الصورة: “ما هو أكبر مخاوفك؟ – أن أكبر وحيدة، أو أن تغطيني الحشرات!”
“أتقوم بتصوير البشر العاديين في الشارع؟ دعني أقول لك أنني أذهب إلى معارض تصوير شتى، وإذا أردت أن تنجح بالفعل، يجب عليك أن تصوّر صورًا أكثر جنونًا من التي تصوّرها الآن، ثق بي وافعلها! جرّب أن تصوّر العرايا مثلًا!”
هكذا قال أحدهم لبراندون ستانتون وهو يصوّره كما فعل ويفعل مع الآلاف من قاطني مدينة نيويورك، والذين يضع صورهم على موقع www.humansofnewyork.com، وعلى صفحة بنفس الاسم على الفيسبوك.
في عام 2010، فقد ستانتون وظيفته في إحدى البنوك، وأخذ يتجوّل بالكاميرا الخاصة به ويصوّر الغرباء بهدف جمع ألبوم كبير عن قاطني المدينة، وهو مشروع شخصي سماه هيومانز أوف نيويورك (بشر نيويورك) ما لبث أن ذاع صيته، ووصل عدد معجبيه على الفيسبوك إلى أكثر من عشرة ملايين، ومئات الآلاف من المتابعين على تويتر وتمبلر.
التقاط الصورة والتقاط اللحظة
“أروع لحظات حياتي كانت في بوتسوانا، وكنا على مركب ولم ندري أن هناك خسوفًا هذه الليلة، ثم فوجئت بأن القمر يحتجب رويدًا رويدًا حتى اختفى تمامًا، وأضاءت مجرة درب اللبانة السماء بالكامل حتى عاد القمر إلى كامل ضيائه،” قد لا تبدو تلك اللحظات عن الخسوف غير المتوقع كافية لخلق رواية أو حكاية أو فيلم، ولكنها على ما يبدو خلقت مشاعرًا كافية لجذب الآلاف من المعجبين على صورة صاحبتها وزوجها على الفيسبوك، والذين شاركوها بتعليقاتهم إحساسها بالاندهاش والروعة آنذاك، دون حاجة إلى بداية ونهاية كما في القصص التقليدية.
على العكس من السينما، يدخل أبطال هيومانز أوف نيويورك إلى الكادر مباشرة، وبحكايات خام، دون حبكة أو سيناريو أو محاولة إضفاء تفاصيل مثيرة أو لمسة غير واقعية، أو حتى واقعية تعطي نسقًا كاملًا، فهيومانز أوف نيويورك ليست سوى لقطة واحدة، لا فيلمًا طويلًا، ولكنها ليست لقطة صامتة كما في فنون ما بعد الحداثة المعادية للغة في معظمها، والتي يحار المرء في معناها إن كان لها معنى أصلًا، فهي لقطة حية لا غِنى فيها عن اللغة تأتيك مع جملة قصيرة من حيوات أصحابها، والتي قد لا تكون مثيرة بما يكفي لفيلم، ولكنها مهمة فقط لأنهم أصحابها ليس إلا، ولأنهم موجودون في الحياة، ولأنهم هم الواقع الذي قد لا يهم كثيرًا كاميرات هوليوود الباهظة، ولا يملك ملياراتها ليصل بصورته إليك، كما أنه ليس شاذًا بما يكفي لخلق صورة ما بعد حداثية تجذب الجمهور بصدمها إياه، ولكنها تجذبه ببساطة لأنه يرى جزءًا من نفسه فيها، كما أنه يجد نفسه بطلًا دون الحاجة إلى الموهبة أو المال أو الحبكة، فمنابر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة قد أعطت له نافذة، ولم يكن ينقصه سوى مصوّر غير مهتم بالتصوير في شكله الكلاسيكي أو المحترف، ولا بمعارض المصورين الكبرى.
بهذا المعنى، تعتبر لقطات ستانتون في الحقيقة لقطات ذات بعد رابع، بجانب الأبعاد الثلاثة المكانية التي تأتينا منها، وذلك البعد ليس بعد بالمعنى الفيزيائي، كما في السينما ثلاثية الأبعاد، ولكنه بُعد بالمعنى المفاهيمي، فالكثير من الصورة التي يلتقطها ستانتون قد تكون كافية كقطعة فنية بحد ذاتها، ولكن الهدف الرئيسي لهيومانز أوف نيويورك ليس التقاط الصورة، ولكن التقاط اللحظة ذاتها، الصورة المعبرة عن المكان ثلاثي الأبعاد، والبعد الرابع الذي ينقل المعنى الكامل خلف الابتسامات، أو الدموع، أو المشاعر أيًا كانت، الموجودة في الصورة، وإدراكك أن الواقف أمامك ليس مجرد صورة، ولكن إنسان بكل أبعاده، على عكس صورة “المودلز” التي تملأ محلات الملابس وغيرها، أو الكثير من صور المحترفين التي تملأ المعارض، باستخدام الكاميرا إذن، فإن ستنانتون يتجاوز المفاهيم والاستخدامات التقليدية للكاميرا نفسها.
