ترجمة وتحرير نون بوست
جلست أولجا كِسيدو، في عيادة بِريستِري Peristeri التضامنية، وأخذت تحدثني عن نفسها، “حين كنت طالبة منذ زمن، كنت أود لو أشارك في واحدة من تلك الجهود التطوعية في أفريقيا، وأتخيل نفسي وأنا أعالج المرضى في بلد فقير، ولكن لم يخطر ببالي أبدًا أن يحدث ذلك بعد سنوات طويلة في حي بأثينا”.
في الحقيقة، لم يكن أحد باليونان يتوقع منذ خمس سنوات فقط أن يصل الركود والتقشف باقتصاد اليونان إلى ما هو عليه الآن: 1.3 مليون يوناني عاطل عن العمل (26٪ من القوى العاملة)، وهبوط بنسبة 38٪ في الرواتب، وبنسبة 45٪ في المعاشات، وبنسبة 25٪ في الناتج القومي، وارتفاع نسبة السكان تحت خط الفقر لتصل إلى 32٪.
لكن كل ذلك قد حدث في سنوات قليلة، وها هي أولجا مع زملائها من الأطباء تقضي يومها في تلك العيادة المزدحمة لتعالج المرضى الذين لولاها لما استطاعوا الحصول على الرعاية الصحية، حيث تستقبل العيادة من لا يغطيهم أي تأمين صحي، وهم الآن حوالي ثلث سكان اليونان.
“لم يكن ممكنًا أن نقف ونشاهد ما يحدث لكل هؤلاء الناس، وكل تلك العائلات وهي تُقصَى من منظومة الرعاية الصحية، دون أن نحرّك ساكنًا، فبسبب الأزمة يخسر أي يوناني تأمينه الاجتماعي إذا ظل عاطلًا لأكثر من عام، وهو ما يعني معاناة للملايين من الناس في الحصول على حق رئيسي من حقوقهم، وهو ما دفعنا لفعل شيء لأجلهم: إنه التضامن”.
شبكات التضامن
مركز بريستري هو واحد من أربعين مركزًا آخر نشأ بطول اليونان وعرضها منذ نهاية الاحتجاجات الكبيرة ضد التقشف عام 2011، منها 16 فقط في أثينا تعالج أكثر من 30.000 مريض شهريًا، وهي تستخدم الأدوية التي يتم التبرّع بها نظرًا لارتفاع أسعار الأدوية الرسمية، كما تأتيها أحيانًا الأجهزة الطبية من الدعم الخارجي، فجهاز السونار في مركز بريستري قدمته مجموعة ألمانية، وتطعيمات الأطفال أتت من فرنسا.
كل تلك العيادات هي جزء من حركة سياسية أوسع تضم أكثر من 400 مجموعة مختلفة يديرها المواطنون بأنفسهم: مراكز الطعام التضامنية، والمطابخ الأهلية، والتعاونيات، وشبكات توزيع المنتجات الطازجة، ومراكز الدعم القانوني، والدروس التعليمية، وغيرها، وهي جهود نشأت كرد فعل للانهيار شبه التام لمنظومة الرفاهة اليونانية التي من المفترض أن ترعاها وتقدمها الدولة، وقد تضاعف عدد شبكات ومبادرات التضامن تلك على مدار السنوات الثلاث الماضية.
يقول خريستوس جيوفانوبولوس من أحد مكاتب “التضامن للجميع” في أثينا، والتي تقدم الدعم اللوجستي والإداري لحركة التضامن، “كل ذلك يحدث لأن السياسة في نهاية المطاف ما هي إلا تفاصيل الحياة اليومية للأفراد، أو هكذا يجب أن تكون: هل تملك هذه الأسرة ما يكفيها من طعام؟ هل يملك ذلك الطفل الكتب المطلوبة للدراسة؟ هل يتعرّض هذان الزوجان لخطر الطرد من منزلهما؟ وهكذا”.
