ترجمة وتحرير نون بوست
كتب إيلين نيكماير وأحمد العمران
أعلن الديوان الملكي السعودي في صبيحة يوم الجمعة عن وفاة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عن عمر يناهز التسعين عاماً، الملك السعودي الذي استطاع عزل المملكة العربية السعودية عن الإسلاميين والقوى الديمقراطية التي اجتاحت الشرق الأوسط وذلك تحت عنوان الاستقرار.
ووفقاً لبيان تلي على التلفزيون الرسمي السعودي، أُعلن الأخ غير الشقيق لعبد الله وولي العهد الأمير سلمان (79 عاماً) ملكاً للسعودية، في حين أُعلن الأمير مقرن (69 عاماً) ولياً للعهد.
الملك المتوفى والذي ولد في عام 1932 أي قبل أن يؤسس والده الدولة السعودية بشكلها الحديث، ركّز في سنوات حكمه الأخيرة على التهديدات الأمنية الداخلية والخارجية التي تحوق بالمملكة، وشَهِد نمو دور المملكة لتتربع على قمة عرش النفط العالمي وتصبح مركزاً للسلطة السياسية والدينية في المنطقة، حيث أكّد الملك المتوفى في آخر تصريح له قبل وفاته، أن بلاده “مباركة بالأمن والاستقرار” في قلب منطقة مضطربة.
باشر عبد الله بحكم المملكة فعلياً في ظل حكم أخيه الملك فهد الذي أصيب بسكتة دماغية أقعدته عن أداء مهامه في عام 1995، وبعد وفاة الملك فهد اعتلى عبد الله العرش السعودي رسمياً في عام 2005 بعد أن كان هو الحاكم الفعلي على مدى العقد الماضي.
الراحل كان يعتبر في سعي دائم ودؤوب للاستقرار، حيث كان يعتبره أكبر الفضائل؛ لذا مقت عبد لله الثورات التي جلبت الأصوليين الدينيين إلى السلطة مثل ثورة الخميني في إيران في عام 1979، والثورات التي أدت إلى خلع زملائه الحكام في مصر وليبيا وتونس بعد ثلاثة عقود من الحكم.
الملك عبد الله والتطوير
استطاع العاهل السعودي إدخال بعض التطويرات إلى نظام الحكم السعودي، حيث كان يؤمن بالتطور التدريجي لمؤسسات الدولة، فمثلاً عمل الملك على إصدار قرار ملكي في عام 2013 ينص على إعادة تشكيل مجلس الشورى السعودي بتعيين 30 سيدة بالمجلس لأول مرة في تاريخ المملكة، وعلى الرغم من أن مجلس الشورى يشبه في تشكيله البرلمانات في الأنظمة الأخرى، إلا أنه وفي ظل النظام الملكي المطلق المطبق في المملكة فإن هذا المجلس لا يتمتع سوى بصفة إستشارية بالنسبة للملك.
في السنوات الأخيرة، اتخذت الحكومة عدة قرارات للحد من حجم العمالة الأجنبية التي اعتمدت عليها البلاد في سنواتها الأولى لتحقيق التنمية، حيث عمد الملك إلى إصدار حوافز لأصحاب العمل لتوظيف السعوديين بدلاً من العمال الأجانب، ولكن مع ذلك لا تزال العمالة الأجنبية تشكّل أكثر من 30٪ من سكان السعودية، وبذلك يكون الملك عبد الله ترك لخلفه بلاداً تعتمد اعتماداً هائلاً على العمالة الأجنبية الرخيصة لأداء الوظائف التي يأبى معظم الشباب السعوديين -حتى العاطلين عن العمل منهم- عن أدائها.
صراع العائلة الحاكمة
بالنسبة للعائلة الحاكمة، فإن وفاة عبد الله أبرزت قضية تتميز بالحساسية السياسية، وهي قضية توراث الحكم، فالقانون السعودي يترك للملك السعودي حرية الاختيار في تعيين خليفته، حيث ينص النظام الأساسي السعودي (الدستور السعودي) على أن يتسلم العرش “الأصلح” من أبناء وأحفاد مؤسس المملكة الملك عبد العزيز آل سعود، وهذا هو الضابط الوحيد لاختيار الملك؛ فمثلاً الملك عبد الله هو أحد الأولاد الأربعين لمؤسس المملكة الملك عبد العزيز والذين أنجبهم من زوجات متعددات، وبعد وفاته صبيحة هذا اليوم، تم استبداله فوراً بولي العهد سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ويرجع اختيار سلمان لكون عمره (79 عاماً) لا يخوله –على الأغلب- الاستمرار طويلاً في حكم المملكة، أما الشخص التالي في ولاية العرش (الأمير مقرن) فهو الابن الأصغر لمؤسس المملكة الباقي على قيد الحياة، وتم تعيينه نائباً لولي العهد العام الماضي من قبل الملك عبد الله، وإن تعيين الملك سلمان ومن بعده الأمير مقرن، هي رسالة واضحة تشير إلى أن كبار العائلة المالكة لا ينظرون إلى أحفاد الملك عبد العزيز على أنهم يمتلكون القوة الكافية لضمان انتقال السلطة لهم في الوقت الحالي.
