بعد أقل من عام على صدور كتابه الأول “ما أخفاه العلمانيون من تاريخ مصر الحديث”، يصدر له الكتاب الثاني “من المسجد إلى البرلمان.. دراسة حول الدعوة السلفية وحزب النور”.
ذلك هو معتز زاهر، شاب سلفي كان حاضرًا في المواطن الثورية، كما كان مقربًا من جماعة الدعوة السلفية وشيوخها، ثم كان الحق أحب إليه مما سواه، ففارقهم وكان من الفاعلين في حملة الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، وكان من أعضاء المكتب التنفيذي لرابطة النهضة والإصلاح، وهي حركة شبابية إسلامية ثورية تكونت بعد إسقاط مبارك بيومين.
وعلى غير ما يتوقع المرء من مؤلف هذا حاله، أن يكون كتابه قاسيًا شديدًا على جماعة الدعوة السلفية وذراعها حزب النور، جرى المؤلف على عادته التي ظهرت في كتابه الأول، إنه ينقل كثيرًا ويتكلم قليلاً، فعبر نحو 240 صفحة من هذا الكتاب لا يكاد ما كتبه المؤلف بنفسه تعبيرًا عن رأيه يبلغ خمس عشرة صفحة.
هو إذن كتاب طالب للحق – أحسبه كذلك والله حسيبه – لا كتاب موتور على شاكلة الخرباوي ومختار نوح والهلباوي وأمثالهم، ولغة المؤلف هادئة، فهو لم يكن يحتاج لغة صاخبة كي يُظهر الحقائق المطلوبة، فانقلاب الدعوة السلفية على مبادئها وأدبياتها أوضح من أن يُحتاج معه إلى مؤثرات عاطفية أو أساليب لغوية أدبية.
يقع الكتاب في تمهيد وخمسة فصول:
يستعرض التمهيد بدايات الصحوة الإسلامية في التاريخ المعاصر، فيعرض تاريخًا موجزًا للجماعات الإسلامية التي تكونت كردِّ فعل على الضعف الإسلامي منذ بداية القرن العشرين: الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة، أنصار السنة المحمدية، جمعية الشبان المسلمين، جماعة الإخوان المسلمين. فيعرض لمؤسسها وملامح منهجها وشيئًا من أعمالها، ويريد التمهيد أن يُكَذِّب دعوى جماعة الدعوة السلفية التي لطالما قدَّمت نفسها وكأنها البعث الإسلامي الأول في مصر!
ثم يتحدث الفصل الأول عن نشأة جماعة الدعوة السلفية منذ السبعينات وحتى ثورة يناير 2011، ويُلاحظ حرص المؤلف على تسميتها “انتفاضة يناير”، وهو خمسة مباحث:
1. يبدأ المبحث الأول منذ انبعاث الصحوة الإسلامية بين طلاب الجامعات في السبعينات، ويجمع من شهادات مؤسسي الجماعة ومن مؤسسي الإخوان كيف بدأت الجماعة في التشكل منذ كانت جزءًا من التيار الإسلامي العام حتى انفصلت بنفسها في مقابل الإخوان المسلمين من جهة والجماعة الإسلامية من جهة أخرى، لكن شهادات مؤسسي الجماعة عن تلك الفترة تؤكد أن نشأتها إنما كانت بالأساس في سياق التمايز والتنافس عن الإخوان المسلمين الذين هم – بنظر الجماعة – متميعون متساهلون مفرطون لا يهتمون بالقضايا الأساسية كالجهاد والولاء والبراء والهدي الظاهر، وقد وُفِّق المؤلف في أن يكشف عن “جذور العداء” بين جماعة الدعوة وبين الإخوان المسلمين منذ ذلك الوقت المبكر.
2. ويعرض المبحث الثاني لأهم رموز جماعة الدعوة السلفية ومؤسسيها كمحمد إسماعيل المقدم وسعيد عبد العظيم وأبي إدريس محمد عبد الفتاح وأحمد فريد وياسر برهامي، كما يعرض للهيكل الإداري للجماعة وأهم المنابر الإعلامية التي أنشأوها.