إلى جانب جهودها في مساعدة اليونانيين، تحاول حركة التضامن أن تخلق معنى جديدًا للسياسة: السياسة من أسفل لأعلى، والتي تبدأ باحتياجات الناس الأساسية، كما يقول خريستوس، وهو نموذج يُعَد نقدًا للسياسة الحزبية التقليدية والديمقراطية التمثيلية الجوفاء التي تدور من أعلى إلى أسفل، “إنه نموذج جديد كليًا، وهو يعمل بشكل جيد في الحقيقة”
سريزا وتوطيد حركة التضامن
بالنظر للتوقعات بفوز سريزا في الانتخابات اليونانية التي تجري اليوم، من المتوقع أن تلعب تلك الحركة دورًا أكثر رسمية في المستقبل، وأن تزداد توسعًا وتوطدًا، فحين تم انتخاب أعضاء من سريزا لأول مرة في البرلمان اليوناني وخرج منهم 72 برلمانيًا، قرروا منح 20٪ من رواتبهم لصندوق التضامن الذي يموّل “التضامن للجميع”، بل إن بعضهم، والذي يملك الحق في إجراء مكالمات مجانية نظرًا لعضويته بالبرلمان، قد أعطى ذلك الحق للمشاريع المحلية في دائرته.
من مكتبها الذي عملت به سابقًا كمعمارية، تقوم الآن ثيانو فوتيو، العضوة باللجنة المركزية لسريزا، بالتخطيط لبرنامج الحكومة الأول، وهو ضمان ألا تكون هناك عائلة واحدة بلا كهرباء أو مياه، (إذ تم قطع الكهرباء لتسعة أشهر عن حوالي 240.000 منزل بسبب عدم دفع الفواتير)، وألا يكون هناك يوناني بلا مأوى، وأن ترتفع قيمة المعاشات الأقل في البلاد، وأن يتم العمل على تقليل نسبة الفقر بين الأطفال، والتي وصلت إلى 40٪، وهو برنامج تخطط له ثيانو بعد أن ألهمتها وعلمتها مشاركتها في حركة التضامن الكثير عما يدور على الأرض في اليونان.
“لقد تعلّمنا كثيرًا من قدرة الناس على الابتكار، وأصبحنا أكثر فهمًا لظاهرة الفقر واحتياجات الناس، ولكيفية توزيع الأطعمة وتوفير الأدوية، إننا نمتلك الآن وعيًا لكيفية سير الحياة في بلد يمر بأزمة إنسانية وكارثة اقتصادية بشكل واضح، وهو أمر شديد الأهمية في اليونان اليوم”، هكذا تقول ثيانو.
الحراك الواسع
كان الهدف الرئيسي لكل من ساهموا في البداية هو المساعدة ليس إلا، ولكنهم مع الوقت أصبحوا مسيّسين بدرجة ما، ففي حي إيجاليو غربي أثينا، تقوم فلورا توتنتزي، خادمة المنازل، وأنطونيس مافرونيكولاس، معبّئ الأطعمة، وثيوفيلوس موستاكاس، مدرس المرحلة الابتدائية، مع مجموعة من السكان بجمع الطعام الذي يتبرع به أصحاب المحال والمتاجر وتقديم حزمة أساسية للفقراء تضم الأرز والسكر واللبن والحبوب المجففة، وهي حزمة تصل لحوالي 50 أسرة مرتين شهريًا.
يقول أنطونيس، “إحدى الأسر تضم حوالي ستة أشخاص وتعيش على معاش الجدة البالغ 400 يورو شهريًا، وأخرى لا تملك المياه منذ أكثر من شهرين، ونحن نحاول مساعدتهم بالتأكيد، ولكن الأهم أنهم لا يتلقون المساعدة فقط، ولكن يشاركون في الحملة، ويساعدون غيرهم، لقد ساهمت أزمة اليورو في تحريك وتسييس الكثيرين وجعلت من اليوناني العادي أقل انعزلًا من ذي قبل”.