كثيراً ما يتهامس السعوديون سراً بأن الاقتتال الداخلي بين أحفاد الملك عبد العزيز وأسرهم، قد يشكل تهديداً على النظام السعودي أكبر من التهديد الذي قد تشكّله الثورات الشعبية، بينما يرى مراقبون بأن تركيز العائلة الحاكمة على استمرارية الحكم والنظام والطاعة سيقلل من أي احتمالية للصراع على السلطة، وإن هذا التركيز على استمرارية الحكم ينعكس على الواقع السياسي للدولة؛ لذا فإن تغيير الحاكم لن يحمل معه سوى تحولات طفيفة في السياسات الداخلية والخارجية للحكومة السعودية.
السعودية والولايات المتحدة
في فترة حكم الملك عبد الله كانت علاقات الولايات المتحدة مع السعودية كبيرة ومعقدة وشائكة في كثير من الأحيان، وخاصة في السنوات الأخيرة التي شهدت حنق العاهل السعودي الراحل على الفشل الأمريكي في الوفاء بالتهديدات الرامية لشن ضربات عسكرية على النظام السوري في عام 2013 لاستخدامه المزعوم للأسلحة الكيميائية، وكانت الرياض تعتقد بأن البيت الأبيض لم يظهر دعماً قوياً لحلفائها في الشرق الأوسط، ولا سيّما في مصر، بعد ثورات الربيع العربي التي اندلعت منذ عام 2010، كما أن الرياض اعتبرت أن المحادثات السرية التي جرت بين الولايات المتحدة وإيران بشأن برنامج الأخيرة النووي، هي علامة على إضعاف التحالف الأمريكي- السعودي، ودليل على أن البيت الأبيض على استعداد لإجراء التحالفات مع أعداء المملكة بدون موافقة الملك عبد الله.
من جهتها سارعت الولايات المتحدة للتعليق على وفاة الملك بقولها على لسان مسؤوليها، أن أمريكا سوف تسعى للتعامل بسرعة مع الحكام الجدد في المملكة العربية السعودية لوقف الأزمات الناشئة في المنطقة، مثل الحرب الأهلية اليمنية والاتساع المتزايد لجهاديي الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، كما عبّر المسؤولون الأمريكيون عن مخاوفهم حول قدرة الملك الجديد على ترسيخ سلطته بالسرعة الكافية للرد على هذه التهديدات الإقليمية.
بالنسبة للملك الراحل فإن السعودية وأمريكا كانتا تتشاركان ذات الرؤية والمستقبل، ولهذا أعلن نفسه حليفاً مخلصاً للولايات المتحدة؛ فالرؤية المشتركة الأولى كانت نابعة من سعي الملك الدائم لتدعيم مكانة المملكة باعتبارها حامل لواء المسلمين السنة في العالم، وحامي الممالك السنية في المنطقة، وهذا السعي توحّد مع التوجس الأمريكي من الطموحات الإقليمية الشيعية لإيران، ومن جهة ثانية عملت الرياض جنباً إلى جنب مع واشنطن، في محاربة تنظيم القاعدة وزعيمه السعودي المولد أسامة بن لادن، الذي كان مصمماً على إسقاط حكم آل سعود بمثل سعيه لمعاقبة أمريكا، كون الملك السعودي قام بنشر القوات الأمريكية “الكافرة” على الأراضي السعودية، وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن، عمدت قوات الأمن السعودية على القضاء على جميع فروع تنظيم القاعدة في المملكة، كما أن السعي السعودي تكلل منذ عام 2010 بإحباط مخططين للقاعدة –على الأقل- كانا يهدفان لتفجير طائرات أمريكية، وذلك وفقاً لما صرح به مسؤولين أمريكيين وسعوديين.
الملك عبد الله ما بين الثورة الداخلية والمد الخارجي الشيعي
نبعت مواقف السعودية في ظل حكم الملك عبد الله من دفاعها عن مصالح السنة ضد ما يُنظر إليه على أنه المد الشيعي الإيراني، حيث عملت المملكة العربية السعودية على قيادة قوات درع الخليج إلى البحرين في مارس 2011، بهدف مساندة العائلة المالكة “السنية” لمواجهة الاحتجاجات التي أججتها الأغلبية الشيعية في الدولة، كما أن السبب الرئيسي الذي دفع السعودية لإمداد المعارضة السورية بالأسلحة والمال، هو علاقات الرئيس السوري بشار الأسد مع إيران وحزب الله الشيعي.
