ترجمة وتحرير نون بوست
قد يظن الكثيرون أن ما جرى لأسعار النفط في الأشهر الأخيرة مجرد أزمة في تاريخ الأزمات التي تعرّضت لها أسواق النفط، ولكن الواقع هو أن ما جرى يجسّد تحولًا تاريخيًا في الدور الذي تقوم به السعودية ودول الخليج في ضبط الأسعار، والتي كانت تزيد وتقلل من إنتاجها في السابق لتتحكم في السوق.
مؤخرًا، عبّرت السعودية عن رغبتها في التخلي عن ذلك الدور، كما رأينا في اجتماع دول أوبك في فيينا في نوفمبر الماضي، حين قال وزير النفط السعودي، علي النعيمي، إن الأسواق قادرة على استعادة الاستقرار بنفسها دون تدخل السعودية، وهو ما اعتقد البعض آنذاك أنه ضربة موجهة لإيران، بل واتهم السعودية بشن “حرب نفط” ضدها، ولكنه كان في الحقيقة رغبة سعودية في التخلي عن تسيير دفة عالم النفط، وهو توجّه من المتوقع أن يستمر تحت قيادة الملك الجديد، سلمان بن عبد العزيز.
بتنازل السعودية عن موقع القيادة، تنتقل المسؤولية بشكل تلقائي وغير متوقع، وربما غير مقصود، إلى الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن التحولات في معدل الإنتاج الأمريكي سيصبح لها أثرٌ أكبر مما سبق على أسعار النفط العالمية، لاسيما وهي واحدة من أهم منتجي النفط، بل وكانت مصدرًا له في يوم من الأيام، قبل أن يصل إنتاجها إلى حده الأقصى البالغ 9.6 مليون برميل يوميًا عام 1970 ويبدأ في الهبوط، وهو ما أدى لبداية الاستيراد الأمريكي للنفط من الخارج بشكل متزايد.
ثورة النفط والغاز في الولايات المتحدة
بالتزامن مع تلك التحوّلات، كانت هناك ثورة في عالم الغاز الأمريكي آخذة في النمو يومًا بعد يوم، واعتمدت بشكل رئيسي على تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي والحفر الأفقي، وهو ما بدا جليًا في زيادة إنتاج غاز شيل، والذي يمثل الآن نصف الإنتاج الأمريكي من الغاز، وهو ما وضع الولايات المتحدة في مقدمة إنتاج الغاز في العالم، وهبط بعملاق الغاز الروسي إلى المركز الثاني.
ابتداءً من العام 2010، بدأ استخدام نفس التكنولوجيا في التنقيب عن النفط بشكل موسّع، وكانت النتائج مذهلة، إذ ارتفع إنتاج النفط بنسبة 80٪ بحلول نهاية العام الماضي مقارنة بعام 2008، وهي زيادة تقدّر بـ4.1 مليون برميل يوميًا، وتفوق إنتاج أي دولة عضوة بالأوبِك باستثناء السعودية، وعادت بالولايات المتحدة إلى معدلات إنتاجها المرتفعة التي وصلت لها عام 1970، أضف إلى ذلك أن كندا هي الأخرى نجحت في زيادة إنتاجها منذ العام 2008، وهو ما وضع أمريكا الشمالية بشكل عام على خريطة النفط والغاز العالمي بقوة بجانب السعودية، وبث الأمل بقدرة هذين الاقتصادين الكبيرين على الاكتفاء الذاتي من الغاز والنفط.
قدّمت تلك الثورة أيضًا دفعة هائلة للاقتصاد الأمريكي، وخلقت الآلاف من الوظائف، وعززت من وضعها في الاقتصاد العالمي، وجلبت أكثر من 100 مليار دولار من الاستثمارات الجديدة إلى السوق الأمريكي، وهو ما جعل الولايات المتحدة واحدة من أفضل الدول من ناحية الأداء الاقتصادي في الأعوام القليلة الماضية.
حركة السوق العالمية
كانت تلك الثورة الأمريكية كفيلة بالهبوط بأسعار النفط والغاز بوضوح، ولكن ما منع حدوث أزمة كهذه منذ سنوات أن الاستهلاك كان ينمو بشكل قوي في الاقتصادات النامية، خاصة الصين والهند، وأن الصراع في ليبيا وجنوب السودان ودول أخرى دفعها لتخفيض إنتاجها، وأن العقوبات على إيران بدورها منعت أكثر من مليون برميل من الوصول للسوق العالمية، وهو ما يعني أنه لولا ارتفاع الإنتاج الأمريكي في الحقيقة لارتفعت الأسعار بشدة ولربما فشلت العقوبات على إيران، وبالطبع لم نكن لنرى دبلوماسيو إيران في جنيف العام الماضي.
لكن هذه الظروف ما لبثت أن تغيّرت، إذ بدأ نمو الاقتصاد العالمي في التباطؤ العام الماضي، وتراجعت أوروبا أكثر تحت وطأة أزمة اليورو، كما بدأ اقتصاد الصين، أحد أهم دوافع زيادة الاستهلاك العالمي، في التباطؤ هو الآخر، في حين نجحت ليبيا في مضاعفة إنتاجها أربع مرات مؤخرًا، وهو ما أدى لهبوط شديد في الأسعار.
