منذ انطلاقتها، كان واضحًا أن حركة حماس قد استفادت من تجارب بعض الفصائل الفلسطينية وخاصة حركة فتح في بُعد العلاقة مع الدول العربية، فكان أن صاغت لنفسها رؤية تُجنبها الدخول في لعبة المحاور أو الاستعداء ويضمن لها وللقضية الفلسطينية – قدر الإمكان – دعم الجميع، دولاً وشعوبًا وتيارات.
هذه السياسة التي عنونتها حماس “بعدم التدخل بشؤون الدول” و”قبول الدعم غير المشروط من الجميع” مكّنها من تجنب الكثير من المطبات رغم الأمواج العاتية في بحر المنطقة، رغم أنها كانت تبدو كمن يسير على خط رفيع فوق نيران ملتهبة، لقد بررت هذه السياسة الواضحة لحماس ابتعادها عن التشهير بدول عدة على هامش مواقفها من الحركة أو القضية (لم تهاجم الحركة الأردن حتى حين طرد مكتبها السياسي)، كما مكنتها من قبول استضافة النظام السوري لها رغم ماضيه الدامي مع شقيقتها الفكرية حركة الإخوان المسلمين السورية.
استطاعت حماس الاستمرار بنفس هذه السياسة، باعتبار أن الأطراف المختلفة – المُحبة والمبغضة – قبلت أن يكون لها وضعها الاستثنائي وفق خصوصية الظرف الفلسطيني، لكن الثورة السورية كانت حدثًا مختلفًا لم يمكّن للحركة تجنب ارتداداته أو غض الموقف عنه لاعتبارات عديدة، منها حجم القتل الذي ارتكبه النظام، ووجود أغلب قياداتها في دمشق، والحالة الأمنية التي انفتحت على كل الاحتمالات، ومنها – وهذا الأهم ربما – فقدان حلفاء الأمس للمرونة التقليدية بالتعامل مع الحركة وطلبهم/ اشتراطهم موقفًا واضحًا منها.
لم تخطئ حماس في حينها بخروجها من سوريا وإن رأى الكثيرون ذلك، لكنها أخطأت حين تمادت أحيانًا في خطاب الاستعداء، فعلى لسان عدد من قيادييها هاجمت الحركة طهرانَ بشكل واضح، ورفضت أن تملي الأخيرة عليها شروطها، واعترفت أن الدعم الإيراني توقف أو كاد بسبب موقف الحركة من القضية السورية، كان يسع حماس في ذلك الوقت أن تنسحب من سوريا بهدوء وأن تستمر في سياسة تجنب الصراعات والاستعداء، لكن الفطنة (وربما التوقعات والحسابات) خانتها في تلك اللحظة الحرجة، ورغم شعرة معاوية التي أبقتها مع حزب الله في لبنان تحديدًا، إلا أنه كان واضحًا أن العلاقات أقل من فاترة معه، وشبه مجمدة مع طهران، رغم استمرار اللقاءات وراء الكواليس.
واليوم، مرة أخرى، تُخطئ حماس في اختيار مفردات خطابها، لقد انكفأت نار الربيع العربي وكادت تتكسر موجتها الأولى على صخور الثورة المضادة في معظم بلدانها، ودفعت حماس أثمانًا لم تكن فيما يبدو في حسبانها، ودفعتها أزمتها الاقتصادية – ضمن أسباب أخرى – إلى تقديم تنازلات متسارعة وغير متوقعة لتحقيق المصالحة الداخلية (المتعثرة حتى اليوم بقرار من عباس) والانسحاب من الحكومة “بأي ثمن”.
كان على حماس أن تدفع الثمن، مثلها مثل الشعوب العربية وقواها التي شاركت في الثورات أو عوّلت عليها، وكان عليها أن تعيد بعض الحسابات وتقدم بعض التنازلات، سيما وأن الحلفاء الجدد لم يكونوا بنفس سخاء القدماء، ولا يُتوقع منهم الوصول إلى نفس مستوى الدعم السابق، خاصة في المجال العسكري، في لحظة ما، اتخذ القرار في طهران بنقل اللقاءات المستمرة بين الطرفين منذ فترة طويلة للعلن، حيث حان وقت الاستثمار.
كان أول الشواهد على “توبة” حماس، الخطابات السياسية والعسكرية في ذكرى انطلاقتها التي شكرت إيران تحديدًا بالاسم على “دعمها الذي لم يتوقف بالمال والسلاح” وبتسمية الأسلحة المختلفة من صواريخ وقذائف، بعد شهور فقط من تهميشها في خطاب زعيم حماس خالد مشعل بعد انتهاء الحرب مباشرة حين ذكرها بين الدول “التي اتصلت علينا”، وبعد أن ركز الخطاب الحمساوي بشقيه على “الأسلحة محلية الصنع 100%” وكأنه يغمز من قناة طهران تحديدًا (وهو شاهد آخر بالمناسبة على عدم توفيق الخطاب).