على الناحية الأخرى، في حي إكسارخيا بقلب أثينا، تقوم طونيا كاتريني، معمارية عاطلة عن العمل، مع 14 آخرين بإدارة بقالة تعاونية تبيع حوالي 300 منتج، من الدقيق والبرتقال وزيت الزيتون والخبز وحتى المكرونة والأعشاب، وهو مشروع ينمو بسرعة، بل ويحقق أرباحًا حتى إن القائمين عليه أصبحوا يتقاضون منه أموالًا تبلغ 3 يورو للساعة الواحدة.
تُعَد تلك البقالة ثمرة لسوق “بلا وسطاء”، وقد كانت واحدة من 30 سوقًا أخرى منتشرة في كافة أرجاء العاصمة، ومئات أخرى في اليونان كلها، تُعقَد مرة شهريًا، وهي معروفة بأنها بلا وسطاء أي بدون العمليات الوسيطة التي تنفق فيها المتاجر الكبرى أموالًا طائلة، فتلك المجموعات تقوم بشراء المنتجات من المزارعين مباشرة بسعر أعلى بـ 25٪ مما يبيعون به للمتاجر الكبرى، في حين يدفع المستهلك أسعارًا أقل من أسعار السوق بحوالي 25٪.
تبيع طونيا، بعد أن أصبح السوق بقالة ذات مقر ومفتوحة بشكل دائم، 90٪ من منتجاتها بلا وسطاء، وهي تقول إن 60٪ مما تبيعه أقل كثيرًا من أسعار السوق العادية، كما تأتيها منتجات عدة عن طريق مشاريع تضامن أخرى، فالصابون الذي تبيعه مثلًا تقوم بإنتاجه مجموعة من 10 عاطلين في حي جالاتسي.
تجربة جديدة
“كل تلك المشاريع مهمة جدًا، ليس لأنها تساعد الناس، ولكن لأنها تعد بذرة لمجتمع من نوع جديد، فهي أشبه بالديمقراطية المباشرة بلا هرمية، وهي تدور بتولي المواطنين للمسؤوليات بشكل مباشر، واستخدام كافة مواهبهم ومهاراتهم في الإنتاج”، هكذا تقول طونيا.
كاترينا كنيتو، إحدى الناشطات بحركة التضامن كجزء من مجموعة محامين، والتي قضت السنوات القليلة الماضية في محاولة إنقاذ يونانيين على وشك فقد منازلهم، تعمل مؤخرًا مع الأسر اليونانية التي قد تواجه أوامر بإخلاء منازلها، وهي ظاهرة تهدد أسرة من كل ثلاثة باليونان لسبب من اثنين: عدم القدرة على دفع الضريبة الجديدة، وهو حال أكثر من مليوني يوناني، أو عدم القدرة على تسديد ديونها للبنوك، وهو حال أكثر من 300.000 أسرة، كنيتو هي أيضًا عضوة بسريزا، وتعطي استشاراتها القانونية بلا مقابل لكل من يلجأ لها لكيلا يلاقوا مصير حوالي 700 أسرة فقدت منزلها لصالح الدولة أو البنوك في الأشهر الستة الأخيرة.
“كل ما يجري في اليونان الآن يجعل الكثير منا أكثر وعيًا، ليس فقط بسبب ما يواجهه، ولكن لأنه يرى بأم عينه ما يستطيع أن يقوم به على الأرض، كما أن التوقعات سترتفع أكثر بعد الانتخابات والتي ستأتي بسريزا على الأغلب، ولكن سريزا وحده لا يملك القدرة على فعل كل شيء، فالأمر كله بأيدينا نحن لتغيير الأوضاع، وحركة التضامن دليل على ذلك، وهي بداية جيدة لتجربتنا الجديدة”.
المصدر: الغارديان