وفي الحقيقة لم تكن كراهية إيران والتشيّع هما الشاغل الأساسي الوحيد للملك عبد الله؛ فالسعودية تحت حكمه عارضت أيضاً حركات الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط، سواء أكانت مسلحة أم غير مسلحة، شيعية أو سنية، إسلامية أو علمانية، وحذّر الملك مما سماه تهديد الحركات الإسلامية التطرفية، حيث قال في عام 2013 “لا توجد حلول وسط، لن نستطيع إنهاء هذا الشر ما لم نبذل جهوداً مضنية”.
وعلى الرغم من أن المملكة استطاعت التعامل مع الروح الثورية السعودية الهادفة للتغيير عن طريق كتمها أو شرائها أو تجاهلها من خلال وسائل الإعلام التي تديرها الدولة في المنطقة، إلا أن الثورة في الداخل لم تتوقف تماماً، نظراً لشعبية وسائل الاعلام الاجتماعية خاصة بين الشباب السعودي البارع في أمور التكنولوجيا.
كانت العبارة الشهيرة المنسوبة للملك عبد الله تقول “إذا كنتم بخير؛ فنحن بخير”، ولكن عندما انتشر الاضطراب السياسي في السعودية بعد عام 2011، عمل بعض الشباب السعودي على تصوير فيديو يقلب هذه العبارة لتصبح ضد الحكومة، في انتقاد علني غير معتاد على النظام السعودي، حيث قام الشباب بطرق أبواب المساكن الفقيرة في الرياض وسألوهم “هل أنتم بخير؟” وذلك في محاولة من صنّاع الفيلم لإلقاء الضوء على نسبة الفقر في أكبر بلد مصدّر للنفط في العالم، وفي أعقاب هذه الحادث قامت الحكومة باعتقال صانعي الفيلم، ولكنها لم توجّه إليهم أي اتهامات، وأقدمت على إطلاق سراحهم فيما بعد.
وردا على الهياج السياسي الذي لا يزال يعصف بالمنطقة، عمد الملك الراحل لزيادة الإنفاق على خدمات الرعاية الاجتماعية، حيث قام بضخ مئات المليارات من الدولارات لبناء الجامعات والمستشفيات والمشاريع الكبيرة الأخرى، ولمعالجة الاحتياجات السكنية الناجمة عن النمو السكاني في المملكة، وضع الملك نظاماً جديداً للرهن العقاري في عام 2012، وبعده بعام حاول دمج المملكة العربية السعودية في عمق الاقتصاد العالمي، عن طريق تغيير عطلة نهاية الأسبوع السعودية من الخميس والجمعة إلى الجمعة والسبت، وذلك على الرغم من اعتراضات المحافظين المتدينين الذين زعموا أن هذه التغييرات هي تشبّه غير محبب بعطلات اليهودية والمسيحية.
السعودية والأزمة النفطية
غالبا ما يتم تصوير السعودية على أنها القيّم على الاقتصاد العالمي بسبب قيادتها لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، حيث تعمل السعودية على الحفاظ على طاقتها الانتاجية من النفط بمستوى محدد، كما أنها تعمد -بالعادة- إلى ضخ كميات إضافية من النفط عند الحاجة لتهدئة تقلّبات السوق، حيث ساعدها الاحتياطي الكبير الذي تملكه من النفط على التربع على قيادة السوق العالمية للنفط، ولكن إزاء الانخفاض الأخير لأسعار النفط، رفضت المملكة الدعوات لخفض إنتاجها من النفط؛ الأمر الذي برره المسؤولون السعوديون بحماية حصة البلاد في سوق الطاقة النفطية في العالم، ولكن هذا القرار أثّر سلباً على أسعار النفط وقادها للهبوط بشكل أكبر؛ وهذا ما أدى بالنتيجة إلى الضغط على ميزانية السعودية التي تعتمد على النفط بشكل شبه كلي.
ما زاد صعوبة الأزمة النفطية على الاقتصاد السعودي، هو شروع السعودية ببرنامج إنفاق ضخم حاولت من خلاله امتصاص غضب الشارع السعودي، حيث أن التمويل الحكومي لهذه المشاريع أصبح حالياً يتجه في مسار غير مستدام، وذلك بالنظر إلى أن 46.9% من شعب المملكة العربية السعودية الذي يبلغ 27.3 مليون شخص هم تحت سن الـ 24، ونسبة كبيرة من هؤلاء يتوقعون أن يحصلوا وظيفة جيدة في القطاع العام، كما يتوقع الكثيرون منهم الاستفادة من المستحقات الحكومية السخية، وبالطبع فإن هذه التقدمات تستهلك الثروة النفطية في البلاد أكثر من أي وقت مضى.