بحد ذاتها، تعتبر كاميرا ستانتون ما بعد حداثية بمعنى أنها تتجاوز مفاهيم الحداثة الصلبة عن الفن والتصوير والحكاية والصورة، ولكنها في نفس الوقت تتجاوز مدرسة ما بعد الحداثة نفسها، والتي فككت كل ذلك لتحيله إلى العدم ليس إلا، فهي ما بعد حداثية بتحررها من ضرورة وجود سردية كاملة وشاملة، ولكنها في نفس الوقت تحيل إلى معنى، والمعنى هنا شديد البساطة، هو أن الحياة هي الموجّه الرئيس للكاميرا وليس العكس، فستانتون لا ينطلق من فلسفة واضحة، أو من فكرة معيّنة، كما هو الحال في أغلب المدارس الفنية المحترفة، ولكنه ينطلق من الحياة وفقط، متيحًا لها أن تسيّر دفته بالكامل، وهو ما اكتشفه أصلًا دون تخطيط مسبق، كما قال سابقًا، إذ أتته فكرة المشروع والموقع أثناء التسكع في شوارع المدينة ليس إلا؛ الحياة ألهمته فكرة لم يكن ليجدها في كتب الفكر والفن كافة، وهو منذئذ قد ترك لها زمام الأمور.
الميدان الافتراضي و”دمقرطة” المجال العام
لمست هيومانز أوف نيويورك الكثيرين، ولربما غيّرت من مسار حياة البعض كما يقولون، أو أوصلتهم بأصدقاء لم تكن مسارات حياتهم لتتيح لهم لقاء، بل وهي تشق طريقها، مع غيرها من الظواهر والأنشطة التي تدور على وسائل التواصل الاجتماعي، نحو خلق ميادين في المجال العام الافتراضي على الإنترنت أكثر ديمقراطية من ميادين المجالات العامة الحقيقية، ورغم أن الافتراضي لا يمكن أن يحل محل الواقع، إلا أنه يستطيع أن يؤثر فيه بشكل كبير.
بنيامين هرندون، المهتم بالتصميم، والذي لم تلقى أعماله أي اهتمام في مدينة تهرول خلف العمالقة، نجح بعد أن ظهر على الصفحة في جذب الأنظار، وتلقى سيلًا من الرسائل على بريده الإلكتروني مهتمة بأعماله، ونجح في الحقيقة في بيع جزء منها، ثم بدأ في تلقى دعوات للمشاركة في العروض من جهات عدة، وبالمثل، فوجئ جوناثان شنيفايس، كاتب الخيال العلمي، بمئات من الرسائل على بريده وآلاف المتابعين على صحفته على الفيسبوك بعد أن ظهر على صفحة نيويورك وطرح تساؤلات عن جدوي الواجبات المدرسية وأساليب التعليم الحديث.
هناك الآلاف أمثال بنيامين وجوناثان، وتستطيع رؤيتهم على الصفحة، منهم من ساعدته الصفحة على الترويج لنفسه، وأعطته منبرًا للتواصل والوصول لا يقل أهمية عن الإعلانات اليومية التي يغرق فيها التلفاز، ولكن دون نفس التكاليف والإجراءات، ومنهم من وجد في الصفحة مجرد منبرًا للتعبير عن نفسه ليس إلا، أو لمشاركة مشاعر ومعاني ما مع من قد ظنوا أنها لم تعد موجودة أصلًا.
قد يقول البعض بأن براندون لا يفعل سوى ما تهتم به الكاميرا الأمريكية طوال الوقت، وهو محاولة خلق أبطال ووضع الفرد في المركز، ولكن الحقيقة هي أنه يفعل العكس تمامًا، فالمسألة ليست مجرد تصوير فرد واقتباس جزء من حياته في كلمات ووضعها لأكثر من عشرة ملايين متابع، فهي تنقل فكرة البطل إلى الشارع وتزيح عنها رونق هوليود، وتجعل منها واقعًا يتجاوز الإطار الموحّد، وتقول لكل من ظهروا أنهم جديرون بالظهور في الكادر، هي محاولة لدمقرطة الصورة Democratization of the Image مثلما تمثل مواقع مثل اليوتيوب والفيسبوك محاولة لدمقرطة الإعلام عبر إتاحة القدرة على العرض والتأثير للملايين فقط باستخدام الإنترنت وتقنيات بسيطة، وهي ليست ديمقراطية العرض فقط، ولكن ديمقراطية الملكية، فالصورة الموجودة في الواقع ملك للجميع، ولا يمكن بنظام أن يدعي ملكيتها الحصرية ووضعها في المتحف، أو لفنان أن يحبسها في معرضه الخاص، فهي تسري بين الجميع وبضغطة زر “المشاركة” على الفيسبوك.