يمكننا اليوم أن نقول بثقة إن إيران تدير بشكل كبير ثلاث عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت، وهي في طريقها ربما إلى إضافة الرابعة، صنعاء، بالنظر لدخول الحوثيين إلى العاصمة اليمنية الأسبوع الماضي وسيطرتهم على القصر الرئاسي، وهو ما يعني ببساطة أن إيران تبسط بنجاح ذراعيها في المنطقة؛ إلى غربها الشمالي وصولًا للبحر المتوسط، وإلى غربها الجنوبي وصولًا إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وهو تمدّد يزيد من مخاوف غريميها الرئيسيَّين، دول الخليج وإسرائيل، والتي ستكون محاصرة بدوائر النفوذ الإيراني إلى شرقها وغربها، وإلى شمالها وجنوبها.
كيف نجحت إيران في تحقيق هذا التوسّع؟ للمفارقة، بدأ النفوذ الإيراني في التمدّد بسهولة عقب الحربين الأمريكيتين الكبيرتين في المنطقة، ضد نظام طالبان في أفغانستان (بعد أحداث 11 سبتمبر) وضد نظام صدام في العراق، وقد كان هذان النظامان عدوّين أساسيَّين لطهران، وحائلاً دون قدرتها على بسط نفوذها في محيطها الإقليمي، سواء في الشرق الأوسط أو أسيا الوسطى.
الركيزة العراقية
تُعَد العراق تحديدًا ركنًا أساسيًا في الإستراتيجية الإيرانية، والتي استغلت بشكل كامل سقوط العراق عام 2003، وعملت على ألا يستطيع العراق مجددًا أن يمثل تهديدًا لإيران كما كان في ثمانينيات القرن الماضي، مما أدى إلى حرب طويلة استنزفت إيران عسكريًا واقتصاديًا، بالإضافة إلى ذلك الهدف الأساسي، كان هناك طموح باستخدام الأغلبية الشيعية للهيمنة في العراق وليس فقط تحييده وإضعافه، وهو ما نجحت فيه إيران أيضًا عن طريق حزب الدعوة المهيمن على السياسة في بغداد حاليًا، وكذلك عن طريق شبكات الميليشيات الشيعية الموجودة في العراق، والتي يرعاها بالأساس الحرس الثوري وقوات القدس، تحت قيادة قاسم سليماني، المعروف بقاسم “سوبرماني”.
تقول لينا خطيب من مركز الشرق الأوسط بكارنيجي في بيروت، إن إيران اليوم تدير اللعبة العراقية بشكل شبه كامل، باستثناء بعض الأصوات الشيعية المنافسة لحلفاء طهران، بل وهي ربما أكثر قوة من الأمريكيين الموجودين على الأرض، “لا يمكن تصوّر وجود أي رئيس وزراء في العراق دون موافقة إيران في هذه اللحظة”.
بطبيعة الحال، وبالنظر لعلاقاتها القوية مع نظام الأسد في سوريا، وحزب الله في جنوب لبنان، أصبح هناك خط متصل للنفوذ الإيراني من البصرة وحتى شواطئ المتوسط اللبنانية، وهو نفوذ اهتز مع الربيع العربي بطبيعة الحال، لاسيما في سوريا التي انتفضت ضد نظام الأسد، ولكنه لم يقلل من عزيمة الإيرانيين على دعم حلفائهم بشتى الوسائل ولو بأكثرها دموية.
بطبيعة الحال، يُعَد صعود الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الضربة الأبرز لإيران منذ سقوط صدام وطالبان، ولكنه يقدّم لها الكثير من الفرص على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة، والقدرة على الاستفادة من اهتمام الغرب بمواجهة داعش بشكل رئيسي، لاسيما والمفاوضات تجري على قدم وساق بخصوص البرنامج النووي بشكل قد يُعيد العلاقات بين إيران والغرب إلى طبيعتها، وبالتالي يعزز من الدور الإيراني في المنطقة باعتباره حليف ضد “الإرهاب” وليس العكس كما كان في السابق، خاصة وأن إيران بعيدة حاليًا عن السجالات مع إسرائيل ومشغولة بعودة طالبان في الشرق وصعود داعش في الغرب، وهو انشغال يُسعِد إسرائيل نوعًا ما، وحلفائها الغربيين.