أما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت تعزية حماس لحزب الله “بشهداء المقاومة اللبنانية على الأرض السورية” بعد قصف وقتل دولة الاحتلال لعدد من قادته في القنيطرة السورية، وبعيدًا عن جدال رسالة الضيف قائد كتائب القسام، التي يبدو أنها غير صحيحة وإن صحت فهي غير مسبوقة ولها دلالاتها الخاصة جدًا، فإن رسالة حماس وتعزيتها ليس فيها ما يعيب لناحية المضمون (عكس ما يعتقد الكثيرون) ولها ما يبررها من عدة وجوه، فالحركة لم تقدم للحزب عزاءً بمن قضوا سابقًا من جنوده في سوريا بل في مجموعة محددة قصفها العدو الصهيوني مما يفرد للحدث أهمية خاصة.
كما أن المجموعة قُتِلت في القنيطرة على الحدود مع فلسطين المحتلة حيث تقول رواية الحزب ووسائل إعلامه إنهم كانوا يخططون لعمل مقاوم من هناك، كما أن رسالة حماس تضمنت رسالة واضحة للحزب بتوحد السلاح نحو العدو الأوحد “إسرائيل”.
لكن، رغم هذا المضمون الذي قد يبرر لحماس ما قامت به، يبقى الأسلوب وصياغة المفردات والسياق طاغين على الرسالة وذاهبين بها إلى معنى آخر معاكس، لقد ظهرت حماس وكأنها تسترضي الحزب ومن خلفه إيران أكثر منها تعزي ببعض قتلاه، وكان في التشديد على ألقاب الشهادة والمقاومة – رغم حساسية الظرف – دلالات واضحة على أزمة الخطاب الحمساوي، الذي بدا متناسيًا لسياق وجود عناصر الحزب في سوريا وما قاموا ويقومون به على أرضها.
لقد بدت حماس وكأنها ابن عاق يعنّفه والده لكي يعيده إلى جادة الصواب، كما بدت في أكثر من مناسبة وكأنها تقرأ نصًا كتبه الإيرانيون كلمة كلمة، أو كأنها تستجدي رضاهم لطي صفحة الماضي، كان يمكن للحركة المقاومة أن تختار صياغة أقل وضوحًا وحدة، وأن تستثمر خبرتها السياسية في تجنب المطبات في الحدث الراهن، مثل أن تكتفي بشجب القصف الصهيوني على “الأراضي السورية” وتطالب الحزب بالرد، متجنبة صياغات مثل “المقاومة اللبنانية في سوريا” أو “الشهداء”، ومركزة في خطابها – بشكل أوضح – على ضرورة عودة الحزب لمعركته الأصيلة والعادلة مع العدو الصهيوني.
على حماس أن تحسن تلمس التغيرات الكبيرة التي طرأت على المنطقة، فلم تعد دولة الكيان يقينًا “العدو الأوحد” بالنسبة للكثيرين، بل لم تعد “العدو الأول” بالنسبة للبعض، وانتفت بذلك الخصوصية التي كان يحتفظ بها الكثيرون لحماس، وعليها – رغم أزماتها – ألا تقدم خطابًا دونيًا، فموقفها لم يكن يومًا ما خاطئًا في سوريا، كما أن تيار الأحداث يمكن دائمًا أن يغير وجهته بين يوم وليلة. إنه لمن المستهجن أن تتفق حماس مع “محور إيران” على تجنيب القضية السورية وعدم تناولها في السر (بمعنى رفض الحركة تأييد النظام او حرب الحزب وإيرالن هناك)، بينما تفعل ذلك في العلن، وقد كان من المفهوم سياسيًا أن يحدث العكس مثلاً.
على حماس أن تعود لاتزان خطابها وألا تحاول تصحيح الخطأ بخطأ في الاتجاه المعاكس، وأن تدرك أن أسلوب الخطاب يغدو في معظم الأحيان أهم من المضمون بكثير، فذلك أجدر أن يكون في صالحها، أولاً من الناحية النظرية الأخلاقية حيث لا تتناقض مع مبادئها، وثانيًا من الناحية العملية البراغماتية، حيث لا يجب أن تغامر بخسارة تعاطف ودعم أطياف مهمة من الشعوب العربية والإسلامية (التي طالما كانت سندها الأول) في مقابل دعم متوهم أو مرجو من حلفاء الأمس الذين بدوا مستمتعين بالاستماع إلى خطابها الحالي، معتبرينه توبة يفكرون في قبولها من عدمه.
هكذا، أدت أزمات حماس إلى خطاب مأزوم ومرتبك (وأحيانًا مهين لها)، ويبدو أن هذا الخطاب نفسه سيؤدي بها إلى أزمات أخرى، الأمر الذي يحتاج منها إلى وقفة مراجعة سريعة وحاسمة للخروج من هذه الحلقة المفرغة من الخسائر المتواصلة في الفترة الأخيرة.