ترجمة وتحرير نون بوست.
بعد عام من الهجمات الوحشية على المتظاهرين المناهضين للحكومة والاقتتال بين الفصائل داخل الجيش، وانهيار الحكومة، جاء 27 فبراير 2012، فدخل عبد ربه منصور هادي، النائب الصوري للرئيس علي عبد الله صالح الذي لم يتمتع بأي مسؤولية حقيقية منذ ما يقرب عقدين من الزمن، إلى قاعة كبيرة تعج بالبرلمانيين اليمنيين والمسؤولين الأجانب والصحفيين. وكان يبدو قوياً وصارم الوجه وعيناه متسمرتان للأمام بنظرة شبه ميتة، حتى بدا وكأنه يتفهم خطورة المهمة التي كُلّف بها، فرفع يده في الهواء، وردد القسم فوق القرآن الكريم، وأصبح الرئيس عبد ربه منصور هادي رئيس الجمهورية اليمنية.
ولكن فقط في الأسبوع الماضي، انتهت ولاية الرئيس هادي بعد قيام حركة أنصار الله الحوثية، التي احتل أنصارها العاصمة اليمنية صنعاء منذ سبتمبر الماضي، بإجباره على تقديم الاستقالة، وخرج بعدها المتظاهرون يوم السبت إلى شوارع المدينة للتعبير عن معارضة السيطرة الحوثية، ولكن بالعودة إلى فبراير في اليوم الذي تولى فيه هادي اليمن بعد أدائه اليمين، بدا لنا وللحظة وجيزة بأن اليمن مقدم على مرحلة غنية بالتغييرات الإيجابية، أو على أقل تقدير، مقدم على مرحلة من الراحة الشعبية خاصة بعد سير الأمور في حفل التنصيب بشكل سلس.
في ذلك اليوم تكللت جهود السفراء الأجانب والمسؤولين اليمنيين الذين عملوا بلا هوادة للخروج بصيغة اتفاق تضع حداً لمسيرة 33 عاماً من حكم الديكتاتور علي عبد الله صالح، وكان أعضاء البرلمان يبتسمون ويقبّلون بعضهم على الخد فرحا بانتهاء الحقبة الطويلة. أما الصحفيون فقد تعبوا من شدة الإثارة، وملامح الفرحة بدت على وجوههم وهم يرون أحد أهداف الثورة المتمثل في إسقاط صالح قد تحقق فعلاً.
ولكن على الجهة المقابلة كانت الفئة الوحيدة التي لم تشارك في هذا الجو الغامر من البهجة هم مقربو الرئيس السابق صالح من كتلته الموالية داخل البرلمان، والذين أصبحوا أثرياء بفضل فساد النظام السابق. كما أن هذا الحفل لم يحضره ممثل عن الحوثيين، الذين كانوا حينها يسيطرون على شمال اليمن، ويوطدون سلطتهم بعيداً عن أعين العاصمة.
لم يفكر أحد حينها بأن الأمور من الممكن أن تؤول لما وصلت إليه الآن، قليل من الأشخاص أشاروا إلى انعدام خبرة هادي القيادية أو غياب الدعم الشعبي الذي يسانده، ولكن لم يتم إفراد مقالات مخصصة عن هذا الموضوع، وبدلاً من ذلك، اتجهت الصحافة لرصد رأي البرلمانيين والمسؤولين حول هذا اليوم الذي تم فيه قطف ثمار الربيع العربي الذي بدأ في اليمن في عام 2011.
كانت التساؤلات تدور حينها عمّا سيحدث بعد تعيين الرئيس هادي؛ فاتفاق نقل السلطة الذي وضع هادي على سدة الحكم والمعروف باسم مبادرة الخليج، كان غامضاً، حيث كان يتألف في معظمه من عناوين برّاقة مثل إعادة هيكلة القوات المسلحة، والتي كانت مقسّمة بين أنصار صالح وأنصار المعارضة (وحينها لم تشمل المبادرة دمج الميليشيات الحوثية في الجيش اليمني)، ووضع مسودة لدستور جديد للبلاد من خلال حوار وطني شامل يجمع كافة فئات الشعب لحل الخلافات الاجتماعية والسياسية في البلاد، ولكن مبادرة الخليج حينها لم تحدد الإطار العملي الذي سيتم من خلاله تنفيذ هذه الوعود، وذلك على الرغم من أن هذه الصفقة التي توسطت فيها مجموعة من الحكومات الغربية والأمم المتحدة ودول الخليج العربي، كانت توصف على أنها الأمل الوحيد المتبقي لمستقبل اليمن.