شخصية الملك عبد الله
إن والدة الملك عبد الله فهدة بنت العاصي بن كليب بن شريم آل رشيد، كانت أحد أبناء عشيرة الرشيدي، وعلى مدى عقود كانت هذه القبيلة هي من أقوى معارضي مسعى الملك عبد العزيز آل سعود للسيطرة على شبه الجزيرة العربية؛ لذا عندما هزم عبد العزيز عشيرة الرشيدي في عام 1921 تزوج من فهدة آل الرشيد، والتي أنجبت عبد الله في عام 1924 على الأغلب (كون موعد ميلاد الملك غير محدد بشكل دقيق)، ويعتبر عبد الله أكثر أخوته شعبية ما بين السعوديين، حيث تتم الإشارة إليه في الأوساط العامة السعودية على أنه ملتزم بتقديم العناية والرفاه لشعبه أكثر من طمعه بثروات المملكة؛ لذا كان وجود عبد الله في السلطة مستمداً من تقاليد القبائل لتأمين السلام بينها بعد انتهاء الصراع.
عندما ولد عبد الله، كان معدل الأمية في البلاد يبلغ 95%، أما الآن، فإن معدل الأمية انخفض ليصبح حوالي 15%، كما أن الرياض كانت عند ولادة الملك مليئة بالبيوت الطينية، حيث كانت المدينة تغلق أبوابها ليلاً خوفاً من المتطفلين، ويشير كبار السن السعوديين أنهم يستذكرون بسهولة الأيام التي كان فيها عبد الله وإخوته يجبون شوارع المدينة على أرجلهم، كما أنهم يستطيعون أن يحددوا اللحظة التي دخلت فيها أول سيارة إلى المملكة، أو اللحظة التي دخل فيها الراديو كإختراع جديد إلى الأراضي السعودية.
كان الملك عبد الله طوال فترة حكمه يصبغ شاربيه ولحيته المنمقة باللون الأسود الفاحم، كدليل على القوة، متغاضياً بذلك عن الانحناء الشديد في ظهره نتيجة لطعنه بالسن وأمراض الظهر، وبالنسبة لمؤيديه كان الملك عبد الله لطيفاً وفي بعض الأحيان ذو نظرة تقدمية، وهو شيء مستغرب في مملكة تحكمها أحد أكثر التعاليم الإسلامية صرامة في العالم؛ فالمعتدلين من بين أنصاره يرونه على أنه صمام الأمان ضد مطالب المؤسسة الدينية السعودية القاسية، حيث بدأ الملك حواراً رسمياً مع الأقلية الشيعية الموجودة في السعودية، وهو الذي يعتبر خطوة مهمة بالنظر إلى أن معظم السنة يتهمون الشيعة بالكفر.
أما بالنسبة لمنتقدي الملك من الليبراليين، فإنهم يشيرون إن إطلاق صفة (المصلح) على الملك عبد الله هو أمر مبالغ به، حيث أشاروا إلى إن الملك استخدم حكومته المحافظة دينياً كذريعة دائمة للامتناع عن إجراء المزيد من التطوير والامتناع عن منح الحريات السياسية، كما انتقدوا قيامه بتشديد العقوبات القانونية ضد الأشخاص الذين ينتقدون الحكومة وحاشيتها من رجال الدين المتطرفين، حيث عمد الملك إلى اعتقال العشرات من النشطاء السياسيين، وخصوصاً بعد انتفاضات الربيع العربي التي ضربت بلدان العالم العربي الأخرى.
يشير المراقبون بأن عهد الملك عبد الله، لم يختلف عمّا سبقه لناحية إجبار المرأة على الخضوع للوصي الذكر (المحرم) طوال حياتها، ولكن رأى البعض بأنه تم التخفيف من إنفاذ الضوابط المفروضة على المرأة في عهده، على الرغم من أن حقوق المرأة لم تتوسع أو تتحقق خلال هذه الفترة؛ فمثلاً الملك عبد الله نفسه قال علناً أنه لا يرى ضرراً في قيادة النساء للسيارات، ولكن حكومته تجاهلت هذا القول كما تجاهلت الالتماسات المستمرة والاحتجاجات المطالبة بالسماح للنساء بقيادة السيارات.
المصدر : وول ستريت جورنال