كان الجميع يفترض بالنظر لهذه التحوّلات أن يتدخل الأوبِك ويعلن خفض الإنتاج لوقف هبوط الأسعار، ولكن السعودية ودول الخليج امتنعت عن اتخاذ تلك الخطوة المتوقعة والاعتيادية، خوفًا من أن يؤدي ذلك لتقليص نصيبها من سوق النفط، لا سيما وأعينهم الآن منصبة على المنافسة القادمة من أمريكا الشمالية، وكذلك على جارهم الإيراني الذي قد تُرفَع عنه العقوبات وحليفه العراقي، واللذان لا يريد الخليج السماح لهما بتثبيت أقدامهما في سوق النفط على حسابه، أضف إلى ذلك أن التنقيب يجري الآن في القطب الشمالي وعلى سواحل البرازيل وأفريقيا وفي أسيا الوسطى، ويبدو الكثير منها مبشّرًا بوجود النفط والغاز في بقع مختلفة وجديدة.
آثار الهبوط السريع
لربما كان الهبوط أشد كثيرًا مما توقعت دول الخليج، وهو يؤثر بشكل قوى على ميزانيات شركات النفط ومشاريعها التي قررت تقليصها كرد فعل، بالإضافة بالطبع إلى تقليل العمالة التي توظفها وهكذا، بل إنها قد تلغي بعض المشاريع التي كانت عازمة على البدء فيها بالكامل.
تأمل السعودية أن يؤدي هذا الهبوط في أسعار النفط إلى تعزيز النمو الاقتصادي على المدى البعيد، وبالتالي الطلب على النفط في المستقبل، لاسيما وهي تستطيع الانتظار قليلًا مع دول الخليج نظرًا لامتلاكها احتياطي نقدي هائل، وهو ما لا يملكه بالطبع كافة منتجي النفط، ففنزويلا مثلًا قد تكون على حافة انهيار اقتصادي، وروسيا كما رأينا لا تستطيع مواكبة الخسارة، إذ أن 40٪ من إيرادات الحكومة تأتي من النفط، خاصة وهي تعاني أصلًا من العقوبات الغربية الجديدة جراء الأزمة في أوكرانيا.
بالمثل، قد تعاني نيجيريا بشكل كبير، وهي أحد أبرز منتجي النفط في القارة الأفريقية، إذ يمثل النفط 95٪ من إيرادات صادراتها، و75٪ من إيرادات الحكومة، وهو ما قد يؤثر بشكل خاص على كفاءتها في مواجهة بوكو حرام، والتي تحتاج لميزانية عسكرية غير هيّنة.
“شيل” وحسابات السوق الجديدة
بشكل إجمالي، تعتبر قيمة ما وفّرته الدول المستوردة للنفط على حساب الدول المنتجة للنفط حوالي 1.5 إلى 2 تريليون دولار، والمستفيدون هم عمالقة الاقتصاد العالمي مثل اليابان والصين، وكذلك المستهلكين في الولايات المتحدة.
يبدو بجلاء الآن أن نفط شيل الأمريكي أصبح لاعبًا محوريًا في سوق النفط بشكل لم يكن يتصوّره أحد منذ سنوات قليلة، ولكن هل سيستمر ذلك التأثير الأمريكي في سوق منخفض الأسعار؟ سعر برميل النفط الآن أقل من 50 دولارًا للبرميل، وهو سعر منخفض جدًا بالنسبة لروّاد نفط شيل، وقد يؤدي لإبطاء وتيرة التطور والنمو في هذا المجال.
على أي حال، من المرجح أن يزيد إنتاج نفط شيل في اليوم بحوالي 500.000 برميل خلال النصف الأول من هذا العام نظرًا للزخم الذي يتسّم به سوق شيل، وكذلك للالتزامات قصيرة المدى التي يجب على الشركات الوفاء بها على أي حال، ولكن بالدخول في النصف الثاني من العام، سيكون نمو إنتاج نفط شيل قد تباطأ، وسيحاول المنتجون تعزيز الكفاءة وخفض التكاليف للاستمرار لزيادة الإنتاج، وهو إنتاج من المتوقع أن يهبط بدءًا من 2016 إذا ما استمرت الأسعار على انخفاضها الحالي.
بيد أنه بحلول ذلك الوقت، سيكون الاقتصاد العالمي قد تحسّن ربما، وسيعزز من الطلب على النفط ليرفع الأسعار مجددًا، ولكن إذا استمرت دول الخليج في إنتاجها دون توقّف، لن تعود الأسعار مهما ارتفعت لسعر الـ 100 دولار، ولكنها ستكون كافية لتحفّز منتجي نفط شيل على رفع إنتاجهم من جديد، لتسيّر الولايات المتحدة دفة أسواق النفط كما كانت تطمح عام 1970.
المصدر: نيويورك تايمز