إثر نكبة العام 1948 باحتلال فلسطين وإنشاء كيان دولة إسرائيل، أي منذ اكثر من 65 سنة، بدأ حلم الوحدة الاقتصادية يراود العرب من المحيط إلى الخليج، بهدف الدفاع عن حقوقهم وحفظ ثرواتهم وتحصينها، والتفاعل مع الاقتصاد العالمي ككتلة واحدة وكيان واحد، في وقت لم يكن في العالم أيّ كتلة اقتصادية، بما فيها مجموعة السوق الأوروبية المشتركة التي أصبحت حالياً اتحاداً يضمّ 27 دولة مع اقتصاد متكامل وعملة موحَّدة. أما ”الحلم العربي“ فلا يزال حلماً ودونه سلسلة صعوبات سياسية وأمنية على الرغم من أهمية أهدافه الاقتصادية والاجتماعية.
إن حلم ”التكامل الاقتصادي“ الذي كاد ينضج في خمسينيّات القرن الماضي عن طريق إبرام اتفاقيات عدّة في إطار جامعة الدول العربية، قد تلاشى وتبدَّد، على الرغم من كلّ المحاولات والقرارات التي اتخذت لتحقيقه. ومرَدُّ ذلك إلى أنّ هذه القرارات بقيت من دون تنفيذ لاصطدامها بالخلافات السياسية بين الحكومات، أما الذي تحقَّق في المقابل، فهو مع الأسف عكسه تماماً لجهة التشرذم والانفصال، وهذا ما يهدّد حالياً بلدان ”الربيع العربي“.
وعلى الرغم من الثروات الكبيرة التي يملكها الاقتصاد العربي، أكَّدت تقارير الأمم المتحدة أن خُمس العرب يعيشون تحت خطّ الفقر، وثلثهم يعانون من الأمّية، والشباب يعانون من أعلى معدلات البطالة في العالم بحسب منظَّمة العمل العربية، وقد وصلت إلى 40 في المائة في البلدان العربية غير المستقرّة، في حين تبلغ زهاء 25 في المائة حدّاً ادنى في صفوف الفئات العمرية (بين 19 و32 عاماً)، والنساء هنّ العربيّات الأقلّ نسبة في المشاركة الاقتصادية، فضلاً عن سوء التغذية بين 50 مليون مواطن عربي .
وعن أهمية التكامل الاقتصادي، أعطى تقرير أعدَّته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) مثالاً على ذلك، مفاده أن تخفيض كلفة النقل وزيادة حجم العمالة المتبادلة بين الدول العربية، ترفعان الناتج العربي الإجمالي أكثر من 750 مليار دولار في غضون سنوات قليلة، وتوفّران أكثر من ستّة ملايين فرصة عمل جديدة، مع العلم أن الحاجة ماسّة في الوطن العربي لتوفير80 مليون وظيفة بحلول العام 2020.
ويشير تقرير حديث إلى أن قيمة الفرص الضائعة في العالم العربي الناجمة عن التداعيات السلبية، تقدّر بما يتراوح بين 40 إلى 50 مليار دولار سنوياً، وذلك بسبب ”أحداث الربيع العربي“ التي أثّرت كثيراً على الاستثمار والنشاط الاقتصادي والسياحي، وأدَّت إلى زيادات كبيرة في عجز الميزانيات العامة ومعدلات الدين العام. وفي حال استمرار الأوضاع على حالها، سيكون مجموع الناتج المحلّي لدول التحوّل (مصر، تونس، ليبيا، اليمن، سورية) والدول المتأثّرة بها، في نهاية العام 2014، أقلّ بنسبة 35 في المائة ممّا كانت ستحقّقه في الأحوال الطبيعية، ما يعني خسائر بمئات مليارات الدولارات.
محاولات التكامل
في العقود الماضية، جرت محاولات عدّة لخلق تكتّلات اقتصادية إقليمية مثل اتفاقية أغادير التي وقَّعت العام 2004 وتضمّ مصر والأردن والمغرب وتونس، وتهدف إلى تسهيل التجارة إلى الاتحاد الأوروبي عبر السماح بتراكم المنشأ بين دولها، بما يعزِّز مجالات التبادل التجاري، ولكن لم يكتب لهذه الاتفاقية النجاح في تحقيق أهدافها. كذلك هناك اتحاد دول المغرب العربي الذي يضمّ الجزائر وليبيا والمغرب وتونس، وهو بدوره لم يحرز تقدّماً منذ انشائه في العام 1989، علماً أن الحدود بين المغرب والجزائر بقيت مغلقة طوال 16 عاماً في الفترة التي سبقت اندلاع ثورات الربيع العربي. وهناك أيضاً مجلس التعاون الخليجي الذي يضمّ الدول الستّ. غير أن هذه المحاولات وغيرها من المحاولات التي هدفت إلى إبرام اتّفاقيّات اقتصادية تمهّد لتحقيق التكامل الاقتصادي، لم تحقّـق الإنجازات المطلوبة منها، بما يخدم تمتين العلاقات الاقتصادية وتطوير المصالح المشتركة، مع الاعتراف بأهمّية الإنجازات التي حقَّـقها مجلس التعاون الخليجي، واتفاقيات الجامعة العربية، ولاسيّما لجهة تفعيل الجهود لتنفيذ منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى تمهيداً لإقامة الاتحاد الجمركي العربي في العام 2015، ومن ثمّ السوق العربية المشتركة في العام 2020.
