أشهر مضت على تونُس منذ انتخاب مجلس نوّاب شعبها الذي يٌفرز حكومتها وفق شروط الدّستور وفرضه، أشهر انتظر فيها الجميع نتيجة أوّل امتحان سياسي لحزب الأكثريّة البرلمانيّة، نداء تونس، المكلّف بتشكيلها حتّى تُطبّق برنامجه الانتخابي، أو على الأقل جزء منه متى كان الحكم ائتلافيّا.
تأخّر تشكيل الحكومة وتأخّر انطلاق المشاورات حولها برّره حزب الرّئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، بأنّه وقتها، أي اثر الانتخابات التّشريعيّة، مهتمّ بسياق الانتخابات الرّئاسيّة وتأجل الخوض في المسألة إلى أسابيع مضت لينطلق العدّ التّنازلي يوم 5 يناير/كانون الثّاني، تاريخ تكليف الحبيب الصّيد بتشكيل الحكومة من طرف الرّئيس بعد اقتراحه من الحزب الأغلبي.
مسار شاقّ وطويل من المُفاوضات انتهى يوم الجُمعة المُنقضي بإعلان الصّيد عن تركيبة حكومته التي سيُقدّمها لمجلس نوّاب الشّعب لتزكيتها.
حكومة الانقلاب على السياق التّوافقي
هذا كان رأي حركة النّهضة في التّشكيلة التي قدّمها الحبيب الصّيد، إذ صادق مجلس شوراها يوم الأحد في دورته الخامسة والثّلاثين على قرار عدم تزكية كتلتها لها، واجتمعت تصريحات قيادييها في وسائل الإعلام العامّة والخاصّة على أنّ قرار مجلس الشّورى لم ينبن على مسألة تواجد الحركة فيها أم لا، وأن التوافق هو شعار حركة النّهضة اليوم وغدا لأنّه ينبني على رؤية استراتيجيّة لحاجيّات البلاد المُنهك اقتصادها والقلق شعبها وليس مبنيّا على نزوة مزاجيّة أو نفسيّة، وما رفضُ النّهضة لهذه الحكومة إلّا لأنّها خرجت من إطار التّوافق ويتحمّل حزب الأغلبيّة مسؤوليّة خطّه السياسي الذي أفضى إلى حكومة قاعدتها السياسية ضعيفة وهو ما سيجعلُها عرضة للابتزاز، أي أن حركة النّهضة برفضها تزكية حكومة الحبيب الصّيد هي في الحقيقة تُعلن رفضها للانقلاب على استراتيجية التوافق التي لن يكون ممكنا خلاص البلاد بدونها.
سمير ديلو، عضو المكتب التنفيذي لحركة النّهضة والوزير السّابق، أكّد على أن هذه الحكومة بهذه الوصفات هي غير قادرة على خوض الإصلاحات الضرورية، كما أنه لا يمكن وصف ما قام به الحبيب الصيد بالمشاورات لأن أكثر الأسماء تم اكتشافها يوم الإعلان عن التشكيلة، وعلى هذا الأساس قرّرت حركة النهضة عدم منحها الثقة وليس لعدم وجودها في الحكومة، كما قال بأن النهضة اقترحت أسماء سياسيين وخبراء على الصيد إلا أنه لم يتم اختيار أي منها، وإلى غاية ليلة الإعلان عن التشكيلة كانت هناك أسماء أخرى على رأس الوزارات إلا أنه وقع تغييرها بشكل مفاجئ.
من جهته صرّح نور الدّين البحيري، رئيس المكتب السياسي لحركة النّهضة ورئيس كتلتها في مجلس نواب الشّعب ووزير العدل السّابق، في برنامج أذاعي بأن حكومة الحبيب الصيد لم تستجب لدعوات الوحدة الوطنية التي أطلقتها الأطراف السياسية ومكونات المجتمع المدني وبأن المشاورات التي وقعت مع رئيس الحكومة المكلف لم تأخذ بتاتا بعين الاعتبار الحد الأدنى من التوافقات وزادت في تقسيم التونسيين حسب الجهات وأيضا لا تلبي حسب برنامجها انتظارات المواطنين واستحقاقات الثورة وأن هذه الحكومة مخيبة للآمال وكأنها طلبت منا أن نصوّت ضدها، وأن برنامج حكومة الصيد يفتقد إلى أدنى مقومات برنامج للنهوض بتونس، ذلك أنه يغيب عليه إستراتيجية واضحة لمكافحة الإرهاب والتمييز الايجابي بين الجهات والتنمية في الجهات ومراجعة الدعم.
حكومة بعض وزرائها تحوم حولهم شبهات فساد
هذا ما عبّر عنه حزب التّيّار الدّيمقراطي (يسار الوسط) الذي أعلن نفسه مُعارضا مُنذ يوم الإعلان على نتائج الانتخابات، إذ أعلن أمينه العام، محمد عبو، في اجتماع لحزبه يوم الأحد في مدينة القيروان (مدينة في الوسط التونسي) بأنّ الحزب سيصوت ضد حكومة الحبيب الصيد باعتبارها تضم وزراء فيهم من هو “مقبول وكفء ولا تحوم شبهات حوله. لكن فيهم من هو موضع شبهات جدية وفيهم من عنده فتحت في حقه تحقيقات قضائية”، مضيفا: “ندعوه لفض إشكاله مع القضاء أولا قبل أن يصبح وزيرا وهذا في اعتقادي ملتزم به السيد رئيس الحكومة المكلف الذي صرح به وقال بانه في صورة وجود وزارء تحوم حولهم شبهات فانه لا يقع استدعاؤهم للحكومة” على حدّ تعبيره.
