شبه بعض أنصار حكومة العدالة والتنمية الأهداف السياسية التي تسعى جماعة فتح الله كولن إلى جنيها من خلال أفرادها وتجمعاتها بالفوائد أو “الربا” الذي تجنيه البنوك من القروض التي تمنحها، فدون أن تتحمل البنوك مخاطر إقامة المشاريع، تقوم بتمويل أصحاب الأعمال ثم تتقاسم معهم الأرباح دون أن تتحمل عناء التنفيذ ولا مخاطر الفشل مستعينة في ذلك بما تمتلكه من سيولة نقدية. وتتهم جماعة فتح الله كولن بأنها دعمت حزب العدالة والتنمية على شرط أن يحقق لها أغراضا سياسية تريدها دون أن تتحمل عناء تأسيس حزب ودخول المشهد السياسي، مستعينة في ذلك بما تمتلكه من أفراد نافذين وجماعات ضاغطة.
وطيلة السنوات العشر الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، نجحت جماعة فتح الله كولن في تحقيق حلم زعيمها الذي تسبب في هروبه إلى خارج تركيا، والذي كشف عنه في سنة 1999 عبر تسجيل فيديو ظهر فيه كولن وهو يحدث أنصاره عن خطته لتغيير المجتمع التركي والنظام السياسي للجمهورية بشكل تدريجي وبطيئ دون إثارة انتباه أعداء هذاالمشروع، وذلك عبر تغلغل أفراد الجماعة داخل مؤسسات الدولة وتحولهم إلى أشخاص نافذين ومؤثرين.
وفي سنة 2002، عندما كان مؤسسوا حزب العدالة والتنمية يبحثون عن من يدعم حزبهم الجديد ويمنع سقوطه أمام نفس المآكد التي أطاحت بكل الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية المحافظة التي سبقت العدالة والتنمية، وجد فتح الله كولن في هذا الحزب القوة السياسية المناسبة لتنفيذ استراتيجيته دون أن يتورط في ممارسة السياسة، فقدمت جماعة كولن دعما اقتصاديا وإعلاميا للحزب وساندته عبر أذرعها داخل جهاز القضاء وباقي أجهزة الدولة، وفي المقابل قامت حكومة العدالة والتنمية بتسهيل تغلغل الجماعة بشكل أكبر داخل أجهزة الدولة ودعمت تجمعاتها الاقتصادية ومكنتها من الاستثمار في الدول الصديقة للحكومة.
وفي السنوات الأولى لحكم العدالة والتنمية، تعزز نفوذ جماعة كولن داخل وزارة الداخلية بشكل خاص وذلك من خلال مدارس الشرطة التي وقع جزء كبير منها تحت سيطرة أفراد محسوبين على الجماعة قاموا لسنوات بانتقاء الطلاب المؤيدين للجماعة وبتمكينهم من التخرج من هذه المدارس ومن التوجه إلى الوظائف التي يرغبون فيها والتي كانت بشكل عام داخل جهاز المخابرات الأكثر تأثيرا في جهاز الأمن الداخلي، وذلك حسب شهادات لأمنيين أتراك أدلوا بها لصحيفة الغارديان البريطانية، الأمر الذي جعلت الجماعة توصف بأنها أكثر نفوذا داخل وزارة الداخلية من الوزير نفسه.
وعبر التنسيق بين الأفراد التابعين للجماعة داخل جهاز المخابرات والشرطة والنيابة العامة والقضاء، تمكنت الجماعة من الإطاحة بكل من يعترض طريقها، مثل مدير الأمن “حنفي أفجي” الذي بدأ في إفشاء أسرار شبكة نفوذ الجماعة داخل وزارة الداخلية فلفقت له تهم جنائية وسجن بتهمة “الانتماء إلى تنظيم إرهابي يساري”، وكذلك قائد أركان الجيش السابق “إلكر باشبوغ” الذي يدعي الآن أن جماعة كلون لفقت له تهم بالتخطيط لانقلاب عسكري بعد أن قام هو بتسليم قائمة تضم أهم أسماء أفراد الجماعة الذين اخترقوا الأجهزة الأمنية.