على الناحية الأخرى، تنظر السعودية إلى ذلك الصعود الإيراني بتوجّس شديد، لاسيما وهي لا تملك القدرة وحدها على موازنة إيران رُغم قوتها الاقتصادية، كما أن الأمريكيين في نهاية المطاف ليسوا جزءًا من المنطقة، ولن يستطيعوا دعم الخليج إلى الأبد لموازنة الإيرانيين، وهي حقيقة ظاهرة مؤخرًا بالنظر لمحاولات واشنطن تخفيف وجودها في المنطقة مقابل شرق أسيا، أضف إلى ذلك أن الاعتماد على الأمريكيين يُفقِد الخليج رصيدًا معنويًا كبيرًا في الشارع العربي، على العكس من إيران التي تتمتع على الأقل بدعم الشيعة في معظم بلدان المنطقة.
حدود النفوذ الإيراني
على الرغم من كل ذلك، تبقى هناك حدود كثيرة للنفوذ الإيراني، أبرزها عدم رضا إسرائيل عنه، وهي حليف أمريكي وغربي مهم، والهجوم الذي وقع مؤخرًا وطال ستة مقاتلين من حزب الله وجنرال إيراني في جنوبي غربي سوريا يُعَد بمثابة جرس إنذار إسرائيلي للأنشطة الإيرانية في المنطقة، لاسيما القريبة من إسرائيل.
علاوة على ذلك، لا تملك إيران القدرة على أي تصعيد عسكري مفتوح في المنطقة، فهي تدعم سياساتها عبر حلفائها العسكريين، مثل دعم النظام السوري في وجه الثورة السورية وفي وجه داعش، وكذلك الجيش العراقي، وهو ما يكلفها أصلًا مليارات من الدولارات، وهي مليارات من ميزانية إيرانية تمر بضغوط مؤخرًا نظرًا لهبوط أسعار النفط، وهو ما دفعها لتخفيض دعمها المالي لحزب الله كما أشارت مؤخرًا بعض المصادر، هذا بالإضافة إلى ضغوط العقوبات التي لم تُرفَع بعد، وقد لا تُرفَع إذا ما أبرزت طهران وجهًا عدوانيًا في هذه اللحظة، وهي لحظة مهمة في سياق المفاوضات مع الغرب بخصوص رفع العقوبات.
تعتبر الموجة الجهادية السنية في المنطقة أيضًا عاملًا أساسيًا في وضع حد للنفوذ الإيراني، لاسيما قوة داعش المتصاعدة، والتي لا يبدو أن الضربات الجوية وحدها ستكون كفيلة بدحرها، كما لا يُنتظَر من قوات الأكراد مهما كانت قوتها أن توقف توسعّها إلى في المناطق الكردية فقط، فداعش تتمتع بقدرتها على الحشد القوي للمسلمين الراديكاليين من الشرق والغرب، في حين تظل راية كردستان محدودة بنطاق قومي، أضف إلى ذلك أن أحد أسباب تصاعد تلك الموجة الجهادية هو سياسات إيران نفسها، لاسيما في سوريا، والتي أنهكت قوى الثورة المعتدلة لصالح الأسد.
التعبير بشكل واضح عن وجه شيعي لإستراتيجية طهران في المنطقة يضع حدًا لقدرتها على بسط نفوذها ونشر قوتها الناعمة، ولا يدلل على ذلك أكثر من التوتر في العلاقات مع حماس إبان الربيع العربي، وهي علاقات وإن تحسّنت مؤخرًا، إلا أنها تظل غير مرشحة للتوسّع كما الحال مع حزب الله وميليشيات العراق نظرًا للقاعدة السنية التي تستند لها حماس، وهي قاعدة تشارك العرب السنة في المنطقة حساسيات كثيرة تجاه طبيعة الدور الإيراني مؤخرًا، والذي أفصح عن وجه طائفي قبيح في الشام والعراق.
***
إيران تبسط ذراعيها بوضوح، ولكن ليس بعيدًا، وربما ليس طويلًا، لأنها ببساطة لا تستثمر إلا في “جيوب شيعية”، ومناطق إستراتيجية تهمها، كمضيق باب المندب، والحدود مع إسرائيل، وهو ما يعني أنها لا شك ستكون في السنوات المقبلة لاعبًا أساسيًا يملك الكثير من الأوراق، ولكنها لن تكون القوة الأبرز في المنطقة بالنظر لكونها بالأساس منطقة عربية سنية، ولنا في إسرائيل بالطبع مثال على حدود القوة الصِرفة التي تمارسها طهران مؤخرًا – مع الفارق بالتأكيد بين النظامين وطبيعة البلدين – وهو أن التعويل على هوية دينية أو طائفية، أولًا، يعزل تلك الطائفة عن بقية النسيج الإقليمي، وثانيًا، يُضعِف من قدرتها على الاضطلاع بدور قيادي ذي مصداقية بين شعوب المنطقة، كما نجحت مثلًا تركيا خلال العقد المنصرم (2002-2012)، أو مصر أثناء الستينيات.