أمام هذه الأسئلة السابقة كان ينبغي علينا جميعاً أن نتوقع ما ستؤول إليه الأمور؛ فبعد ثلاث سنوات من اجتماع القسَم، اقتحم الحوثيون العاصمة، واشتبكوا مع عدد قليل من الجنود الموالين للرئيس هادي، وحاصروا وقصفوا منزل الرئيس.
واليمن التي أصبحت بلادا مقسمة بدون رئيس، هي أكثر يأساً مما كانت عليه قبل استقالة صالح، ومع زيادة الاحتقان الطائفي بين أنصار الحوثي الشيعة وخصومهم من السنة، أصبح تهديد الحرب الأهلية اليمنية يلوح في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى، وانعدام الرؤية المستقبلية هو المسيطر على المشهد اليمني من شماله إلى جنوبه.
أصبح من الواضح الآن أن تركيز حكومة هادي على تنفيذ أحكام مبادرة الخليج المبهمة منعها من الحؤول دون الانهيار التدريجي للبلاد، هذا ما عبّر عنه المحلل والناشط السياسي المعارض اليمني عبد الغني الإرياني بقوله “الحوثيون كانوا يتقدمون ولم يكن أحد مهتماً بذلك”.
منذ عهد صالح لم تكن الحكومة المركزية في اليمن قوية، كما أنها لم تمارس مهامها بالسيطرة الكاملة على البلاد، وبدلاً من ذلك عمل شيوخ وزعماء القبائل على تعويض هذا الفراغ الحكومي، وحكموا مناطقهم من خلال تحكيم النزاعات، وتوفير الخدمات الأساسية مثل المياه، وإنفاذ القانون العرفي، أما بالنسبة لصالح فقد استطاع السيطرة على الأمة من خلال تأليب المشايخ الذين يمكنهم تهديد سلطته ضد بعضهم البعض، في حين عمل على تكوين التحالفات مع الزعماء المحليين من خلال نظام رعاية حكومية معقد، وعلى مدى عقود، استطاع صالح بعبقريته البقاء في السلطة، على الرغم من أن أسلوبه في الحكم لم يتناول مشاكل اليمن الأساسية، حيث لم يستطع إيجاد حلول للفقر أو للصراعات على الموارد المائية، كما أنه لم يعمد لتوفير الخدمات الأساسية والتعليم بشكل ملائم ضمن اليمن، هذه الأوضاع سببت استياء شعبي تمثّل في كثير من الأحيان بشكل عنيف حتى قبل بدء ثورة الربيع العربي، وحينها كان المحللون يصفون اليمن على أنها ستتحول لـ “أفغانستان الجديدة”، وتم تصنيفها أكثر من مرة على أنها على حافة الفوضى.
هذه الأوضاع التي كانت تعيشها اليمن في عهد صالح أدت إلى تشكّل حركة الحوثيين، التي شاركت في حروب متكررة مع القوات الحكومية منذ عام 2004، حيث كانت الميليشات التابعة للحوثي تتجمع في صعدة، وهي مقاطعة في شمال اليمن، وعرفت حركتهم باسم الصحوة الشيعية، وفي تلك الفترة زعم الرئيس صالح أن الحوثيين يسعون لاسقاط نظامه لاستعادة الإمامة الشيعية، التي حكمت سابقاً أجزاء من البلاد لعدة قرون، ولكن في الواقع ومنذ تلك الفترة كانت أهداف الحوثيين السياسية دائماً غامضة، وبقيت سياسة الغموض تحكم تحركاتهم حتى الآن؛ فحالياً يبدو أن الهدف الواضح الوحيد من خلف سيطرتهم على صنعاء هو منع هادي من إنشاء نظام فيدرالي قادر على تهديد مصالحهم وسلطتهم.
