من روما وميلان ونابولي وتورين، والاتجاه إلى الولايات المتحدة أو بريطانيا، أو الأقرب، إلى ألمانيا، حيث تنفتح الأبواب هذه الأيام أمام غير الألمان، وتعج بالكثير من الشباب القادم من الجنوب، ليس الجنوب العربي البعيد فقط، ولكن الجنوب الأوروبي أيضًا.
لا دويتشه فيتا
لا دويتشه فيتا (على غرار لا دولتشِه فيتا La Dolce Vita، الجملة الإيطالية المشهورة ومعناها الحياة السعيدة) هو فيلم إيطالي أنتجه مخرجان إيطاليان يعيشان بألمانيا عن تجمع الطليان المتنامي بقوة في برلين، العاصمة الألمانية، جراء توجه الكثير من الشباب إليها، والتي يقولان عنها إنها البقعة الوحيدة في أوروبا التي لاتزال حيّة بعد أن تراجعت باريس وروما تحت وطأة الأزمة الاقتصادية.
“برلين مدينة مفعمة بالحيوية، وتعج بالبرامج التلفزيونية والأخبار وتقارير على محطات الراديو ومجلات رائعة، في كل مرة أفتح فيها مجلة هنا أجد شيئًا جديدًا ومثيرًا عن برلين، كما تنتشر أحدث أنواع الموضة لتسحب البساط من إيطاليا وفرنسا، هناك نوع من الصحوة الثقافية هنا، إذا ما قارنت ذلك بإيطاليا أجد فرقًا شاسعًا، خاصة بالنظر لكوني فنانة، ففي إيطاليا نضطر إلى العمل بكد للإنفاق على الإيجار والسلع الأساسية، دونما وقت كافي للتركيز على أنشطتنا الفنية، ولكن في برلين، وبوظيفة بسيطة، يمكنني أن أجد طعامي وسكني وأن أحظى بوقت كافي للتركيز على الفن وللتمتع بالحياة أيضًا”، هكذا تقول تانيا.
“منذ عقد أو يزيد، لم يكن أحد في إيطاليا يعلم موقع برلين بالضبط، وإذا ما قلت لأحد بأنك ذاهب إلى هناك، كان لينظر لك باستغراب، ويسألك عن سبب السفر من إيطاليا إلى ذلك المكان البعيد والبارد، أما الآن فهم يعرفون برلين جيدًا، ويعتبرونك محظوظًا إذا ما عرفوا بأنك ستسافر لها، إننا نستقبل كثيرًا على بريدنا الإلكتروني رسائل عن كيفية السفر وتعلّم اللغة الألمانية من المئات من الطليان”، ففي إيطاليا هذه الأيام تعج معاهد جوتة الألمانية بالطلاب، وأصبحت كورسات اللغة الألمانية معروفة بين الشباب باسم كورسات “أخرجونا من هنا!”، وهي تمتلئ عن آخرها أولًا بأول.
بيد أن الطليان بطبيعة الحال، وبحنينهم المعروف والشديد لبلادهم، قد يجدون في الثقافة الألمانية برودًا نوعًا ما مقارنة بثقافتهم، حيث تقول تانيا “لا يمكنني أن أكون ألمانية أبدًا، أنا أحبهم وأحترمهم، وهم منفتحون، ولكنهم منظمون بشكل مفرط، وأحيانًا أشعر أنهم لا يطلقون العنان لأنفسهم بشكل فوضوي كما نفعل نحن، أن تكون أجنبيًا في بلد ما ليس أمرًا سهلًا، خاصة للإيطاليين”.
على العكس، يقول دِه أديو، المدوّن المقيم في برلين، إنه لا يفتقد إيطاليا: “أشعر بالراحة حين تهبط الطائرة في مطار شونفيلد الألماني، وكأنني قد أطلق سراحي دون ضغوط الأهل والمجتمع في إيطاليا ودون الفساد المنتشر في ربوعها، إنها صلبة وكئيبة ورتيبة”، برلين على ما يبدو هي المكان الوحيد في أوروبا الذي لايزال بإمكانك فيه تحقيق ذاتك، كذا تقول واحدة من أبطال فيلم لا دويتشه فيتا.
