بدأ اليهود في الاستقرار بالمغرب منذ ما يزيد عن ألفي سنة، وعلى مدى قرون تعايشوا بسعادة جنبًا إلى جنب مع المسلمين، وظل المغرب حتى وقت قريب يعتبر موطن اليهود الأول في العالم العربي، حيث كان يعيش فيه ما يزيد عن مائتين وخمسين ألفًا من اليهود والذين كاوان يمثلون 10% من السكان هناك، الأمر الذي تغير تمامًا بعد تأسيس إسرائيل عام 1948.
ولكن قديمًا، وبعد الفتح الإسلامي لبلاد الشمال الأفريقي، استقرت وضعية اليهود بالمغرب، حيث اكتسبوا وضعية أهل الذمة، فكان موقف المسلمين منهم عدم الاعتداء عليهم، وعدم التدخل في شؤونهم.
وعلى العكس من أغلب الدول التي كوَّن فيها اليهود مجتمعات منغلقة على نفسهم، فإن يهود المغرب اختلطوا أكثر بنسيج المجتمع هناك، وظلوا يعيشون بجوار القبائل العربية والبربرية، وتطبعوا بطباعهم، واكتسبوا منهم الكثير من العادات كيهود المدن الذين آمنوا بتعدد الزوجات تأثرًا بالمجتمع المسلم في المدن، وكذلك كان يهود القرى والجبال والذين تأثروا بالبربر واكتفوا بالزواج الأحادي.
ولأنه لا يوجد حقًا ما يسمى بالـ “هوية اليهودية”، حيث إن اليهود في مختلف المجتمعات طوروا هوية خاصة بهم في كل مجتمع، نظرًا لغياب سلطة يهودية مركزية (دينية أو دنيوية) كما يقول المفكر عبد الوهاب المسيري، الهوية التي طورت من خلال الاحتكاك والتأثر بالتشكيلات الحضارية المختلفة، ولكن مع استقلال نسبي عن هذا السياق الحضاري، شأنها شأن الجماعات الإثنية والدينية، فقد كان أمرًا طبيعيًا أن يحدث هذا الاختلاط، وتبدأ أحياؤهم السكنية التي أُطلق عليها اسم “الملاح” في الظهور وسط المدن والقرى المغربية، بل إن الأمر وصل أحيانًا أن يكوَّنوا ما يصل إلى 50% من بعض المدن، كما في مدينة الصويرة، أو أن يسكنوا في نفس الأحياء مع المسلمين مثل مدينة وجدة.
اشتهر اليهود في العمل بالصناعات الحرفية والتجارة، ولم يرتبطوا بالزراعة بشكل عام، واستطاعوا تكوين قوة اقتصادية، جعلت من السلاطين والأمراء فيما بعد يستعينوا بهم في مسائلهم التجارية، وأحيانًا كان لهم نصيبًا من المناصب الاقتصادية والدبلوماسية في المغرب.
استمر هذا الاستقرار لليهود في المغرب حتى الحرب العالمية الثانية، تحديدًا عام 1939 عندما سقطت فرنسا فى يد الاحتلال الألماني، وكانت عندها المغرب إحدى المستعمرات التابعة لفرنسا، ثم قامت الحكومة الألمانية بتعيين حكومة فيشي الفرنسية والتي كانت موالية لهتلر؛ فقامت الحكومة الجديدة بسن نفس القوانين النازية التي تخص اليهود وإرسالهم إلى معسكرات في ألمانيا وبولونيا، ليصبح مصيرهم بعد ذلك الاعتقال أو الإبادة، ولكن محمد الخامس، ملك المغرب آنذاك، رفض تلك القوانين، وامتنع عن تسليم رعاياه اليهود لألمانيا، مؤكدًا أنه ليس ملكا للمسلمين فقط وإنما ملكًا لكل المغاربة.
الهجرة
أدى الخوف من أن استقلال المغرب عن فرنسا في نهاية المطاف سيؤدي إلى اضطهاد اليهود في البلاد، بالإضافة إلى خطاب الحشد لأرض الميعاد وإقامة دولة يهودية تمثل المرجعية الدينية والدنيوية لليهود، إلى حدوث حركة نزوح واسعة النطاق لليهود من المغرب.