وعلى الرغم من قوة الحوثيين المتصاعدة في فترة ما قبل الربيع اليمني، إلا أنهم لم يكونوا خلف إشعال فتيل الثورة التي أدت للإطاحة بصالح، كون المدن اليمنية شهدت عشرات الآلاف من المتظاهرين الشباب الذين طالبوا بتنحي صالح عن السلطة، وتأزمت الأمور حينها عندما عمد صالح إلى قتل المتظاهرين العزّل؛ مما أدى لخسارته للكثير من حلفائه، ووسط الانهيار التدريجي لسلطة صالح، عمد الحوثيون إلى السيطرة على مناطق واسعة في شمال البلاد، في حين توسعت القاعدة ممثلة بتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية في المحافظات الجنوبية من اليمن، هذه الأوضاع المتأزمة دفعت المسؤولين اليمنيين والسفراء الغربيين للخروج بخطة انتقال تتضمن تنحي صالح عن الحكم لصالح نائبه هادي، ولكن عرقلة صالح لهذه الخطة لأكثر من مرة، أدت إلى مد عمر عملية الانتقال السياسي لأشهر؛ مما أدى إلى تزايد العنف في البلاد وتوالي الانشقاقات في أعلى المستويات الحكومية، ودخول اليمن في حالة من الفشل والاضطراب الاقتصادي، وعملياً شكّل تكاتف هذه الأوضاع ما يسمى بـ”وضع الدولة الفاشلة”.
ضمن هذه الأحوال البائسة والمتوترة انتقلت السلطة إلى هادي، والذي اصطدم بصخرة الرئاسة بخبرته الضعيفة، وأشار السفير الأمريكي السابق في اليمن جيرالد فايرستاين عند صياغة اتفاق انتقال السلطة “هادي أعرب عن تردده في استلام الرئاسة، ولكنه الآن أكثر تقبلاً للموقف، كما أن الأحزاب السياسية احتشدت حوله وانفتحت له”، وأضاف “أعتقد أن هناك تفاهم على أن هادي لديه قيود كزعيم سياسي، ولكن الخصائص الإيجابية لشخصيته المتمثلة بوقوفه على الحياد من كافة الأطراف تفوقت على هذه القيود، كون هذه الخصائص لا ترجح استبداده في الحكم بالشكل الذي استبد به سلفه”.
خلال السنوات القليلة التي قضاها هادي في رئاسة اليمن، كانت عواقب الأزمات التي أججتها ثورة الربيع العربي تزداد؛ فالحوثيون بدؤوا بالزحف من الشمال إلى الجنوب نحو العاصمة بشكل تدريجي، وصاعد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من هجماته على الحكومة، في حين مارس السياسيون مناورات خفية للاستفادة من الفراغ السلطوي الذي خلّفه صالح ولم يتمكن هادي من شغله.
قبل أقل من سنتين، وقف جمال بن عمر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى اليمن، أمام مجلس الأمن مشيداً بالنموذج اليمني، على أنه النموذج الوحيد الذي يمثل الانتقال السلمي للسلطة بين البلدان المتضررة من احتجاجات الربيع العربي، كما أثنى على “التقدم الاستثنائي” للحوار الوطني اليمني، ولكن الأحداث التي كانت تدور خلف هذه الشعارات البرّاقة كانت مختلفة، حيث كتبت الصحافة اليمنية عن الصراع الذي ينذر بالخطر بين الحوثيين والقبائل الشمالية، كما كشفت في أكثر من موضع عن تصاعد مطالب الاستقلال من قبل الحركة الانفصالية في الجنوب.
في الأسبوع الماضي، وقبل استقالة هادي بعيد قصف الحوثيين لمنزله، اتهم الزعيم الحوثي عبد الملك الحوثي، الرئيس هادي بأنه يعمل على خدمة مصالح المجتمع الدولي بدلاً من خدمة مصالح البلاد، وفي الواقع يتضمن هذا الاتهام وجهاً من الحقيقة؛ فالشعب اليمني يدرك بأن هادي ألعوبة بيد الغرب، وعلى الأرض تم تأسيس حركات لمعاداة الولايات المتحدة نالت الكثير من الشعبية في الفترة الأخيرة، كون المواطن اليمني كان يرى في سياسات رئيسه ارتهاناً للمصالح الغربية، ولكن احتجاجات يوم السبت وضحت بأن العديد من اليمنيين يعارضون الميليشيات الحوثية أيضاً، وهذا الموقف يمهد الاحتمالات أمام اندلاع حرب أهلية يمنية.
على صعيد آخر لم تغيّر استقالة هادي من تفاصيل الحياة اليومية لليمنيين، الذين اعتادوا بالفعل على العيش في حالة من الفوضى السياسية في ظل حكومة بالكاد تلعب دوراً في حياتهم، الرئيس هادي لم يكن لديه أي سلطة من الأساس ليباشر بإدارة البلاد، ولكن استقالته تبقي الأبواب مشرّعة أمام الأزمات التي يمكن أن تعصف باليمن الذي يأوي أحد أخطر أجنحة تنظيم القاعدة، في قلب منطقة مضطربة، والتي أصبحت الآن بلا رئيس وبلا حكومة.
المصدر : ذي أتلانتيك