كانت طائرات الاحتلال تدكّ غزة، ودباباته تتربص بالحدود الشرقية تُريد اقتحام الحدود، وسفنه البحرية تتحين الليل لتقوم بإنزال هنا أو هناك علّها تُحقق خلخلة الصفوف، فزمجرت صواريخ المقاومة ودكّت تل أبيب ثم حيفا ويافا، وتزينت سماء أراضينا المحتلة بطائرات بصنع مهندسينا، في رد واضح من المقاومة أن لا مكان في قاموس الشعب الفلسطيني للانكسار والتراجع فهو إما ينتصر أو يموت.
خرج الملثم وأعلن أن لا تهدئة إلا بمطار وميناء، واستمرت المعركة الشرسة 51 يومًا صمد فيها الشعب، عين ترنو للقدس وعين ترقب النصر وقلب يخفق لتحقيق شروط المقاومة ويلهج اللسان بالدعاء.
وضعت الجولة أوزارها ولم تنته المعركة فهي مستمرة بفصولها السياسية تارة والعسكرية تارة والاستخباراتية تارة والضغط الدولي تارة أخرى، لم يتحقق الشرط بعد، بل إن الوضع في غزة كارثيًا قد يكون بدرجة أكبر مما كان عليه قبل العدوان الأخير على قطاع غزة.
فالإعمار تأخر، وآلية دُولية للإعمار مُطالب بالنظر فيها من جديد، ومعابر مع المحتل تُفتح وتُغلق حسب رغبته، واضطراب الساحة المصرية ينعكس سلبًا على عمل معبر رفح؛ الأمر الذي شلّ حركة تنقل الأفراد وعطل مصالح الطلاب والمرضى ورجال الأعمال والمقيمين.
تحولت غزة لسجن كبير لا يستطيع أحد مغادرته أو تطويره، تتفاقم فيه المعاناة ويتربص بشعبه الفقر والبطالة واهتراء البنية التحتية وعجز كبير في الخدمات الصحية، ناهيك عن انقطاع التيار الكهربي، وأزمة الرواتب.
تُركت غزة تنزف وحيدة، رغم الدعوات الدولية والعربية والإسلامية بضرورة مساعدة الشعب الفلسطيني وتحقيق قضاياه العادلة فهو عنوان الاستقرار في الشرق الأوسط، وانشغلت الساحات العربية بهمومها الداخلية ولم تعد فلسطين أولوية.
ولم يلتزم المحتل في ظل انشغال العالم بما ترتب على وقف إطلاق النار، الأمر الذي يفرض معادلة جديدة إما أن تبقى غزة تنتظر وتموت تحت وقع الحصار وتنهار، أو تأخذ زمام المبادرة وتكسر الحصار، الذي يُمثل أقوى وأكبر العوائق في اتجاه تحقيق الإعمار وتحسين الأوضاع المعيشية للناس.
أمام كل هذا وجدت غزة نفسها ترفع شعارًا قويًا ظنه البعض حتى الأمس تصريحًا إعلاميًا لن يتعدى التنظير وشحذ الهمم، فقد قالت غزة سابقًا سنبني الميناء رغم أنف العدو، ومن يقصف ميناء غزة سنقصف ميناءه، فهو زمن الأقوياء الذي لا يعترف بالضعفاء، ولا تجد أمامك سوى أن تفرض بالقوة واقع جديد.
أعلنت بالأمس الهيئة الفلسطينية العليا لكسر الحصار بأنه جاري العمل على تأهيل ميناء غزة البحري وسيتم إطلاق أول رحلة بحرية من ميناء غزة الدولي باتجاه إسطنبول خلال شهرين، وستحمل مرضى وطلاب وذوى احتياجات خاصة.
خطوة جريئة ونوعية تحتاج تظافر الجهود وتطبيقها في وقتها المعلن، وهى تحتاج أن يواكب الإعداد لها زخم إعلامي واهتمام شعبي، فهذه المرة الثانية التي يُعلن فيها عن تنظيم رحلة بحرية لكسر الحصار البحري المفروض على قطاع غزة فقد سبقها محاولة ائتلاف شباب الانتفاضة تسيير قافلة بحرية لكسر حاجز الـ 6 ميل بحري عبر عشرات القوارب والنشطاء الشباب في عام 2013، وقد حظيت باهتمام دولي وإعلامي غير مسبوق.
الخطوة تحتاج أن تخرج من عباءة التقليدية والنمطية في التطبيق، وتعمل على استقطاب متطوعين من الشباب والأجانب، وتحديث يومي على مدار الـ 60 يومًا للفعاليات وصولاً لنقطة صفر والإبحار باتجاه إسطنبول التركية.
أعتقد أن القائمين على الفعالية يحتاجون كسر اللون الواحد المنظم والمشكل للهيئة بحيث تعبِّر عن نبض الشارع الفلسطيني ككل وتستطيع جذب مشاركة الجميع.
وهم مطالبون بكسر الرتابة الحكومية والخروج عن النص المعتاد، وإلا فإن الأنشطة لن تعدو كونها تصريح صحفي هنا ومطلب هناك لن يجد النور والزخم الشعبي المطلوب.
إلى الشباب، هذه فرصة جيدة لننحي خلافاتنا التنظيمية جانبًا وحتى وجهات نظرنا المتعارضة والمتشاكسة، يوم العدوان على غزة توحد كل الشباب الفلسطيني وغرد بنفس الرسالة واللغة، كان التجانس رائع وفاق كل التوقعات، فأوصلتم رسالة ممهورة بالدم للعالم الخارجي تحمل مطالبكم العادلة ورسالتكم الواضحة.
كسر الحصار ومنه البحري لا يقل أهمية عن المعركة التي خضتموها إبّان العدوان الأخير، نحُّوا الخلاف جانبًا فقد تكون معركتكم الإعلامية إن قررتم خوضها أحد أهم الأسلحة في كسر الحصار البحري وتحقيق شرط غزة بوجود الميناء.
الخطوة الجريئة إن حدث تعبئة عامة وباتت مزاجًا عامًا وصحبها نشاط دُولي موازٍ؛ فإنها ستجبر العديد من الأطراف على التدخل وتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني.
إلى المؤسسات المناصرة للقضية الفلسطينية، كسر الحصار البحري لن يتم إلا بجهودكم وتعاون كامل مع منظمي الرحلة البحرية من غزة، الآن وقت تحضير السفن والقدوم إلى غزة بحرًا، أعلم كم المخاطر الذي يعتري مهمتكم ولكن أعلم جيدًا أن الانسان المؤمن بالقضية لن يتوانى على بذل الروح فداء للمبدأ.