لعب في ذلك الموساد الإسرائيلى (وكالة الاستخبارات الإسرائيلية) دورًا رئيسيًا، حيث استطاع إقناع المغاربة اليهود بالخطر المحدق بهم إذا ما ظلوا في المغرب، ثم عمل بعد ذلك على تسهيل مغادرتهم وهجرتهم إلى فلسطين، حيث نظم الموساد طريق سري للهجرة، عن طريق البحر المتوسط ابتداءً بكازابلانكا مرورًا بمضيق جبل طارق، ثم الوصول إلى الشواطئ الفلسطينية.
“ساعدتهم في حمل الأمتعة، عندما كانوا يستقلون الحافلات، وعندما غادروا، ذهب معهم طعامهم الرائع، ولم نعد نرقص الأحراج التقليدية مرة أخرى، لم نكن نريد منهم المغادرة”، يقول الرجل المسن من بلدة أجويم المغربية، في فيلم وثائقي للجزيرة الإنجليزية عن المغاربة اليهود.
إلا أن بيوتهم القديمة وسط الدار البيضاء والرباط، ومحلاتهم المغلقة، التي حوفظ عليها كما هي إلى الآن، ستشهد أنهم رحلوا تاركين وارءهم كل شيء تقريبًا، الذكريات والوطن، يهربون من المجهول ويطاردون أرضًا لن تف بوعودها لهم.
بدأت الهجرة بشكل ضخم، فعلى حد وصف إحدى المهاجرات التي استطاعت العودة مرة أخرى، فقد كانوا يملأون أرصفة الميناء، كانوا كلهم يرحلون، الأمر الذى كان مخيفًا بالفعل – على حد وصفها – ودفعها للتفكير والسفر، فهي لم ترد أن تبقى وحدها فى نهاية المطاف.
في عام 1956، نالت المغرب استقلالها من فرنسا، وأمر الملك محمد الخامس عندها أن تتوقف الهجرة إلى فلسطين، مع وعوده بتقديم الحقوق الكاملة لليهود المغاربة، وتوقفت عملية تسهيل إعطاء الجوازات لليهود ولكنها لم تُمنع تمامًا.
ولكن الهجرة استمرت سرًا حتى عام 1961، وحتى تولي الحسن الثاني والذي رفع هذا الحظر مرة أخرى، بعد غرق سفينة كانت تحمل مهاجرين يهود وأسفرت عن غرق 44 شخصًا.
بحلول عام 1973 بلغ عدد اليهود المغاربة في فلسطين نحو 400 ألف شخص، لم تكن توصف حالتهم حينها إلا بالسيئة للغاية؛ فظروفهم الاقتصادية أصبحت متردية للغاية، كما عوملوا كأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وتم تسكينهم في أطراف المدن بلا خدمات تقريبًا وبدون أدنى أنواع الرعاية؛ كل هذا جعل الكثير منهم يفكر في العودة إلى المغرب مرة أخرى خاصة وأن القانون المغربي لا يُسقِط الجنسية المغربية عن حامل أي جنسية أخرى، واستطاع العديد منهم العودة بالفعل، لكن الأغلب ظل هناك لعدم استطاعتهم تحمل تكاليف العودة.
أما من بقوا فس المغرب فيرون أنه كان الخيار الأصوب، حيث إنهم اكتشفوا فيما بعد أن كل ما قيل وقتها كان إشاعات من المنظمات الصهيونية، والتى – على حد وصفهم – كانت مرعبة ومركزة للغاية.
يُقدّر عدد اليهود في المغرب الآن بحوالي 5 آلاف يهودي في أقصى التقديرات، هؤلاء اليهود الذين يعيشون في المغرب بشكل دائم ولم يهاجروا منها، بينما يقدر عدد من يقيم فى المغرب ولكن بشكل غير دائم ويعيش فى إسرائيل في الأساس بحوالى خمسة آلاف آخرين.
وتتزايد الآن الدعوات في المغرب بالبدء بمقاطعة إسرائيل على عدة مستويات، منها منع دخول الإسرائيليين إلى المغرب، يذكر أن المغرب شريك تجاري رئيسي لإسرائيل فى الشرق الأوسط وتجمعهما الكثير من العلاقات التجارية منذ الثمانينات.