ولكن لا بدّ من الاعتراف، ولو بكلّ أسف، بأن البلاد العربية لا تزال أقلّ مناطق العالم تكاملاً، على الرغم من الامتيازات التفضيلية التي تتيحها منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى، فضلاً عن العوامل العديدة المشتركة التي يحلّ في مقدّمتها اللغة والحضارة والثقافة المشتركة.
وللتأكيد على أهمّية التجارة البينيّة لكونها أنجح وسيلة للتكامل الاقتصادي العربي، لا بدّ من تسريع الخطوات نحو اكتمال الإجراءات المتمثّلة بالسوق العربية المشتركة والاتحاد النقدي والاتحاد الجمركي، وخصوصاً أن الدول العربية لا تزال تستورد نحو 90 في المائة من حاجاتها من العالم الخارجي لعدم وجود سلع وصناعات خاصّة بها.
القمم الاقتصادية
لقد سبق أن اتّخذت سلسلة قرارات في قمم عربية متعدّدة، منها ثلاث قمم اقتصادية ضمَّت الرؤساء والملوك العرب (قمّة الكويت2009، قمّة شرم الشيخ 2011، قمّة الرياض 2013). لكن يبدو أن تنفيذ هذه القرارات على أرض الواقع يحتاج إلى ما هو أكثر من الكلام، أي إلى آليات للتكامل، وإمكانيات فنّية ومادية للتنفيذ، وإلى مستوى من القدرة والتمكّن والخبرة العالية للقيادة والمبادرة، مقارنةً بالأداء الحالي لمنظومة العمل الاقتصادي العربي المشترك وآلياتها التي تقتصر وظيفتها على التنسيق في أحسن الأحوال.
ومن هنا فإن الموضوع لا يتعلّق بالأماني، وإنما بالرؤية للإصلاح والآليات القديرة والفعّالة لمواكبة تحدّيات المرحلة المفصليّة التي يمرّ بها العالم العربي، إلى جانب تحدّيات التنمية المشتركة، وتحدّيات القيام بخطوات عملية للشراكة الفعلية مع القطاع الخاص والمجتمع المدني، والتي تخرجنا من مضاعفات الفقر والبطالة والتهميش إلى مسار جديد من التنمية والتكامل الاقتصادي والاجتماعي، وخصوصاً أننا نعيش وسط عالم عربي جديد يتشكّل، والاقتصاد هو هاجسه الأساسي. ثم إن الإصلاح الحقيقي يتطلّب إعادة النظر في دور القمّة نفسها، والتي يجب أن تكون آلية للتعامل المباشر والفعّال مع المشكلات الاقتصادية التي تتعرّض لها البلاد العربية، ابتداءً من انعكاسات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، ومن تداعيات المتغيّرات والتحوّلات التاريخية الأساسية التي مرّت وتمرّ بها دول عربية عدّة.
وفي هذا المجال، لوحظ أن قرارات القمم الاقتصادية قد وضَعت سقفاً زمنياً لاستكمال متطلّبات منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى بنهاية العام2013، واستكمال متطلّبات الاتحاد الجمركي بحلول العام 2015، ولكنّها لم تحدّد كيفية تجاوز العقبات التي تعترض ذلك، ولاسيّما أن اجتماعاتٍ كثيرةً قد عقدت منذ التاريخ الافتراضي (العام2005) لاكتمال المنطقة، من أجل تذليلها من دون أيّ طائل، كما شُكّلت لجان لهذه الغاية من دون أن تتوصّل إلى أيّة نتيجة.
وعلى الرغم من مرور أكثر من15 عاماً على بدء تنفيذ منطقة التجارة الحرّة في العام 1998، لم تستطع الدول العربية أن تحقّق تقدّماً ملموساً في تكاملها الإقليمي التجاري، والذي من شأنه أن يشجّع على استقطاب رؤوس الأموال الدولية، وخصوصاً أن الأسواق الإقليمية المتكاملة تجارياً أصبحت اليوم نقطة استقطاب رئيسة للتدفّقات الاستثمارية الدولية.
وكذلك، على الرغم من التقدّم الذي أحرزته بعض الدول العربية في مجال بناء مزاياها التنافسية، فإن نصيب المنطقة العربية من إجمالي التجارة الدولية بقي هامشياً لأكثر من عشرين عاماً ليتراوح بين 2 و 3 في المائة في أحسن الأحوال.
وتتوقّع تقارير عدّة أن تشهد السنوات المقبلة مزيداً من التحوّلات في التجارة الدولية، فيما سيستمرّ العالم العربي بالسير عكس الاتجاه العالمي، ليبقى من أقلّ الأقاليم التجارية تكاملاً، وذلك في ظلّ استمرار تواضع القواعد الإنتاجية والتصديرية، وضعف كفاءة التجارة، مع العلم أن الحجم النسبي للتجارة العربية يُعتبر ضئيلاً جداً بالمقاييس العالمية، حيث يقلُّ إجمالي ما تصدِّره الدول العربية من السلع والمنتجات غير النفطية، عن صادرات دولة أوروبية واحدة مثل فرنسا، فيما التجارة البينيّة لا تزال في حدود 10 في المائة من إجمالي التجارة الخارجية.
المصدر: مؤسسة الفكر العربي