وبالإضافة إلى نفوذها داخل أجهزة الأمن والقضاء، استخدمت الجماعة الإعلام كأداة ضغط لتمرير مشاريعها أو “ضرباتها” حسب اللفظ المستخدم في اللغة التركية، ففي سنة 2009 حركت الجماعة أذرعها الإعلامية والأمنية والقضائية والدعوية بشكل متوازي ومنظم للضغط على الدولة وإجبارها على التصادم مع إحدى الجماعات الإسلامية التركية المنتمية للطريقة النورسية (نفس الطريقة التي تنتمي لها جماعة فتح الله كولن)، والمسماة بجماعة “الملا محمد”، فبدأ فتح الله كولن بمهاجمة الجماعة ثم الوسائل الإعلامية التابعة له عبر نشرات إخبارية وبرامج حوارية ومسلسلات درامية روجت جميعها لأن جماعة “الملا أحمد” جماعة إرهابية متطرفة، ليتم في سنة 2010 إصدار أوامر باعتقال أبرز قيادات جماعة الملا محمد بما في ذلك “الملا محمد” نفسه، من قبل قضاة تحقيق محسوبين على جماعة كولن.
وبالإضافة إلى ما امتلكته الجماعة من أدوات ضغط داخل أجهزة الدولة وفي دنيا الإعلام والتي أغنتها عن تحمل أعباء ممارسة السياسة، اكتسبت الجماعة ثقلا كبيرا في دنيا المال والأعلام عبر استقطابها لرجال الأعمال وتجميعها لهم تحت مظلات جمعيات رجال الأعمال مثل جميعة “توسكون” التي تضم أكثر من 5000 عضو ما بين رجل أعمال ومؤسسة اقتصادية كلهم موالون للجماعة.
وقد نجحت الجماعة في إغراء رجال الأعمال عبر تمكينهم من الحصول على استثمارات داخلية ضخمة، وعبر تمكينهم من الاستثمار خارج تركيا عبر صفقات تحصل عليها الجماعة من الحكومات الصديقة لها في الخارج وخاصة في أفريقيا وفي دول القوقاز التي دخلتها الجماعة عبر مؤسساتها التعليمية وتحت غطاء تعليم اللغة التركية وتدريس الأتراك المقيمين هناك. ففي تسجيل مسرب لمكالمة هاتفية لفتح الله كولن مع أحد كبار مسؤولي الجماعة في تركيا، كان كولن المقيم في أمريكا يملي تعليمات بتوزيع الصفقات التي حصلت عليها الجماعة في دول أفريقية على رجال الأعمال الذين ترغب الجماعة في استقطابهم.
وقبل حدوث أزمة 17 ديسمبر التي تتهم الجماعة بالوقوف خلفها والتي استهدفت توريط شخصيات بارزة في المجتمع التركي معظمها مقرب من حكومة العدالة والتنمية، كانت جماعة كولن تلقب من قبل منتقديها بأنها الدولة العميقة الجديدة لتركيا وبأنها افتكت معظم أدوات الضغط ومكامن القوة من القوى الأكثر تأثيرا في تركيا طيلة العقود الماضية.
غير أن تصادمها مع حزب العدالة والتنمية وفشلها في الإطاحة به سواء عبر عمليتي 17 و25 ديسمبر أو عبر دعم الأحزاب المعارضة له في الانتخابات البلدية والرئاسية الماضية، جعلها تفقد جزءا كبيرا من نفوذها وجعلها مهددة بفقدان من تبقى في حال استقر الحكم لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية التي ستقام خلال أشهر.
هذا المقال هو الثاني من ضمن ملف “جماعات الضغط” على نون بوست.