3. ويعرض المبحث الثالث لمنهج الجماعة، الذي هو “السلفية” من حيث معناها، وما يعتمده المنهج السلفي من قواعد الاستدلال، وأصوله العلمية، ثم تلك القضايا الفكرية التي أولتها الجماعة اهتمامًا خاصًا باعتبارها قضايا الوقت الواجب الاعتناء بها، ثم يركز المؤلف من بين هذه القضايا على قضيتين لما لهما من أهمية خاصة في سياق البحث فيجعلهما في مبحثين منفصلين:
4. منهج التغيير لدى الجماعة وموقفها من الديمقراطية، وفيه يظهر بوضوح أن الجماعة لم تفكر في اعتماد وسائل تغيير يمكن أن تصادم السلطة، ورغم وضوح أدبياتها في بطلان هذه الأنظمة القائمة التي لا تتحاكم إلى شرع الله وتحارب الدين، إلا أن الجماعة اتخذت موقف الحفاظ على الدين “صافيًا نقيًا” دون محاولة خوض معركة مع السلطة لإنفاذ هذا الدين وإقامته، وكانت أبرز مواطن هذا الحفاظ على الدين هو الرفض القاطع لفكرة الديمقراطية لما فيها من تلبس بالشرك من خلال دخول المجالس النيابية التي تشرع القوانين فتأخذ لنفسها حق التشريع (الذي هو لله وحده) ثم تجعل من حق الأغلبية أن تعطل أو تبدل ما هو شرع ثم إنها لا تراعي في ضوابط الوصول إليها المؤهلات الشرعية، هذا إلى أن المشاركة في هذه المجالس يجمل النظام الحاكم ولا يحقق الإصلاح المنشود، وهو الموضوع الذي لطالما أكدته الجماعة بوجه لا يجعل من سبيل إلى تغيير رأيها فيما بعد لأنها أصلت له أصولاً شرعية تضرب فكرة الديمقراطية نفسها لا مجرد آلياتها، وهو الموضوع الذي مايزال يُثار عند كل انتخابات وبالأخص في مواجهة الإخوان المسلمين الذين يخوضون هذه الانتخابات.
5. كذلك فإن الجماعة لم تعتمد أي منهج ثوري في محاولة تغيير الواقع، فلم يكن في أدبياتها ما يدعو إلى الثورة، بل ولا كانت تعترض إذا واجهها الأمن بمنع بعض أنشطتها أو اعتقال بعض مشايخها أو غلق معهدها العلمي، وساق المؤلف المواقف التي سارعت فيها الجماعة لتهدئة الشارع وإلزام أتباعها بالسكون في لحظات غضب مثل حادثة مسرحية “كنت أعمى والآن أبصر” أو حادثة مقتل سيد بلال تحت التعذيب أو إرهاصات ثورة يناير وأيامها الثمانية عشرة.
ثم ينتقل الفصل الثاني ليستعرض ما طرأ على الجماعة بُعيد ثورة يناير والذي كان أبرز علاماته تأسيس حزب النور، وقد عرضه المؤلف في ثلاثة مباحث؛ الأول: مولد حزب النور واستعرض فيه خطوات التأسيس منذ المفاجأة ومرحلة الترقب ثم مرحلة التردد ثم مرحلة المشاركة ثم مرحلة التغلب على الحزب وانصهاره في الجماعة وصيرورته ذراعها السياسي، والثاني: يستعرض فيه برنامج حزب النور وأبرز شخوصه ومنابره الإعلامية، والثالث: يستعرض فيه أهم ما جرى على حزب النور في الأعوام الثلاثة التالية للثورة والمحطات التاريخية للحزب والجماعة.
ثم جاء الفصل الثالث – وهو برأيي قد أُعد بطريقة غاية في الذكاء – لأنه استعرض موقف الجماعة من “الحكم المدني والحكم العسكري”، وقد جعله المؤلف في مبحثين:
1. يتحدث المبحث الأول عن العلاقة مع الإخوان (باعتبارهم الحكم المدني) قبل ثورة يناير، ثم في الفترة من يناير 2011 حتى يناير 2013 (وهو التاريخ الذي انحاز فيه حزب النور إلى جانب الجبهة العلمانية “جبهة الإنقاذ” وظهرت عداوته وخصومته للإخوان)، ثم فيما بعد هذا التاريخ الذي بدأت به مرحلة سماها المؤلف “مرحلة سيطرة برهامي على الحزب”.
