توفيت كلٌ من شيماء الصباغ وسندس رضا في اليومين الماضيين بعياري خرطوش ميري في الوجه. وماتت كلتيهما أيضاً في مسيرات هدفها المناداة بالعودة إلى أهداف ثورة يناير. إلا أن ما يفصل بين أمينة العمل المجتمعي بحزب التحالف الشعبي والطالبة ذات السبعة عشر عاماً والتي يزعم انتمائها لجماعة الإخوان أكبر من ذلك بكثير.
كان حزب الجبهة الشعبية أحد الأطراف المؤيدة بشدة لحركة الثلاثين من يونيو وما تبعها من سياسات مدعومة من قبل أجنحة رئيسية في الدولة المصرية. ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الموقف السياسي يأتي كجزء أصيل من خلاف أيديولوجي وبراغماتي ضخم بين أحزاب اليسار المصرية والقوى السياسية الإسلامية عموماً في مصر.
إلا أن الواضح هو أن كل من هذين الطرفين ينتهي به الأمر بالدخول إلى تحالفات غير محسوبة النتائج مع أجهزة الدولة لتحييد القدرة السياسية للآخر بين الفترة والأخرى. ومن المؤكد أيضاً أن الكاسب الوحيد من هذه الاستراتيجية يكون هو جهاز الدولة.
ينتشر مثل قديم في أوساط المشتغلين بالقمار بالولايات المتحدة؛ يقول هذا المثل “دائماً ما يفوز المحل”، أي أن الفندق أو الكازينو أو أياً ما كان الكيان المنظم لعملية القمار هو الذي يخرج من لعب الغرماء فائزاً، وأن كل خسارة لهم هي فوز له. ومن المعروف أيضاً أن أي محاولة للاعتراض على النتائج من قبل الأطراف دائماً ما تقابل بعنف وقمع من المسؤولين عن تنظيم اللعبة.
من المغري استخدام مثل هذا المجاز لفهم طبيعة التوازنات والتحالفات الحادثة بالمجال السياسي المصري. ففي ظل غياب توزيع واضح وقاهر للقوة بين الأطراف، وغياب بل وعدم إمكانية عمل نظم الشفافية الديموقراطية الغربية في مثل السياق الثقافي والسياسي المصري بخصوصياته؛ تتحول العملية السياسية في مصر إلى شكل من أشكال القمار. وتصبح عمليات التفاوض والتقارب السياسي بين الأطراف والدولة أقرب لعمليات الاستنادة من صالات القمار للعب بها؛ عملية شديدة الخطورة وغالباً ما تنتهي بشكل عنيف.
قامت أغلب القوى اليسارية بدعم الانقلاب العسكري في مصر بشكل علني، وكان من الواضح أن سلسلة المذابح في محيط ميدان رابعة العدوية لم تكن كافية كمبررات للشك في نوايا هذا الانقلاب، بل والأهم من ذلك وهو العقلية الحاكمة لإدارة هذا النظام للعمل السياسي ورؤاه للحقوق والحريات الإنسانية الأساسية في مقابل هواجس كالأمن والاستقرار. كانت القوى اليسارية على قدر من اليأس من التعامل مع حكومات الإخوان المسلمين بما سمح لها بالاقتراض من دائن تعلم تماماً أنها غير قادرة على صده، في رهان شابه تماماً رهانات سابقة لجماعة الإخوان المسلمين.
قتلت سندس بالاسكندرية، وقتلت شيماء في محيط ميدان التحرير. هذه التفرقة المساحية باتت واضحة منذ بدأ دفع قوى الإسلاميين بعيداً عن ميدان التحرير حتى قبل الثلاثين من يونيو. على أن موقف قيادة الإخوان المسلمين من هذا الدفع وتقبلهم له كان دلالة واضحة على رؤيتهم لموقفهم من مساحة الثورة والاعتراض، وكان اختيار مكان مثل ميدان رابعة العدوية دليلاً واضحاً على رؤيتهم لأنفسهم ومن معهم للقوى بشكل يختلف بشكل جذري عن ما تعلق بميدان التحرير من خصائص لثورة الخامس والعشرين.
إلا أن الواضح حالياً هو أن كل المساحات العامة بمصر ترضخ بالأساس لآلتي القتل والقمع السياسي للدولة ولا تلقي بالاً لتوجهات المدين السياسية أو الدينية. فأنت إن لم تدفع الدين، سيتم تحصيله منك بشكل أو بآخر، وسوف تمنع من اللعب مرة أخرى لأنك مواطن غير آمن.
من الممكن أن يطرح تساؤل متفائل عن إمكانية مقاطعة كافة الأطراف لهذا الكيان وتوحدهم ضده إذ يدور بالقتل والقمع فيهم. إلا أن هذا التساؤل يفتقد للنظرة التاريخية والبنيوية التي تسمح له برؤية تكون إطار كل هذه القوى في إطار كيان الدولة المصرية الحالي بكافة خصائصها. وبذلك يصبح من المستحيل التعويل على أي حالة أو كيان أو قوة لم تستطع تحرير نظرتها من المقولات والزعائم الرئيسية لكيان الدولة فيما يخص وحدة الشعب المصري والإرادة الشعبية وموقع ومهام الدولة وما إلى ذلك.
وبذلك تصبح الثورة الهدامة هي الحل الحقيقي، فالبنى الموجودة بالفعل تفرض تصوراتها على كل من يعمل بها. ودائماً ما سيفوز المحل.