كاتِناتشيو Catenaccio
منذ عامين تقريبًا، وبمناسبة تقلّد البابا فرانسيس منصب بابا الكنيسة الكاثوليكية، قرر الفاتيكان إصدار 6000 ميدالية، تظهر عليها صورة البابا مع كلمات لاتينية مسيحية، ولكنها بدأت في لفت الانتباه بعد أن لوحظت كتابة كلمة المسيح بشكل خاطئ، إذ نُقِشَت على الميداليات كلمة Lesus بدلًا من Jesus، في الحال، سارع قسم صك العملات الإيطالي، المسؤول عن إنتاج الميداليات، لتبرئة نفسه، وقال بأنه تسلّم النقش من الفاتيكان، وأن المهمة التي تولاها كانت تتبع النقش بالليزر ليس إلا، مما يعني أن اللوم يقع على الفاتيكان الذي أرسل النقش الخاطئ. بدوره، رد الفاتيكان بأن أخطاء كهذه تحدث، “فالجميع يُخطئ”.
بمجرد انتشار الخبر وصور الميدالية، بدأت موجة ساخرة على تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي عن بلادة المسؤولين في الفاتيكان، والذين لم يكلّفوا أنفسهم عناء المراجعة، وبين من رجحّوا مازحين أن تكون قد صدرت في الصين، المعروفة بسوء جودة منتجاتها، ومن أكدوا أن خطأ كهذا في الواقع ما كان ليصدر إلا عن الطليان الكسالى! أو أن حظ الفاتيكان رمى عاصمة الكاثوليك في إيطاليا، بدلًا من بلد أفضل كألمانيا ما كان ليخطئ أخطاءً كهذه أبدًا – لسوء الحظ بالطبع، الألمان ليسوا كلهم كاثوليك -.
كما تشي التعليقات، تعيش إيطاليا هذه الأيام موجة من الاكتئاب وجلد الذات، مع توقعات متشائمة بأن تصبح خلال عقدين بلد من العالم الثالث، وأن فرنسا إن كانت هي رجل أوروبا المريض، فإيطاليا إذن هي رجل أوروبا الميت! بيد أن الفارق بين الأزمتين، الإيطالية والفرنسية، هو أن المشكلة الرئيسية في إيطاليا نابعة من الذات، ففي فرنسا يلوم البعض المهاجرين والإسلام، والبعض الآخر يلوم اليورو وسياسات ألمانيا، ولكن في إيطاليا يعرف الجميع أن المشكلة في الطليان أنفسهم، على الأقل الأجيال القديمة.
لا يغيّر الطليان أساليبهم بسهولة، ولا يقبلون الجديد في عالم الإدارة والاقتصاد والتعليم وغيرها، مفضلين أن يتمسكوا بالتقليدي، وأن يحاولوا تعزيز مكاسبهم واقتناص لقمة عيشهم من وسط كل هذا العفن حتى ولو بالحيلة، بدلًا من إزالته مرة وإلى الأبد، ولعل هذا هو سبب ذيوع صيتهم في خصلتين أساسيتين: الصلابة والعند من ناحية، والنصب والخداع من ناحية أخرى.
كاتِناتشيو، هي الكلمة المشار بها دومًا لأسلوب اللعب الإيطالي في كرة القدم، والذي يعتمد على تعزيز الدفاع دون سواه، في محاولة لمنع الخصم من التسجيل، مع اقتناص أي فرصة عابرة للتسجيل في مرمى الخصم والخروج بانتصار، دون الحاجة للعب مفتوح ومرن، والمبادرة بالهجوم، وإبراز الجانب الفني، على ما يبدو ليس هذا فقط في كرة القدم، ولكنه نهج عام لكل ما يدور في إيطاليا، وليس أدل على ذلك من تربع برلسكوني على عرش السياسية الإيطالية لسنوات رغم فضائحه المالية والجنسية.
بيد أن الجيل الجديد، والذي ربما سافر أكثر من غيره ورأي برلين ونيويورك ولندن، قد سأم تلك اللعبة القديمة، ويحاول اليوم وضع حدٍ للكاتِناتشيو، لاسيما وأنها قد أثبتت فشلها حتى في كرة القدم، ومرة أخرى، أمام عبقرية الألمان.