2. ثم جاء المبحث الثاني ليتحدث عن علاقة الجماعة مع الحكم العسكري، والتي بدأت في عهد المجلس العسكري من فبراير 2011 حتى انتخاب مرسي، ثم مع الانقلاب العسكري من بعد يوليو 2013، وقد أثبت المؤلف من خلال نقولات متعددة كيف انقلبت جماعة الدعوة على أصولها ومبادئها التي زخرت بها أدبياتها فيما قبل الثورة.
وانتقل الكاتب من هذه النقطة إلى الفصل الرابع الذي استعرض فيه موقف السلفيين من جماعة الدعوة السلفية، سواء كانوا مصريين أو غير مصريين، فجمع مواقف الشيوخ: عبد الرحمن عبد الخالق (مصري مقيم بالكويت ومن كبار منظري التيار السلفي كله) وسعيد عبد العظيم (من مؤسسي الجماعة والذي انشق عنها وهاجمها بقوة بعد الانقلاب العسكري) وأحمد السيسي (وقد كان منهم فانفصل عنهم وهاجمهم كذلك) ومحمد عبد المقصود (وهو أبرز شيوخ التيار السلفي في مصر) ومثله فوزي السعيد، وكذلك مواقف أحمد النقيب وحسن الكتاني (مغربي) وعلوي السقاف (سعودي)، ثم ختم بالبيان الذي وقعه نحو ثلاثين من علماء السعودية والذي هاجم مواقف جماعة الدعوة السلفية. ثم ختم الفصل برد الجماعة على هذا البيان لأنه أشمل ردودها على من خالفوها.
وأفرد الكاتب آخر فصول الكتاب الفصل الخامس لبيان وتفصيل الانقلاب الكبير الذي جرى على جماعة الدعوة السلفية في مبادئها وأفكارها وسلوكها، فاستعرض الكاتب بشكل مقارن مواقف الجماعة في هذه الأمور قبل وبعد الثورة، فجعله في سبعة مباحث، كل منها يعرض لقضية:
1. النظرة للدولة وكيف تحولت من العداء وعدم الاعتراف بشرعيتها ولا شرعية مؤسساتها القضائية والشرطية والعسكرية إلى الوفاق مع هذه الدولة والحفاظ على مؤسساتها واعتبارها آخر ما بقي للوطن بل آخر ما بقي للأمة العربية، ثم دعم طاغوتها وطاغيتها والحشد له كما لم يحشد أحد.
2. التحول في منهج التغيير واختلاق كلام جديد ودعاوى جديدة تكذبها أدبياتهم القديمة في مسألة الديمقراطية والمشاركة السياسية.
3. تغير مفهوم “الإكراه” الذي أصلّته الجماعة في أدبياتها ليدخل في مفهوم “التقية” الذي أصلّته هي قديمًا ورفضت الخلط بينهما.
4. تغير مفهوم “قاعدة المصالح والمفاسد” الذي قالت به الجماعة قديمًا، وهنا ساق المؤلف رد جماعة الدعوة على الإخوان في حكم المشاركة البرلمانية وتأصيلهم لكون المصلحة إن لم تكن موهومة أو مرجوحة فهي متممة ولا يمكن أبدًا أن ترجح على المفاسد المؤكدة، فكأنما كان هذا البيان أفضل رد على انقلاب الجماعة على نفسها وأقوالها الآن، وساق المؤلف ما يؤكد أن شيئًا لم يتغير – بل تغير إلى الأسوأ – يجعل ما وضعوه من قاعدة الترجيح يختلف.
5. انقلاب الجماعة في موقفها من العلمانيين وكيف انتقلوا من “أعداء الدين” إلى “شركاء الوطن”، وكيف لم يكن مقبولاً – من قبل- أن تأتي الانتخابات بمسيحي إلى الرئاسة أو موقع ولاية إلى أن صار يمكن للمسيحي أن يكون رئيسًا لحزب النور إن جاءت به الانتخابات.