وأضاف عبو أن هناك من الوزارء من لديه قضية جارية منذ سنة 2011 وستتواصل معه تلك القضية لتثبت أنه لم يقدر وقتها على إدارة وزارته لذلك تورط في شبهة ولا فائدة من اعادته كوزير.
وأشار محمد عبو من ناحية أخرى إلى أن هناك وزيرا في التشكيلة الجديدة كان ينكل بالقضاة الشرفاء ملاحظا أن “المنطق السليم أن يمر بالعدالة الانتقالية ويدخل في موضوع تطهير القضاء وليس أن يصبح وزيرا دفعة واحدة، وهذه من الأخطاء الكبيرة التي يجب أن يحترموا فيها الثورة وألا تغرّهم نتائج الانتخابات، ولذلك من الافضل أن يقع التثبت في اختيار الوزراء وفق تعبيره”.
حكومة بلا برنامج وبلا رؤية
أعلنت الجبهة الشعبية(أقصى اليسار شيوعيون + قوميون) أمس، إثر اجتماع مجلس أمنائها، عن رفضها منح الثقة لحكومة الحبيب الصيد وقد بنت موقفها استنادا إلى جملة من العوامل منها عدم استشارتها حول التشكيلة لا سيما فيما يتعلق بوزارات السيادة إضافة إلى تحفظ الجبهة على عدد من أسماء الوزراء التي تعتبرهم رموزا من النظام السابق إضافة إلى أن بعضها ملاحق قضائيا.
حمّه الهمّامي، النّاطق الرّسمي باسم الجبهة الشّعبية قال إن برنامج حكومة الحبيب الصيد لايمكنه إحداث تغيير في تونس باستثناء ما قدم حول الملف الأمني، متابعا أن التشكيلة الحكومية الحالية تعد ضعيفة وشملت أسماء تحوم حولها شبهات وتعلقت بها قضايا.
من جهته، أعلن حزب آفاق تونس (ليبرالي)، عبر بيان أصدره يوم أمس الاثنين أنّه قرّر عدم التّصويت لحكومة الحبيب الصّيد التي كان مُقرّرا عرضها على مجلس نوّاب الشّعب اليوم، وقال ياسين ابراهيم، المدير التنفيذي للحزب والنائب في البرلمان “لن نمنح ثقتنا لحكومة الحبيب الصيد لأن تركيبتها لا تتلائم وطبيعة المرحلة السياسية الراهنة ولأن برامجها لا تتضمن أي إصلاحات كبرى”.
حكومة التناقضات
لأوّل مرّة تقريبا منذ انتخابات 23 أكتوبر، تلتقي حركة النّهضة والجبهة الشّعبية على رأي واحد، وهي حكومة التناقضات لأنّها لا تحظى حتّى بثقة بعض نوّاب الحزب الذي أشرف على تشكيلها، اذ صرّح الكاتب العام لمكتب نداء تونس بالخارج أسامة الخليفي بأن “الحكومة المقترحة لا ترتقي إلى صفة حكومة وحدة وطنية ولا حكومة سياسية ولا حتى حكومة كفاءات، والصيد قد خضع في تشكيلها إلى ضغط من أطراف ذات ايديولوجيا معينة همها الوحيد هو إبعاد الشخصيات الدستورية والمستقلين والاستفراد بالرأي”.
كما قال النائب عن نداء تونس عبد العزيز القطي بأن كتلة النداء تعتبر أن الحكومة التي تم تشكيلها لا ترتقي إلى تطلعات ولا إلى طموحات الشعب التونسي وهناك عدد معين من النواب يعتبر أنه لا يمكن تمرير هذه الحكومة التي لا لون لها وستكون حكومة ضعيفة.
حكومة آيلة للسقوط
تزامن هذه الرّدود السّلبية على تشكيلة الحكومة التي كان منتظرا أن تُعرض اليوم الثلاثاء على مجلس نوّاب الشّعب، دفعت الحبيب الصّيد إلى استئناف المشاورات من جديد مع عدد من الأحزاب كالجبهة الشّعبية وآفاق تونس وحركة النّهضة والمبادرة الدّستوريّة بالاضافة إلى تأجيل موعد عرض حكومته على مجلس النواب وهو ما تمّ عبر تصنّع مشكل في علاقة بالقانون الدّاخلي للمجلس واعتبار أنّه لا يمكن مناقشة الحكومة المقدّمة والتصويت عليها دون الاتفاق على تعريف “المعارضة” وفعلا تم تأجيل النّظر في ملفها إلى يوم الخميس أو الجمعة.
قد يتمكّن الحبيب الصّيد من كسب بعض الأصوات من خلال هذه المفاوضات خاصّة وأنّه عبّر عن استعداده لإجراء بعض التّعديلات، كما صرّح بذلك راشد الغنوشي وحمة الهمامي وياسين ابراهيم إثر لقائهم به عشيّة أمس، إلا أنّ الطّريقة والفلسفة التي حيكت بها تجعلنا إزاء جنين مُشوّه، قد تمرّ من امتحان تزكية نصف البرلمان لكنّها قد لا تصمُد أمام ما ينتظرها من ملفّات ثقيلة لا يُمكن أن تعالج سوى بالتوافق الوطني.