توتي أكاسا Tutti a casa
في عام 2013، قام الإيطالي لويغي بريتي بإطلاق النار على قصر رئاسة الوزراء وأصاب ضابطتي شرطة، في محاولة لقتل السياسيين، وإعلانًا عن غضبه تجاه النخبة السياسية في إيطاليا، كما قال للشرطة فيما بعد، لم يكن لويغي حالة خاصة أو جريمة مجنونة عابرة، ولكنها في الحقيقة مشاعر تملأ الكثير من الشباب في إيطاليا، وهو ما يدفعهم إلى حركة النجوم الخمس، التي يقودها الكوميدياني الإيطالي بيبِه جريللو للدفع نحو ديمقراطية متحررة من براثن النخب، وتكون تشاركية ومباشرة بشكل أكبر يتيح للشباب والمواطنين بشكل عام صنع السياسات، وبالتالي إحداث التغيير الذي يعد به السياسيون ولا يحققونه.
بدأت فكرة الحركة عام 2005، بلقاءات بين حركات ونشاطات مدنية عدة تسعى لتغيير المنظومة الإيطالية، ثم عقدت عام 2007 يوم V، وهو اختصار ليوم “ڤافانكولو” (تبًا لك!) الموجه للسياسيين، والذي جمع خلاله أعضاء الحركة توقيعات مطالبة بمنع أي شخص حصل على حكم جنائي من الترشح لأي منصب، وهي على ما يبدو إشارة لاختفاء الخط الفاصل بين السياسة والجريمة في إيطاليا.
تم عقد اللقاء في مدن عدة، وفاقت التوقيعات التي حصلت عليها الحركة كافة التوقعات، إذ وصلت إلى أكثر من 300 ألف خلال عام 2007، وهو ما دفع الحركة لتكرار اللقاء، ومن ثم إلى تأسيس حزب عام 2009، وخوض انتخابات الولايات عام 2010، ثم الانتخابات المحلية عام 2012، والتي حصلت فيها على حوالي 10٪ بمدن عدة، ثم كانت المفاجأة بحصولها على 25٪ من مقاعد البرلمان ومجلس الشيوخ في الانتخابات العامة لعام 2013.
في انتخابات البرلمان الأوروبي العام الماضي، أطلقت الحركة حملة “توتي أكاسا” (اذهبوا إلى بيوتكم!) الموجهة للسياسيين، والمستوحاه من فيلم كوميدي معروف بهذا الاسم يحكي عن هزيمة إيطاليا (الفاشية) أثناء الحرب العالمية الثانية وقرار مجموعة من الجنود خلع الملابس العسكرية والعودة إلى منازلهم بمجرد سماعهم عن استسلام قياداتهم العسكرية، توجت الحملة بحصول الحركة على 21.2٪، لتحل ثانية بعد حزب ماتيو رِنزي الديمقراطي، متفوقة على حزب فورزا إيطاليا الذي يقوده برلسكوني، ولتنشر موجة من التفاؤل في إيطاليا بالقدرة على تجديد الدماء وإصلاح ما يجب إصلاحه.
تراجع برلسكوني مقابل رنزي وجريللو يقول أشياء كثيرة عن إيطاليا، أولها أن الكاتناتشيو لم يعد رائجًا كما كان، وأن هناك اتفاقًا على الرغبة في الإصلاح والتغيير، إما عن طريق الحزب الديمقراطي، أو عن طريق “سياسة الشارع” التي يقدمها جريللو، وهي في كل الأحوال توجهات تعزز بعضها البعض على مستويات عدة.
أن يكون رِنزي، والذي دخل لرئاسة الوزراء بشعار “الآن!”، والذي يظهر بين الحين والآخر دون رابطة عنق، حاملًا هاتف الأيفون في يده أو ربما على دراجته، هو رمز إيطاليا السياسي الأهم، يليه جريللو، بشعاراته الساخرة واللاذعة تجاه “شيوخ” إيطاليا من الساسة، وأفكاره الراديكالية بالنسبة للإيطاليين، فهذا يعني أن إيطاليا وأجيالها الجديدة قد تستطيع تحقيق ذاتها في إيطاليا في وقت ليس ببعيد، وأن لا دولتِشه فيتا أمر ممكن دون الحاجة لتذكرة طيران نحو الشمال.