6. انقلاب الجماعة في موقفها من الحزبية والأحزاب إلى أن صار لها حزب يمثل ذراعها السياسي، وهو الحزب الذي “انصهر فيها” بتعبير المؤلف ولم يُسمح له بأي استقلالية.
7. انقلاب الجماعة في موقفها من الدستور، منذ إشعالها لمعركة في غير وقتها بعيد أيام الثورة (المادة الثانية والحفاظ على الهوية) مرورًا بالمزايدة على الإخوان والذي وصل إلى النجاح في وضع المادة 219 في دستور 2012، ثم التخلي عن كل هذه المواد في دستور الانقلاب بل ودعمه والموافقة عليه والحشد للموافقة عليه مع الادعاء بأنها لم تفرط في شيء بل حافظت على مكاسب الشريعة في الدستور، وهو ما يثبت المؤلف – عبر نقل رد قانوني من المستشار محمد وفيق زين العابدين – أنه هراء.
ثم وضع المؤلف خاتمة أجمَل فيها سيرة ومسيرة هذا الانقلاب الكبير للجماعة السلفية.
إنه كتاب يستحق أن يُقرأ، خصوصًا وأن التجربة لم يكتب عنها بعد، فهو كتاب رائد.
ورغم أن البدايات دائما مهزوزة، والأعمال الرائدة قليل منها ما يكون قويًا، إلا أن هذا الكتاب باعتماده على النقل والمقارنة وقلة تدخل الكاتب برأيه يجعله من هذه الأعمال الرائدة الرصينة إن شاء الله.
إن النظر في هذه المسيرة يرى كيف أنها مسيرة تصب في محصلتها ضد الحركة الإسلامية، وهنا لا يعنينا إن كان ذلك بقصد أم بغير قصد، وإن كان يغلب على ظني أنه بغير قصد في الأغلب الأعم، فقد استعملت دعاوى الصفاء والنقاء والحفاظ على الدين في ضرب الحراك ضد السلطة، فالجماعة لم تتحرك في مناوأة السلطة ثم لم تعذر من تحركوا واعتبرتهم مبتدعين منحرفين وجعلت ذلك دينًا لا يجوز التفريط فيه، فما إن انفتح الباب بعد الثورة حتى انهالوا على العمل السياسي الذي كانوا قد حرموه ثم رفضوا دعاوى التوافق مع العلمانيين وكانوا الأكثر تشددًا لكنهم ما لبثوا أن هاجموا حازم صلاح أبو إسماعيل –وهو الأحرى بدعمهم لأنه الأكثر والأوضح إسلامية- واقترحوا على الإخوان ترشيح أحدهم، فلما استبعد حازم تركوا مرشح الإخوان وانتخبوا أبو الفتوح وهو أكثر من يُتهم بالتميع والتفريط، ثم تحولوا في لحظات مفاجئة إلى التحالف مع العلمانيين (جبهة الإنقاذ) ضد الإسلاميين، ثم ختموا بوقفة العار والخيانة الكبرى إلى جوار العسكر والعلمانيين والكنيسة لإزاحة الرئيس المسلم محمد مرسي، ولم تثنهم المقاتل والمذابح التاريخية في التحول عن موقفهم بل ازداد دعمهم للطاغوت الطاغية فمكّنوا له بكل ما استطاعوا.
إنه نموذج لتجربة إسلامية لا ريب في أن دوافعها وعموم من أسسوها وشاركوا فيها وعملوا لها صالحون طيبون ابتغوا رفعة الدين، لكن مكر الليل والنهار وعمل أجهزة الأمن والمخابرات استطاع تحويل هذه التجربة لتكون أحد أهم أذرعهم، ودون حتى أن يدفعوا ثمنًا مقابلاً، فبرغم كل ما فعلته جماعة الدعوة إلا أنها الخاسر الأكبر الذي لا يحظى ولا حتى باحترام شكلي من قِبل السلطة الانقلابية.
أسأل الله أن يجعل هذا الكتاب في ميزان حسنات مؤلفه وأن يكتب له القبول، كما أسأله تعالى أن يعلمنا من تجارب السابقين ما نهتدي به في قابل الأيام.